«بعض الكلمات نور.. وبعضها قبور» هكذا قال الأديب عبدالرحمن الشرقاوى، فالكلمة فرقان بين نبىّ وبغىّ، وقد تعلمنا أن الكلمة الطيبة صدقة، وأن جبر الخواطر عبادة كما أوصانا رسولنا الكريم. فالكلمة الحسنة تؤلف القلوب، وتهديها لدروب الخير.
لكن للأسف الشديد أصبحت ظاهرة انعدام الذوق وكسر الخواطر، وقسوة الكلمات دون مراعاة الغير تتفاقم بشكل كبير لدرجة أن البعض أطلق عليها «سياسة طحن الخواطر» التى تخلق نفوسًا غير سوية تزيد من التباعد البشرى، وتبتعد تمامًا عن الأعراف الإنسانية التى تصهر الثقافات المختلفة فى مجتمع واحد. فأصبح الأقوى والأمهر هو من يكيل الكلمات القاسية للآخر، ويحرز هدفًا فى خانة عدم التهذيب. تحدثنا مع الدكتورة ابتهال عادل – أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب، جامعة القاهرة، لتشرح لنا سيكولوجية الإنسان غليظ الكلام، وهل المجتمع الذى يبرر له أفعاله من الممكن أن يساعده على التمادى فيما يفعل؟ ومتى تكون سياسة «كسر الخواطر» فى بعض الأحيان نوعًا من استباق الدفاع عن النفس؟ وما الدور السلبى الدى تلعبه الأسرة فى إخراج شخص قاسى الكلام لا يبالى بخواطر من حوله؟ وكيفية تحقيق معادلة تربية النشء على الذوق وجبر الخواطر وفى الوقت نفسه عدم الظهور بمظهر الضعيف والحفاظ على قدره ومكانته؟ شعور المتعة تشرح د. ابتهال سيكولوجية قاسى الكلام، قائلة: «يعد كسر الخواطر صورة من صور العنف اللفظى، بالنسبة للشخص الذى يحتوى كلامه على الكلمات الغليظة التى تنعدم من الذوق، فهو شخص لم يتلق خلال عملية التنشئة من قبل الأبوين ما يمنعه من ذلك، فبالتالى لا يشعر بخطورة ما يفعل، بالإضافة إلى أن هذا الشخص يتولد لديه شعور بالمتعة عندما يتحدث بطريقة خالية من الذوق أو يلقى كلمات تجرح الشخص الآخر ويقول: «خليته ما يعرفش يرد عليا» ولا يُدرك أن هذا يدل على خلل فى شخصيته ولا يشير إلى أى شىء إيجابى، بل إنه جرح هذا الشخص وسبب له الأذى النفسى».
«هذا الشخص يستمتع بما يفعله، ويفرح بنفسه وطريقته ويقول: «دى طريقتى أنا صريح وبقول اللى فى قلبى»، ولكن يجب عليه أن يعلم أن هذه الطريقة تدل على خلل فى شخصيته وانعدام الثقة بالنفس». وبالفعل عندما يشجعه الآخرون من حوله عند الاستماع له، ويقولون له: «ردك كان رائع»، «دا انت أحرجته»، «عجبتنى»، «دا أنا لو مكانك مكنتش هعرف أرد بالشكل دا»، وغيرها من العبارات التى تشجعه على التمادى. وللأسف الشديد هذا التشجيع سيجعله يستمر، وفى كل مرة سيصبح أسلوبه أكثر غلظة وجارحًا لمشاعر الغير حتى يلفت نظر من قاموا بتشجيعه وتقديم المبررات له. وعلى النقيض إذا وجد هذا الشخص من يلقى عليه اللوم على أسلوبه وكلماته الغليظة سيخجل من فعلته ولا يكررها حتى لو أمام من ألقى عليه اللوم فقط. وتؤكد د. ابتهال أن هناك علاقة قوية بين طبيعة الشخص وبين فعل كسر الخواطر، فمن غير الطبيعى أن يقوم شخص طيب بذلك، فهو يخشى على مشاعر من حوله ويُراقب كلماته، لكن كسر الخواطر فعل يتسم بالقسوة بأكمله فلا ينبع إلا من شخص قاسٍ، يتعمد إيذاء الغير ولا يُحاسبه ضميره عما يفعل. تقول: «نجد أنه فى بعض الأحيان يضطر بعض الأشخاص إلى الدفاع عن أنفسهم وخاصة إذا تعرضوا لموقف كان يتسم بالإحراج، فهنا يضطر الشخص إلى الرد بشكل قاسٍ وعنيف، ولكن فى هذه الحالة من وجهة نظرى لا يحدث ما يُسمى بكسر الخواطر لأن الشخص يدافع عن نفسه ويرد اعتباره». وأما كسر الخواطر فيحدث من شخص متعمد ذلك بدون وجه حق، وأحيانًا يُشكل رده صدمة لمن حوله ولمن «كسر خاطره» فهو يقوم بالرد وإلقاء الكلمات القاسية بدون مبرر واضح، ويجرح خاطر المتحدث إليه بدون سبب يُذكر. دور سلبى تشير د. ابتهال إلى أن الأسرة تلعب دورًا سلبيًا أحيانًا فى تنشئة أبناء يتسم سلوكهم بالعنف وخاصة العنف اللفظى، من خلال تشجيعهم على أفعالهم وأقوالهم وعدم منعهم من تكرار ذلك. فتشجع الأم أبناءها على أخذ حقوقهم وتعنيف من يُعنفهم بالقول والفعل، وهنا ينشأ الابن وهو يرى أن الرد على أى شخص يُضايقه بأسلوب قاسٍ وبه كسر لخاطره، وأن هذا حقه وبالتالى لا يُبالى لفعلته، بالإضافة إلى أن الأسرة منذ الطفولة كانت تشجعه وتضحك على كلامه الخالى من الذوق والكاسر للخاطر دون أن تُقوّم سلوكه، وتُعاقبه على طريقته السيئة مع من حوله، ويكتفون بقول « دا لسه صغير»، ويكبر هذا الصغير ويظل أسلوبه كما هو مع جميع من حوله ليس فقط من يؤذيه، بل جميع من حوله يقوم بكسر خاطرهم. والحل لتلافى كل ما سبق، يكمن فى تربية طفل سوىّ لا يقوم بكسر خاطر من حوله، وفى الوقت ذاته واثق من نفسه وقوى الشخصية من خلال التربية والتنشئة، ومراقبة سلوكه وأقواله وأفعاله مع من حوله وعدم السماح له منذ الطفولة بقول أى شىء خارج أو جارح للغير، والتحدث معه بأن هذا غير لائق. ويجب ألا نهمل الوازع الدينى، فالدين يمنع كسر الخاطر ويُحرمه، فعندما تقوم الأسرة بتنشئة الطفل بتوعية من خلال شرح كل شىء وغرس السلوكيات الإيجابية وغرس الدين داخله يصبح الطفل سويًا وقوىّ الشخصية ولا يستطيع أحد من حوله إهانته أو التقليل من شأنه. على عكس الطفل الذى تمنعه أسرته من كل شىء دون توعية أو شرح أو غرس سلوكيات إيجابية داخله فيكون النتاج شخصًا غير واثق من نفسه لديه اضطراب فى الشخصية، يرى أن إيذاء الآخرين وكسر خاطرهم هو الذى يجعل له شخصية وسط من حوله. فبالوعى ينهض الشخص ويصبح ذا قيمة فى نظر نفسه وفى نظر من حوله.