«أمريكا لم تعد قوة عظمى».. مقولة ترددت كثيرًا خلال الفترة الماضية، ولأسباب عديدة قد تصبح حقيقة مسلَّمًا بها، فالغالبية الأمريكية ترى أن ركائز القوة الأمريكية الأساسية تترنح فى الوقت الحالى بدءًا من ضعف الإدارة الحالية وتراجع نفوذ الولاياتالمتحدة العالمى وعدم قدرتها على حماية حدودها من الهجرة غير الشرعية. الاتهامات تضيف إخفاق واشنطن فى حماية سمائها من الاختراقات الجوية، وحفظ الأمن العام فى الشارع الأمريكى لكثرة ارتكاب جرائم القتل حتى فى المدارس الأمريكية رغم ميزانية أجهزة الأمن الضخمة البالغة 45 مليار دولار. تأتى تلك الاتهامات فى كفة، وما يحدث على الساحة الأمريكية الداخلية من فضائح فى كفة أخرى، وهنا نتحدث عن فضائح وثائق البنتاجون السرية التى تسربت وتضمنت الحديث فى الكثير من الأسرار والملفات الشائكة.
مفبركة بالذكاء الاصطناعى
هذه هى القضية الأهم والشغل الشاغل للصحافة الأمريكية الفترة الأخيرة خصوصًا بعدما كشفت الوثائق عن مخاوف أمريكية بشأن نقاط ضعف لدى الجيش الأوكرانى، فى إشارة واضحة إلى أن الولاياتالمتحدة تتجسس على دول حليفة لها، من بينها إسرائيل وكوريا الجنوبية. وكان جاك تيكسيرا العنصر فى سلاح الجو الأمريكى قد قام بتسريب وثائق سرية للبنتاجون، والكشف عن معلومات أمنية وعسكرية مهمة على الإنترنت. واحتوت الوثائق المسربة معلومات أعداد القتلى والمصابين فى صفوف القوات الروسية والأوكرانية، وأنشطة وكالات الاستخبارات فى موسكو، وتحديثات بشأن المساعدات المقدمة لأوكرانيا.
جاك تيكسيرا
تيكسيرا الآن بانتظار محاكمته، بعد أن اعتبر الادعاء الأمريكى أنه لا يزال يشكل خطرًا على الأمن القومى الأمريكى، ووجهت إليه تهمتين تصل عقوبتهما القصوى إلى السجن 10 سنوات. تصف الصحافة الأمريكية قضية التسريبات بثانى أخطر قضية خرق أمنى أمريكى منذ تسريبات ويكيليكس عام 2010 التى تضمنت أكثر من 700 ألف وثيقة ومقطع مصور وبرقيات دبلوماسية. وشارك تيكسيرا وثائق سرية للغاية حول قضايا الأمن القومى الكبرى على منصة وسائط اجتماعية أتيحت للعامة وتداولها أكثر من 2 مليون مستخدم على مواقع التواصل. ويزعم المدعون أن تيكسيرا استمر فى تسريبات المستندات حتى بعد صدور اتهامات ضده فى مناسبتين منفصلتين العام الماضى. وقالت صحيفة الجارديان إن تيكسيرا صدر بحقه مذكرة فى سبتمبر 2022، بعد أن شوهد وهو يدون ملاحظات على معلومات استخباراتية سرية ويضعها فى جيبه خلال اجتماع . وورد بالمذكرة أن تيكسيرا تلقى تعليمات فى ذلك الوقت بعدم تدوين الملاحظات بأى شكل من الأشكال بشأن المعلومات الاستخباراتية السرية. وفى مذكرة أخرى من أواخر أكتوبر الماضى، تم إصدار الأوامر بمراقبة تيكسيرا الذى تجاهل أمر إيقاف تدوين الملاحظات، حيث كان يحضر اجتماعًا وشرع فى طرح «أسئلة محددة للغاية»، وتم لفت نظره للتركيز على حدود ومتطلبات وظيفته، وعدم الخوض فى المعلومات الاستخباراتية السرية التى لا تعنيه ولا تتعلق بنطاق عمله. وفى مذكرة ثالثة فبراير الماضى، لوحظ أن تيكسيرا يطلع على معلومات «لا علاقة لها بواجبه الأساسى وتتعلق بمجال المخابرات»، واستمر فى مشاركة المعلومات مع شركائه على الإنترنت، حيث وصلت إلى 150 مستخدمًا على الأقل وقت مشاركة المعلومات. وحسب ما نشرت الجارديان، أنه خلال مراقبته تفاخر تيكسيرا بمدى أهمية المعلومات التى حصل عليها، فكتب: «المعلومات التى أقدمها هنا أقل من نصف ما هو متاح».
تحقيق القضاء الامريكى فى قضية تسريب البنتاجون
الطريق للأسرار لكن كيف تمكَّن تيكسيرا صاحب ال 21 عامًا من الوصول إلى وثائق من أعماق البنتاجون بهذه البساطة وكيف أتيحت له فرصة الاستمرار فى تسريب الوثائق على فترات دون توقيف؟!. وفى هذا الشأن تقول صحيفة «واشنطن بوست» إن وظيفة الحارس الوطنى الجوى تتضمن تقنية عسكرية سمحت له بالوصول إلى مجموعة الوثائق السرية التى زعم أنه سربها. ومن السهل على عناصر السلاح الجوى الأمريكى أن يكونوا على دراية كافية بشبكة الكمبيوتر الأكثر سرية فى البنتاجون، والتى تحوى المئات من المعلومات السرية المتعلقة بالحروب والنزاعات ومخططات سرية للاستخبارات الأمريكية. وأخطر ما ورد بشبكة كمبيوتر البنتاجون، هى جهود الولاياتالمتحدةالأمريكية للتجسس على الخصوم، حيث ظهرت بيانات تتعلق بالحرب فى أوكرانيا، وأخرى بشأن مدى خسائر الجيش الروسى ومعلومات حول خطة زيلينسكى لمهاجمة روسيا. وفى 30 سبتمبر، تم ضم تيكسيرا للخدمة مع جناح المخابرات رقم 102 الموجود فى قاعة أوتيس الجوية فى ماساتشوستس، ما يعنى منحه إمكانية الوصول إلى ما يُعرف بالاتصال العالمى المشترك، وهى تقنية تستخدمها الاستخبارات الأمريكية لمشاركة الوثائق السرية مع عملائها. لكن ما يثير التساؤلات حقًا هو سبب احتياج أى شخص فى قاعدة أوتيس الجوية للوصول إلى مثل هذا النوع من المعلومات السرية الاستراتيجية عالية المستوى دون أن يتتبعه أحد.
الفضيحة الأكبر هى مدى التقصير الذى ارتكبه رؤساء تيكسيرا، إذ أكد مصدر للواشنطن بوست، أن كل وثيقة تُطبع من تقنية المشاركة الدولية مع العملاء يتم تعقبها، كما يتم تتبع ضغطات المفاتيح على جهاز كمبيوتر المستخدم، فكيف لم يتم تتبع تيكسيرا كل هذا الوقت؟ الطريف أن تيكسيرا رغم صدور أكثر من مذكرة بحقه بشأن عدم الاطلاع على بيانات سرية، ورغم كثير من الشكوك حوله؛ فإنه حصل على تصاريح أمنية للوصول إلى أجهزة الكمبيوتر داخل دائرة عمله. عودة ترامب وأعادت قضية تيكسيرا للسطح أحاديث مرة أخرى عن المستندات التى وجدت فى فندق ترامب الذى يُعتبر أول رئيس أمريكى سابق فى التاريخ يواجه محاكمة جنائية، ووُجهت إليه 34 تهمة. كان الاتهام الأخطر على الإطلاق ولا يزال هو حيازة الرئيس الأمريكى السابق وثائق سرية ليس من حقه الاحتفاظ بها فى قصر مارالاجو، الذى يمتلكه بولاية فلوريدا. ولا شك أن قضية ترامب قد شغلت الرأى العام لفترة طويلة وزادت تفاصيلها سخونة وإعادتها للسطح ما يعرف من آن لآخر فى تفاصيل فى قضية تيكسيرا!! مستندات مارالاجو كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية منذ أيام الغطاء عن معلومات جديدة حول المستندات السرية التى وجدها عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالى فى مقر الإقامة السابق لترامب فى مارالاجو بناءً على المعلومات الصادرة عن وزارة العدل الأمريكية، بما فى ذلك أمر التفتيش الأصلى وإفادة خطية مقدمة إلى المحكمة الفيدرالية. ووفقًا ل «نيويورك تايمز»، احتفظ ترامب بما لا يقل عن 300 مستند بعلامات سرية، تم تصنيف بعض هذه الوثائق على المستوى «السرى»، وهو التصنيف الأول من بين ثلاث فئات حساسة للمعلومات التى من شأنها أن «تلحق الضرر بالأمن القومى» إذا تم الكشف عنها.
لحظة القبض على تيكسيرا المتهم بتسريب الوثائق
ومن بين تلك الوثائق تقارير دبلوماسية أمريكية وتقارير مناقشات السفارات مع القادة السياسيين أو رجال الأعمال، وبعض المعلومات الإدارية مثل مسار سفر مسئول رفيع المستوى إلى مكان سرى، ومستندات أخرى تتضمن معلومات عن علاقات الولاياتالمتحدة مع أفراد وبلدان ومؤسسات لم يتم الكشف عنها. الخروج من الأزمة وأشارت تقارير صحفية إلى مخاوف لدى بعض المسئولين الأمريكيين من تبعات الضغط على ترامب الذى قد ينفجر بفضح أسرار الأمن القومى الأمريكى، ونشر معلومات عسكرية ومحادثات دبلوماسية رفيعة المستوى، فضلا عن مخططات الدول المعادية للولايات المتحدة وتقارير الاستخبارات الأمريكية. وحول الانتخابات الأمريكية المقبلة والإجابة عن السؤال: هل يترشح ترامب مرة أخرى طرحت صحيفة بوليتيكو 9 أسئلة وأجوبة حول مصير الحزب الجمهورى بعد الأزمة. وكان الرئيس الأمريكى السابق أعلن يناير الماضى عن نيته فى الترشح للرئاسة للمرة الثالثة. لكن تقول صحيفة ناشيونال ريفيو الأمريكية إن ترامب لا يستطيع الوصول إلى سدة الحكم مرة أخرى، فما نراه من تقدم فى استطلاعات الرأى هو نتيجة لكثافة مؤيديه الأساسيين، والدعم المالى والسياسى الذى يحظى به تعاطفًا مع الأزمة القضائية التى يمر بها، لكن ذلك لن يخفى مدى ضآلة شعبيته بشكل كبير على نطاق واسع. علاوة على ذلك، فإن الغضب الذى تضاعف الفترة الماضية ضد ترامب بسبب قضية مارالاجو وما تبعها من سلسلة فضائح جنسية، كانت كافية لتشويه سمعته، فإذا كان هو المرشح، فسيضمن الديمقراطيون بالبيت الأبيض أول عشر نقاط أو أكثر. وتظل الأزمة الأكبر على الإطلاق هى تسريب مستندات البنتاجون السرية، حيث ظهرت دفعة جديدة من الوثائق السرية على مواقع التواصل الاجتماعى، فيما قال محللون أمريكيون إن حجم التسريب يصل إلى أكثر من 100 وثيقة فى غاية الحساسية يتم تسريبها لمواقع التواصل الاجتماعى، وسيتسبب الكشف عنها فى مخاطر جمة للأمن القومى الأمريكى، على حد قول المسئولين الأمريكيين. ووصف مسئول أمريكى استخباراتى كبير، تسريبات تكسيرا وفحوى ما احتفظ به ترامب من وثائق بأنها «كابوس للعيون الخمس». «العيون الخمس» هو أكبر تحالف استخباراتى دولى يضم «الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وألمانيا واليابان وكوريا» ويتولى تمويل أنشطة عسكرية سرية، وتدبير عمليات جاسوسية خطيرة تهدف لمواجهة تهديدات الصين. ويبدو أن الوثائق سواء المسربة أو التى وجدت بحوزة ترامب تتضمن أسرارًا خاصة بأعمال العيون الخمس، كما تشمل تفاصيل حول حرب أوكرانيا، ومجموعة كبيرة من الوثائق الحساسة حول الحرب الباردة مع الصين والمسرح العسكرى فى المحيطين الهندى والهادى والشرق الأوسط وملفات الإرهاب.