في صمت مريب، وتجاهل غريب مرت علينا مئوية واحد من أنبل وأخلص وأشجع زعماء مصر في العصر الحديث ! أتحدث عن الزعيم «أحمد عرابي» قائد ومفجر الانتفاضة المصرية العظيمة والرائدة والتي أصبحت تعرف باسم «ثورة عرابي» أو «الثورة العرابية»، والذي حلت ذكري وفاته المائة يوم 22 سبتمبر، حيث انتقل إلي رحاب ربه في مثل هذا اليوم من عام 1911 من القرن الماضي ! مات «أحمد عرابي» حزينا، مهزوما، مكسور الوجدان وهو يقرأ ويسمع أبشع الاتهامات تطاله من أقرب الناس إليه ومن رجال سياسة وفكر وأدب كانت «الأمة» تسمع لهم وتصدق ما يقال لهم ! لقد كان «عرابي» أول مواطن مصري في العصر الحديث يتحدي الحاكم ويقف أمامه ويقول له «لا»!! كان الحاكم أيامها هو الخديوي «محمد توفيق»، لقد ذهب عرابي «إلي ميدان عابدين ومعه نحو ثلاثين ضابطا وسيوفهم مسلولة بأيديهم وعرابي يتقدمهم ممتطيا حصانه وسيفه بيده، وطالبه الخديو بأن يترجل ويغمد سيفه فاستجاب عرابي، وطلب الخديو من الجنود الانصراف لكنهم رفضوا !! كان ميدان عابدين قد امتلأ بآلاف المواطنين، كما صعد الآلاف إلي أسطح البيوت ليشهدوا ذلك الحدث الفريد: الضابط الوطني يعرض طلباته والخديو يسمع !! ودارت أخطر وأعظم مناقشة في تاريخ مصر بين الحاكم والمحكوم ! الخديوي توفيق يسأل عرابي عن أسباب حضوره بالجيش إلي عابدين! أجاب عرابي: جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الأمة والجيش وكلها طلبات عادلة ! وسأل الخديوي توفيق بشيء من السخرية : وما هي هذه الطلبات ؟! رد «عرابي» بكل الثقة : إسقاط الوزارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب علي النسق الأوروبي، وزيادة عدد الجيش إلي القدر المعين في الفرمانات السلطانية، والتصديق علي القوانين العسكرية السابق أمركم بوضعها. قال الخديو باستخفاف لا حدود له: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا. ورد عرابي قائلا بكل شجاعة علي ما سمعه: نحن خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا فوالله الذي لا إله إلا هو إننا لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم. بهت الخديو ومن معه وتراجع إلي الخلف وكلف المستر «كلفن» بالتحدث مع العرابيين، وتم بالفعل عزل وزارة رياض باشا، وتعيين «شريف باشا» رئيسا للنظار «الوزراء» بناء علي طلب العرابيين! جري ذلك كله يوم الجمعة الموافق 9 سبتمبر عام 1881 «الذي اختير فيما بعد عيدا للفلاح». -- وطوال عام كامل راحت الأمة بزعامة «عرابي» تحقق المكسب تلو المكسب والانتصار تلو الانتصار وعلي رأس ذلك كله تشكيل المجلس النيابي علي شكل جمعية تأسيسية وعرضت عليه مواد الدستور التي تتضمن مسئولية الوزارة أمام البرلمان !! ولم تتوقف المؤامرات علي عرابي، وجاءت الخيانة أو كما قال الناس «الولس هزم عرابي»، وتم تدبير مذبحة الإسكندرية تحت رعاية وإشراف الخديو نفسه ، ثم تم الاحتلال في 14 سبتمبر من عام .1882 وجري ما جري وحوكم عرابي ومن معه، وامتلأت السجون بكل من ناصر وأيد عرابي حتي بلغ عدد المقبوض عليهم حوالي ثلاثين ألفا من المصريين ! وقضت المحكمة بقتل عرابي، ثم أمر الخديو باستبدال عقوبة القتل بالنفي المؤبد من جميع الأراضي المصرية وملحقاتها، فإذا عاد إليها ينفذ فيه حكم الإعدام. جري ذلك يوم 3 ديسمبر، وبعدما صدر الحكم يوم 14 ديسمبر بتجريد «عرابي» من رتبه وأملاكه وتصفيتها وجعل ثمنها تعويضا للمصابين في الحوادث التي وقعت خلال الثورة، وأن يعين له في مقابل ذلك راتب سنوي يكفي لمعيشته هو وأسرته !!! ثم بدأت رحلة المنفي لعرابي وأسرته: زوجته السيدة كلفدان وزوجة ابنه محمد وجارية اسمها «فرح»، ومكث عرابي ومن معه في المنفي 19 سنة ! حتي عاد إلي السويس يوم 27 سبتمبر 1901 ورفض محافظ السويس «مصطفي بك ماهر» استقباله !! -- ولم تغب مصر لحظة واحدة عن بال وعقل «أحمد عرابي» ابنها البار، كان «عرابي» مسكونا بمصر سواء في فترة سجنه أثناء المحاكمة أو في سنوات المنفي في جزيرة «سيلان»! في السجن راح عرابي يفكر في أحوال البلد سياسيا واقتصاديا وانتهي إلي كتابة بيان عن إصلاح أحوال مصر بتاريخ 25 نوفمبر 1882 وأرسله إلي مدير جريدة «التايمز» الإنجليزية التي رحبت بنشره !! في مقدمة البيان يقول «عرابي»: إني وإن كنت مسجونا في سجن أعدائي فلا أبالي بما أنا فيه من الإهانة ولا بما سيحدث بعد ذلك فإني جعلت نفسي وقفا علي تحرير بلادي من أجل ذلك، فلا يهمني إلا سعادتها وإنقاذها من جب الأفاعي القتالة الكثيرة الأنواع. ثم يضيف : ومن أجل أن يكون الدواء قاطعا للداء، قد شخصت المرض المصري ليسهل علي الطبيب تعيين الدواء، وحيث إن الأمة الإنجليزية أخذت علي نفسها النظر في أمر إصلاح مصر علي ما في ذلك من عظم المسئولية أمام العالم المتمدن، وأمام تاريخ هذا الجيل الكثير الانتقاد كان علي حكماء هذه الأمة الحريصة علي شرفها التعاون علي انتقاء الدواء النافع بالأمانة ليكون أقوي تأثيرا في قطع الداء، وبما أني خبير بما يصلح بلادي، حريص علي سعادتها فأعرض أفكاري في شأن ذلك علي نصراء الحق بإنجلترا والتدبر فيها. هذه الرؤية الإصلاحية للزعيم «أحمد عرابي» لم يلتفت لها الكثيرون ممن كتبوا عنه، لكن كبير المحامين البريطانيين «م.م. برودلي» انتبه لها ولأهميتها وعرضها بالكامل ضمن كتابه المهم والرائع «كيف دافعنا عن عرابي وصحبه» والذي صدر عام 1884 ولم تظهر ترجمته العربية إلا عام 1987 علي يد المترجم القدير الأستاذ «عبدالحميد سليم». وحسب ما جاء في كتاب «برودلي» (418 صفحة) فقد كانت رؤية عرابي كالتالي: أولاً: يجب أن يكون حاكم البلاد منها عالمًا بأحوالها، محبوبًا عند أهلها محبة حقيقية، ولم يكن من الذين سبقت لهم مشاركة الخديو السابق في مظالمه، وأن يكون موقرًا مهنيًا ذا خبرة بتنفيذ القانون لا بالغدر والخيانة، ولم يتدنس بارتكاب أمور سابقة «أوجبت انحطاطه من قلوب الأهالي واحتقارهم لمنزلته»، ولا أري في الحالة الراهنة أوفق من «إبراهيم باشا» نجل الخديو السابق. ثانيًا: تكون حكومة البلاد مقيدة لها مجلس نظار «وزراء» يسأل كل ناظر منهم عن الأعمال المختصة بنظارته أمام هيئة ذلك المجلس، ويسأل جميعهم أمام الدولة التي تريد أن تضع الأساس للحكومة إلي مدة ستتعين فيما يأتي. ثالثاً: يتشكل مجلس نواب ومجلس شيوخ تعرض عليهما جميع اللوائح والقوانين وتعطي لأعضائهما الحرية التامة في المداولة، ويكون انتخابهما حرا كما في البلاد المتمدنة، وإنما يكون لهما حق إبداء آرائهما وإعطاء القرار، ولا يلزم الحكومة العمل بما يقرره المجلسان ويكون ذلك إلي مدة خمس سنين. ويشير عرابي بشأن هذه النقطة الثالثة إلي أن المجلس التشريعي يتكون من ستة وعشرين عضوا منهم اثنا عشر يعينهم الخديو بعد استشارة نظاره «وزرائه» وستة عشر تنتخبهم مجالس المديريات. أما الجمعية العمومية فتتكون من ثمانين عضوًا: ثمانية من النظار «الوزراء» وستة وعشرون أعضاء المجلس التشريعي وستة وأربعون عضوًا ينتخبهم ممثلو القري. كما اقترح أيضا أن يكون هناك ثمانية من النظار مسئولين أمام الخديو. وفي ملاحظة غاية في الدلالة والأهمية وتتعلق بسمو الخديو يقول: «وقد يكون هناك اعتراض علي أن الجهاز السابق لا يجسد بالفعل المبدأ البرلماني بمعني الكلمة، لأن كلا من المجلس التشريعي والجمعية العمومية استشاريان أكثر منهما جهازي وضع قوانين، ولكن قلة من الناس سيكونون علي استعداد للالتزام بأن مصر لم تنضج بعد لتكون لها حكومة شعبية بحتة»! وبعد ذلك الإيضاح ينتقل «عرابي» إلي النقطة الرابعة فيقول: رابعا: حيث إنه في المدة المذكورة يكون اقتدار الأهالي علي النظر في مصالحهم قد علم لدي العالم، حيث إن مجادلاتهم تكون علنية ونشرت في الجرايد عربية وأفرنكية تعطي للمجلس حقوقا بعد تلك المدة علي حسب الاستعداد الذي ظهر في تلك المدة وعند ذلك يكون النظار مسئولين أمام ذلك المجلس. خامسًا: يجب أن توضع قوانين أساسية تتحدد بها سلطة الحاكم وخصائصه وسلطة النظار ويبين فيها أن كل أمر صدر من الحاكم بدون إقرار نظاره أو استشارة الناظر «رئيس الوزراء» الذي يختص بنظارته ذلك الأمر فهو لاغٍ وعلي ذلك لا تجوز مخابرة «مخاطبة» الحاكم مع نواب الدول أو نفس الدول إلا بواسطة ناظر الخارجية في أي أمر كان. سادسًا: يجب أن توضع قاعدة المساواة بين سكان القطر المصري عموماً لا يفرق فيها بين أجنبي ووطني في جميع المعاملات وفرض الضرائب والرسوم وغير ذلك. سابعًا: يجب أن توحد القوانين في جميع محاكم القطر المصري وتسن قوانين عادلة توافق أخلاق البلاد وطباعهم ويراعي تنفيذ تلك القوانين بغاية الدقة بدون تداخل ذوي السلطة في تأويلها واستعمالهم الطرق القديمة في مراعاتها ظاهرًا وعدمها في الحقيقة. ثامناً: ينظر في أمر توسيع دائرة المعارف وانتشارها في عموم البلاد بطريقة منتظمة، وإصلاح طرق التعليم والتعلم فيها، مع البدء بتعميم العلم بالقوانين التي توضع أو تم وضعها ليكثر في البلاد عدد المستعدين للحكم والقضاء. تاسعًا: يجب أن يرفت من لا لزوم له من الأوروباويين ويكتفي منهم بقدر الضرورة مع مراعاة حالية مالية البلاد في رواتبهم، والمناسبة بينها وبين مرتبات الوطنيين حتي لا تقع المنافسة والمنافرة لسبب الامتياز الفاحش. عاشرًا: يجب ألا يحرم الوطنيون من الوظائف أيا كانت عالية أو دانية مادام الاستعداد موجودًا، ومن رفت من الذين لا ذنب لهم سوي دعوي تداخلهم في الحوادث الأخيرة يكونون كغيرهم يدخلون الوظائف علي حسب استعدادهم. حادي عشر: تنظر طريقة في وضع حد للرباويين «يقصد من يتعاملون بالربا» لمنعهم عن استعمال الغش وإدخاله علي الأهالي لسلب أموالهم وإيقاف الفلاحين عند حد في الأخذ بالربا. ثاني عشر: يكون إجراء جميع ما تقدم تحت ملاحظة وإرشاد أمناء من دولة الإنجليز إلي مدة معينة يمكن بها ظهور الإصلاح واقتدار الأهالي علي أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. وأخيرًا يقول «أحمد عرابي»: هذه الإصلاحات إذا صار مراعاتها في مصر بغاية الدقة تكون حقيقة قد اكتسبت الأمة المصرية نجاتها من أمراضها المزمنة العضالة بحكمة الحكماء الأمناء، وجودة الدواء وتكون إنكلترا قد أدت واجباتها بكمال الشرف. 25 نوفمبر 1882 توقيع «أحمد عرابي المصري». -- كان من الطبيعي أن ينشر «عرابي» بيانه السابق في الصحافة الأجنبية بعد أن تسابقت الصحافة في مصر بإيعاز من الخديو ورجاله إلي مهاجمته وسبه والحط من شأنه، بل إن الزعيم المصري الشاب مصطفي كامل راح يهاجمه بقسوة علي صفحات جريدته «اللواء» وأطلق علي ما قام به عرابي اسم «الفتنة العرابية» كما اتهمه بالجبن والضعف والتعمد في إدخال الاحتلال إلي مصر!! ولعل أسوأ ما حزن له عرابي هو هجاء أمير الشعراء «أحمد شوقي» له في قصيدته التي قال فيها: صغار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يا عرابي! ولم يلتفت «عرابي» لكل هذه السخافات والرزالات بل والجهالات أيضا وقرر أن يرد علي ذلك كله بالانهماك في كتابة مذكراته التي أسماها «كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية»، وقد انتهي من كتابتها في 26 يوليو سنة 1910! ومن الأشياء اللافتة للانتباه أثناء وجود عرابي في منفاه حرص الصحف علي إجراء الأحاديث معه، وفي مقال نادر للكاتب الكبير الأستاذ أنيس منصور في مجلة آخر ساعة «أغسطس 1959» يشير فيه إلي حديث جري بين عرابي ومراسل جريدة الأوبزرفر السيلانية، وقد لاحظ المحرر أن نساء كل الباشوات الذين صحبوا عرابي قد كشفن عن وجوههن، فبدت الوجوه البيضاء حتي ليظن الإنسان أنهن أوروبيات، أما السيدات المرافقات لعرابي باشا فقد كن محجبات تماما!! ويمضي المراسل: سألت عرابي باشا عن مشاريعه فأخرج من جيبه كتابا لتعلم الإنجليزية وقال: أنا مهتم جدًا بتعلم هذه اللغة. وسألت عرابي ماذا ستصنع بأولادك؟ قال: سأدخلهم إلي المدرسة! لكن المدرسة مسيحية وعلي رأسها قسيس! عرابي: هذا لا يؤثر علي الموقف فأولادي قد حفظوا القرآن. - علي العموم هناك مدرسة خاصة للبنات! عرابي: هذا أحسن بطبيعة الحال. - هل هناك مانع في أن يقوم طبيب مسيحي بعلاج سيدة مسلمة؟! عرابي: لا مانع! - وهل تثق المرأة المسلمة في العلاج الذي يصفه الطبيب المسيحي؟ عرابي: إنها تعتمد في ذلك علي ضمير الطبيب نفسه! - وهل للرجل غير المسلم ضمير؟ - عرابي: أعتقد ذلك. ولا يحتاج ما قاله عرابي إلي أي تعليق، ففكر الرجل يدل علي وطنيته وشجاعته. رحم الله عرابي زعيما وإنسانا وبطلا اتسعت همته لآمال أمته.