عاش المصريون أياما صعبة قبل اندلاع ثورة 30 يونيو، وعندما حانت لحظة الحسم تسارعت وتيرة الأحداث بشكل كبير، وسادت أجواء من الريبة والانقسام فى المجتمع، وطغت أخبار السياسة على غيرها من الأخبار، ليصبح الاهتمام بنبأ وفاة فنان أو مخرج مسرحى وقتها – مهما كانت قيمته - نوعا من الترف. فى خضم تلك الأحداث الساخنة، وفى صبيحة يوم 8 يوليو 2013 رحل صانع البهجة على خشبة المسرح، المخرج الكبير حسن عبدالسلام، فلم ينشغل كثيرون بالخبر ولم يقدروه حق قدره، رغم أنه يسيطر بأعماله المسرحية الخالدة على جزء كبير من وجدانهم، ويحفر أبطال وبطلات مسرحياته علامات مضيئة فى تكوينهم. لم تكن أول حكاية عبدالسلام مع «صدفة بعضشى» و«كمال الطاروطى» فى (سيدتى الجميلة) كما يعتقد البعض، فقد انطلق منذ الخمسينيات قطار إبداعه الذى وصلت محطاته إلى 200 محطة تنوعت ما بين الكوميديا الغنائية، والاستعراضية، والعروض الاجتماعية، والفلسفية، بل إن جزءا كبيرا من التاريخ المسرحى لنجوم مثل سمير غانم، وسيد زيان، وسعيد صالح، كان بتوقيعه. روزاليوسف التقت ابنته الكبرى «فاطمة» فى ذكرى وفاته الخامسة، فى محاولة للاقتراب من العالم الخاص لشيخ المخرجين المسرحيين حسن عبدالسلام.. تحتفظ فاطمة برسائل كتبها لها أبوها على ورقات صغيرة، قررت بروزتها، تحوى تلك الرسائل عبارات عذبة، لا تخرج سوى من رجل يحمل قدرا من الصدق، والرقى، لكن فاطمة قالت لى إن تلك الرسائل لم تكن اللفتة الوحيدة التى كان يقوم بها والدها تعبيرا عن حبه لها، وأخيها مصطفى، ووالدتهما، حيث كان دائم إرسال باقات الورود لهم إلى المنزل، بشكل مفاجئ. كان عبدالسلام يبلغ من العمر 55 عاما عندما تزوج والدتهما، التى تصغره بعشرين عاما، مما يعنى أن فارق الزمن الكبير بينه وبين أبنائه لم يخلق بينهما أى فجوة أو بعد، أو كما قالت فاطمة فى حديثها إن صفاته كرجل جعلت منه (أب حلو لواحدة ست) يؤمن بطموح المرأة، ويقدر قيمتها، ويدفعها إلى الأمام، حتى أنها كانت تشعر بأنه أب لوالدتها أيضا. حدثينى عن طفولتك، وهل قضيتيها مع الوالد أم أن انشغالاته غالبية شهور السنة فى عرض مسرحياته وقفت عائقا أمام ذلك؟ كان أبى قريبا منا بشكل غريب، ولأنه أنجبنا فى سن كبيرة، فقد كان لديه هاجس من أنه لن يعيش معنا طويلا، ومن الطبيعى أن يميل الرجل الذى ينجب كبيرا لأن يتصرف تصرفات الجد أكثر من الأب، فقد كان يعتقد أنه لا ينجب، خاصة أنه تزوج مرتين قبل والدتى، كان من بينهما الفنانة هدى سلطان، ولم ينجب خلالهما، وحتى عندما تزوج والدتى، والتى سبق لها الزواج من الفنان حسين الشربينى، رحب جدا بأن تعيش ابنتاها نهى وسهى معهما فى المنزل، وهو ما حدث بالفعل، حتى قرر الفنان حسين الشربينى أن يأخذهما للعيش معه، وكان قدر الله أن تحمل أمى، وتنجبنى، ثم أخى بعدى بعامين، وكان لكل تلك التفاصيل أثرها على طريقة تعامله معنا. وكيف كان ذلك التأثير؟ - لم أسمع صوته عاليا فى المنزل مرة واحدة، ولم يضربنا، أو ينهرنا مثل بقية الآباء، فيكفى نظرة عينيه لنا التى كانت تشعرنا أننا ارتكبنا خطأ ما، وعلينا التوقف، وقد كانت رغبته فى أن لا نفترق أبدا عنه سببا فى ذهابنا معه إلى المسرح بشكل دائم فى نهاية الأسبوع، أما فى الصيف فكنا نذهب معه بشكل يومى، حيث كان يصحبنا معه طوال شهور الصيف إلى الإسكندرية. وهل كان يتعامل فى المسرح مثلما كان يتعامل كأب؟ - كان الجميع يلقبه ب (بابا حسن) ومن لا يعرفه جيدا فقط هو من يناديه بلقب الأستاذ، لكنه كان يقدس المسرح، وينزعج كثيرا ممن يتأخر عن موعده، أو يستهتر بعمله، لذلك كان صوته (بيجلجل) فى المسرح، فقد كان أول من يأتى إليه، وآخر شخص يرحل عنه فى المساء، كما أنه كان يجتهد كثيرا على الورق ليضع بصماته الكوميدية، التى أعرفها جيدا، لذلك كنت أفهم أن تلك الجملة تم إضافتها بواسطته حتى وإن لم أشهد الواقعة، كما أن أبى كان يمثل كل مشهد من مشاهد المسرحية على خشبة المسرح، ولا يكتفى فقط بإعطاء توجيهاته للأبطال وهو جالس. ما المسرحية التى تتذكرين كواليسها جيدا؟ - أذكر تفاصيل غالبية المسرحيات، فقد وعيت على المسرح منذ مسرحية (هالة حبيبتى) وكان عمرى وقت عرضها 4 سنوات، وكانت أمنيتى أن أمثل وسط الأطفال أبطال العرض، لكنه رفض وقتها، لأنه كان يخشى علىّ من السهر بشكل يومى، والمجهود الذى يبذله الأطفال. وكيف كانت علاقتكما بأبطال تلك المسرحيات؟ - كانت علاقتنا رائعة بكل الأبطال، وأذكر أن علاقة رائعة ربطت بينى أنا وأخى، وبين الفنان محمد هنيدى، حيث كان لا يزال فى بداياته فى مسرحية (العسكرى الأخضر) التى لعب بطولتها سيد زيان، وقد كان عمرى وقتها 10 سنوات، فقد كان يجلس معنا بالساعات، نلعب، ونضحك، وكذلك الفنان أشرف عبدالباقى الذى كان يغنى لنا. سمعت والدك فى أحد اللقاءات يتحدث عن علاقة قوية تربطه بالفنان سعيد صالح رغم أنى توقعت أن تكون العلاقة أقوى بالفنان سمير غانم، حيث عملا سويا فى العديد من الأعمال.. فما السر فى رأيك؟ - علاقة والدى بسمير غانم لا يمكن وصف قوتها ومتانتها، والتجانس بينهما فى العمل وفى الحياة، وأذكر أن أبى قد ذهب مع سمير غانم ودلال عبدالعزيز ليقدم لدنيا وإيمى فى المدرسة التى كنت فيها أنا وأخى، وعلى مستوى العمل، قطعنا معا مشوارا طويلا، نتج عنه العديد من الأعمال المهمة بدأت ب«طبيخ الملائكة» التى كانت بطولة ثلاثى أضواء المسرح، ثم العديد من الأعمال مثل: «المتزوجون»، «أهلا دكتور»، «أخويا هايص وأنا لايص»، «فارس بنى خيبان»، «جوليو وروميت»، «موسيقى فى الحى الشرقى»، «يا أنا يا أنت يا دنيا»، أما علاقته بسعيد صالح فقد كانت ممتازة، حيث أخرج له المسرحية السياسية المهمة (كعبلون) كما كانت ابنته هند صديقتى، حيث نلتقى سويا فى الكواليس. هل كان حسن عبدالسلام يعتز بكل مسرحياته، أم أن هناك أعمالا ندم عليها؟ - لم يكن يعتز بكل مسرحياته بالتأكيد، فهناك أعمال قام بإخراجها لأنه يحب العمل، ولا يفضل أن يتوقف، أو يجلس فى البيت، وبعض تلك الأعمال شهيرة، وكان الجمهور لا يتوقف عن الضحك فيها طوال العرض، لكنه كان يعلم جيدا أنها بلا قيمة حقيقية. وما أقرب المسرحيات إلى قلبه؟ مسرحية اسمها (الزنزانة) لم يتم تصويرها مع الأسف، عن قصة الدكتور مصطفى محمود، حيث وضع فيها تفاصيل كانت سابقة عصره، لدرجة أن من يجلسون الجمهور فى الصالة ارتدوا زى المساجين، حتى يدخلوا الجمهور فى الحالة قبل العرض، وقد كانت تلك التجربة رائدة فى حينها، وبالطبع كان يحب (سيدتى الجميلة) التى أدخل من خلالها الكوميديا الغنائية إلى مصر، ومن قبلها (طبيخ الملائكة) كما كان يحب «المتزوجون» وأخويا هايص وأنا لايص من أعمال سمير غانم. ألف حسن عبدالسلام مسرحيتين، ومثل فى العديد من الأفلام، لكنه لم يحاول أن يصنع لنفسه خطوات ثابتة فى المجالين مثلما صنع فى الإخراج المسرحى، لماذا؟ - لأنه كان يحب أن يكون رقم واحد، وهو السبب الذى جعله لا يخرج للسينما والتليفزيون على سبيل المثال، وللعلم فقد بدأ حياته ممثلا، لكنه عندما شاهد نفسه على الشاشة قرر أن يتحول إلى الإخراج، لكنه كان من حين إلى آخر يعود للتمثيل، وأفضل دور مثله من وجهة نظرى، كان دوره فى فيلم (يوم حلو ويوم مر) لأنى شاهدت قسوة فى عينيه غير موجودة فى الواقع فأيقنت أنه ممثل موهوب. وماذا عن التأليف؟ - معلوم للجمهور أن أبى ألف مسرحيتين هما (أنا وصاحبى فى الكازوزة) و(الصغيرات)، لكن غير المعلوم أنه قد شارك فى تأليف مسرحية العالمة باشا مع أخيه عبدالقادر، لكنه فضل وضع اسم أخيه منفردا فى خانة التأليف تقديرا له. وهل هناك نجم كان يحلم بالعمل معه؟ - كان يحب أن يعمل مع شريهان، وكان يستعد لإخراج مسرحية (شارع محمد على) لكن هاجمه المرض، ولم يستطع القيام بذلك. تجربة مرضه بسرطان القولون ملهمة جدا، لأنه تغلب عليه بمعجزة، هل تذكرين تفاصيلها؟ - بالطبع، فقد كنا نستعد للسفر إلى أمريكا بعد الامتحانات، لنزور «ديزنى لاند»، لكن آلام البطن قد داهمته، واكتشف إصابته بالمرض، فانقلبت حياتنا رأسا على عقب، ورافقناه جميعا فى إقامته بالمستشفى فترة طويلة، وبعد الاستئصال تغيرت الحياة تماما، خاصة مع جلسات الكيماوى المؤلمة، والتى سأل والدى الطبيب متى سينتهى منها فقال له إن المشوار لا يزال طويلا جدا، فسأله وماذا إن توقفت عنها، فأجابه لن تعيش سوى عام على أقصى تقدير، ومع ذلك قرر أبى التوقف، وذهب إلى المسجد الحرام، ثم عاد فلم يجد الأطباء أثرا للمرض فى جسده، فقد كان لديه يقين غريب على قدرة الله، وتعد حالته معجزة عاش بعدها 25 عاما. وهل ذلك اليقين هو ما جعله يستمر فى الإخراج وهو على كرسى متحرك فى آخر حياته؟ - كان أبى دائما يردد بأنه يرغب أن يموت وهو يعمل، حتى بعد ما أصيب بمرض ضمور العضلات فى قدمه، والذى جعله يمشى متكئا على عصى ثم مشاية ثم كرسي متحرك، وفى كل تلك المراحل ظل يخرج عشرات المسرحيات المهمة دون توقف أذكر منها ربنا يخلى جمعة لأحمد آدم، ومراتى زعيمة عصابة لسمير غانم وغيرهما الكثير. كيف كانت لحظات الوداع؟ - كان ذهن والدى حاضرا حتى يوم وفاته، وذاكرته حديدية، لكن صحته بدأت فى الضعف نتيجة التقدم فى السن، وبما أننى أسكن مع زوجى فى العمارة المجاورة له، طلبت منه قبل وفاته بأربعة أشهر أن يقيم معى، حتى يظل أمام عينى، وكانت فترة رائعة، فهو عاشق للأفلام، ولديه مكتبة أفلام وأسطوانات هائلة كونها من أسفاره، بخلاف مكتبة الكتب الثرية جدا، لكن كان بالنسبة له وجود تلك الأفلام على اليوتيوب، والقدرة على مشاهدتها فى أى وقت اختراعا مذهلا، فقد كان يطلب منى يوميا مجموعة من الأفلام، لمشاهدتها بكل استمتاع، وبعد مرور أربعة أشهر فوجئت به يقول لى إنه شعر بدنو أجله، ويريد أن يلقى ربه على سريره، وفوجئت بعدها بأسبوع بمكالمة من والدتى تصرخ وتقول لى إنه لا يجيبها، وفى ثوان كنت أمام سريره، طلبت منها الهدوء، وجلست بقربه أقول له بصوت هادئ (أنت عارف أنى أحبك)، وظللت أرددها حتى تأكدت أن روحة قد فارقت جسده.