لو سألت الذين حولك.. هل تستطيع أن تعيش بدون تليفزيون؟ فستجد الدهشة على وجوههم.. فالسؤال بالنسبة للكثيرين غير منطقى.. كأنك تسألهم: هل تستطيع أن تعيش بدون ماء أو هواء؟! لأن التليفزيون أصبح جزءا مهما من حياتهم.. مفتوح ليل نهار داخل بيوتهم.. سواء انتبهوا لما يعرضه على شاشته، أو لم ينتبهوا!! يكفى أن هناك صوتاً وصورة متحركة تسليهم أحيانا.. تمتعهم أحيانا.. ولكن الأهم تعوضهم عن الإحساس بالوحدة والعزلة والصمت.. بعد أن أصبح الاندماج فى الحياة العامة خارج المنزل.. مسألة مرهقة لصعوبة الحركة والتنقل لزحام المواصلات والشوارع.. بالإضافة إلى أن الخروج من المنزل معناه تكاليف زائدة لا تتحملها ميزانية الأسرة محدودة الدخل أو حتى متوسطة الدخل. والنتيجة.. أنه لا مفر من الجلوس فى البيت أمام شاشة التليفزيون فهذا أريح وأوفر.. ولكن يبقى السؤال الأهم: هل تشعر أن التليفزيون يحقق لك متعة المشاهدة.. متعة المعرفة.. متعة الثقافة والفن.. متعة تغذية العقل والوجدان؟ الإجابة فى الغالب.. بالنفى.. سواء كنت مشاهدا للقنوات المحلية.. أو بعض الفضائيات! وما يهمنا هنا.. هو التليفزيون المصرى.. تليفزيون الدولة.. ولا أتعرض هنا للقنوات الخاصة التى أنشأها بعض رجال الأعمال وأثبتت وجودها على الساحة.. ومنافسا لتليفزيون الدولة.. الذى أصبح يعانى من ضعف الميزانية المخصصة له مع ارتفاع تكاليف إنتاج البرامج والمسلسلات.. مع استنزاف جزء كبير من ميزانية التليفزيون لدفع أجور ومرتبات هذا العدد الهائل من العاملين به.. وكثير منهم بلا كفاءة.. وبلا عمل حقيقى.. وإنما التحقوا بالمبنى عن طريق الواسطة والمحسوبية.. وأصبح من الصعب على أى مسئول فى مبنى التليفزيون أن يتخلص من العمالة الزائدة.. وإلا واجه الوقفات الاحتجاجية أمام مبنى التليفزيون ثم أمام مقر مجلس الوزراء.. والحكاية مش ناقصة! وأصبح الموقف شديد الصعوبة.. فهناك انتقادات ومطالبات مستمرة من جمهور مشاهدى التليفزيون الحكومى لتحسين مستوى البرامج لتنافس القنوات الخاصة التى بدأت تسحب كفاءات التليفزيون الحكومى بإغراءات مادية كبيرة.. فى نفس الوقت الذى يعجز فيه التليفزيون الحكومى لضيق ذات اليد عن الحفاظ على الكفاءات فضلا عن ضرورة التحديث والتجديد والدخول بجسارة فى السباق مع القنوات الخاصة. وظهر اقتراح بفرض رسوم يتحملها كل حائزى أجهزة التليفزيون تحسب بمعدل قرشين صاغ على كل كيلو وات من استهلاك الكهرباء يسدد مع فاتورة كل شهر وتذهب حصيلة هذين القرشين إلى خزينة التليفزيون للإنفاق على تجديد وتطوير برامجه. ورغم أن هذه الرسوم كانت موجودة عند بداية إنشاء التليفزيون.. وكانت محددة بمبلغ معين لا يتجاوز عدة جنيهات.. ورغم أن هذه الرسوم معمول بها فى كثير من الدول الأوروبية للإنفاق على التليفزيون.. إلا أن وقع هذا الاقتراح أثار جدلا صاخباً عند بعض أعضاء مجلس الشعب بحجة عدم تحميل المواطن أى أعباء إضافية.. ويكفيه عذابات انخفاض الدخل مع زيادة الغلاء الذى ضرب كل شىء فى حياتنا. وهكذا تم نسف هذا الاقتراح.. الذى كنت أراه حلا عادلا يتحمله الجميع فى مقابل تحقيق خدمة أفضل لمشاهدى التليفزيون الحكومى.. هذا إذا أردت لهذه القنوات أن تستمر فى تأدية دورها الوطنى. وفى محاولة للخروج من هذا المأزق ظهر اتجاه بأن تقدم شركات الإعلانات الدعم للبرامج والمسلسلات بمعنى أن أى برنامج يصبح له الأولوية فى العرض على الشاشة إذا كان مدعوما بإعلان ما عن سلعة أو عقارات أو أراض. وانتقل هذا الامتياز شرطا لإنتاج المسلسلات.. ولما كان من الصعب العثور على سلعة يغطى الإعلان عنها التكاليف الباهظة لإنتاج أى مسلسل.. أصبح نجم المسلسل هو السلعة التى يباع باسمها حق عرض المسلسل. وهكذا تحولت سوق الدراما التليفزيونية إلى سداح مداح.. الإعلان هو سيد الموقف هو الذى يحدد أسماء الممثلين.. وهو الذى يحدد اسم المخرج.. ثم هو الذى يحدد ميعاد العرض وعلى أى قناة تليفزيونية. هكذا أصبحت الدراما التليفزيونية تابعة لمسحوق الغسيل وعلب الكازوزة وعبوات الزيت والسمن وشبكات المحمول! ولا تسأل بعد ذلك عن مضمون هذه المسلسلات.. ولا الفكر الذى تقدمه.. أو الفن الذى تحمله.. يكفى فقط أن تسأل عن اسم النجم أو النجمة.. وكل اسم من هؤلاء له ثمن فى السوق.. وهذا الثمن يرتفع من عام لآخر.. من مليون.. إلى ثلاثة.. إلى خمسة.. إلى عشرة.. والارتفاع مستمر.. وكل نجم من حقه أن يطلب ما يشاء فهذا حقه فى بورصة الدراما لأنه يعرف أن باسمه سيتم إنتاج المسلسل.. وسيتم تسويقه لعدة محطات تليفزيونية. ولأن النجوم الكبار عندنا.. لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.. يتكرر تواجدهم على شاشة رمضان كل عام.. فقد ظهر جيل جديد فى النجوم الشباب يسيرون على نفس المنهج.. الأجر بالملايين.. وبالشروط التى يفرضونها.. ولا تنازل.. وإذا اعترضت على هذا الأسلوب فهذا معناه أنك حكمت على مسلسلك بالتجميد والدفن! واحتج مؤلفو الدراما التليفزيونية.. واحتج المخرجون لأنهم أصبحوا تحت رحمة معايير يحكمها الإعلان.. ولا يحكمها الفن! ولما توالت الانتقادات لهبوط مستوى الدراما التليفزيونية المصرية.. عقدت مؤتمرات واجتماعات على مدى السنوات الخمس الماضية.. ولم تسفر إلا عن توصيات تطالب باحترام الفكر أولا.. مع تجديد الصياغة الفنية لتواكب متطلبات العصر. ولكن هذه التوصيات دفنت فى الأدراج مع سيناريوهات جيدة.. ليبقى الحال على ما هو عليه من سيادة الإعلان وانحسار الإعلام الذكى الذى ينتصر للفكر وللفن. وظهر الأمل مع تولى المهندس أسامة الشيخ رئاسة اتحاد الإذاعة والتليفزيون.. وقد سبق له تجربته الناجحة فى إعادة تخطيط القنوات المتخصصة »نايل لايف - نايل سبورت - نايل دراما - نايل سينما« وإسناد مهمة الإشراف والمتابعة للإعلامية المتميزة هالة حشيش والتى حققت مستوى عاليا من الأداء المتميز.. وأصبحت تلك القنوات منافساً حقيقيًّا للقنوات الأولى والثانية والثالثة.. ويكفى أنك تدير المؤشر على قناة »نايل لايف« لتجد عددا من البرامج الجيدة ومجموعة منتقاة من الأفلام الأجنبية الحديثة وكذلك ما حدث لقناة »نايل سينما« فى متابعتها لكل الأحداث السينمائية والمهرجانات سواء على النطاق العربى أو العالمى.. فضلا عما حققته هذه القنوات من جذب الناقد السينمائى الكبير يوسف شريف رزق الله ليقدم برنامجا متميزا بأفكاره ودقة معلوماته تحت عنوان »سينما رزق الله« والحديث يطول عما حققته »نايل سبورت« فى التغطية الرياضية وتعليقات أبرز نقاد الرياضة. وهكذا أثبتت هذه القنوات المتخصصة قدرتها على جذب جمهور كبير من المشاهدين دون أن تسقيهم الإعلانات التجارية بمرارتها!! وهذه التجربة التى خاضها المهندس أسامة الشيخ بنجاح وبأقل قدر من الضجيج تثبت أنه من الممكن أن يحقق نجاحات مماثلة فى إعادة تفنيط القنوات الأرضية الأولى والثانية والثالثة وإعطائها قدرا من الحيوية والجاذبية والتنوع باستخدام كل إمكانيات مبنى التليفزيون والكفاءات الفنية والإدارية ذات التاريخ المشرف لتصبح هذه القنوات التى تخاطب أغلبية الجمهور المصرى قادرة على بث المهمة ونفض الغيبوبة والتسطيح فى الأفكار والأعمال. أليس غريبا أنه حتى الآن لا تستطيع هذه القنوات أن تخطط وتدير حملة قومية لتنظيم النسل.. أو حملة للنظافة على مستوى الجمهورية بدعم من الجمعيات الأهلية ورجال الأعمال.. أو حملة لضبط الأسواق وملاحقة التجار الجشعين وبائعى السلع المغشوشة وأباطرة الاحتكار والسوق السوداء؟! أليس هذا أجدى للمشاهد من برامج الكراسى المملة وحوارات تبدأ وتنتهى من نفس النقطة.. بلا إضافة حقيقية.. وبلا دافع قوى للمشاهد لكى يتحول من مقعد المتفرجين إلى مقعد المشاركين فعليا؟! وإذا كان المهندس أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون.. هو الدينامو المحرك الآن للتطوير والتجديد فإن أمامه التحدى الأكبر لاستعدال الميزان المقلوب فى المسلسلات التليفزيونية.. وهى الوجبة الشعبية المفضلة عند عدد كبير من المشاهدين.. وهى أيضا محور سباق مجنون للعرض فى شهر رمضان بشروط كبار النجوم الذين يباع المسلسل بأسمائهم.. فهؤلاء النجوم يعتبرون أن شهر رمضان هو أنسب شهور السنة للعرض حيث تصبح نسبة المشاهدة فى أعلى درجاتها.. ولهذا تتم المعارك المعروفة بينهم للفوز بمساحة زمنية لعرض مسلسلاتهم ولا يهم موضوع المسلسل.. بل المهم هو اسم النجم والنجمة بطلا المسلسل وأيهما يفوز بالوقت الذهبى على الشاشة!! وهى بدعة اخترعتها شركات الإعلانات لتسويق بعض المنتجات. أى أن الإعلانات وهى سيدة الموقف دائما.. وليس مضمون المسلسل ولا اسم المؤلف أو المخرج. وقد وضع المهندس أسامة الشيخ أول قاعدة فى تصحيح مسار المسلسلات أن يكون المؤلف والمخرج هما سيد الموقف وليس اسم البطل الذى يتحكم فى تسويق المسلسل وهى خطوة مهمة جدا لاستعدال المسار والمهم أن يتحقق هذا.. فقد زهقنا من المسلسلات التى تنجح فقط.. فى الحصول على إعلانات الصابون والسمن.. ولا تنجح فى أن تترك أثرا فى أفكارنا ومشاعرنا.؟