ما تيجى أحكى لك شوية عن المشهد بتاع الملاحة الملاحة «ريا وسكينة» زى ما إحنا عارفين أختين اتنقلوا من الصعيد عبر أكتر من محافظة، واستقروا فى الإسكندرية، وسنة 1920 عملوا عملتهم إنهم كانوا بيستدرجوا ستات (معظمهم بنات ليل) يقتلوهم وياخدوا دهبهم، ويدفنوهم فى البيوت اللى كانوا عايشين فيها، بمساعدة عصابة من الرجالة منهم حسب الله جوز ريا وعبدالعال جوز سكينة، واتنين فتوات واحد اسمه عبدالرازق، وواحد اسمه عرابى.. الحكاية دى طبعا فتحت شهية صناع الأعمال الدرامية من أول لحظة، يعنى مثلا سنة 1921 نجيب الريحانى وبديع خيرى قاما بعمل أول مسرحية عن الموضوع، وبعدها اشتغل المسرح كتير لحد صلاح أبو سيف ما عمل فيلمه. والملاحظ إن الأعمال الدرامية دى كلها كانت بعيدة نهائى عن «اللى حصل» فى إسكندرية، ومعظمها من خيال مؤلفيها. حتى فيلم صلاح أبوسيف. بعد 1952 بقت الأعمال بتتناول الحكاية بشكل كوميدى، زى إسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة (حمادة عبدالوهاب، 1955) واتعمل بنفس طقم ممثلي صلاح أبو سيف، و«ريا وسكينة» نسخة يونس شلبى وشيريهان (أحمد فؤاد، 1983) واللى مالهاش علاقة ب الحادثة نهائى، وطبعا المسرحية الأشهر «ريا وسكينة» نسخة شادية وسهير البابلى (حسين كمال، 1984).. رجال ريا وسكينة طبعا فى وسط كل الأعمال دى، ورحرحة المؤلفين والمخرجين، ضاعت ملامح القصة الأصلية، لحد ما الباحث الاستثنائى صلاح عيسى كان بيدور على قضية الحزب الشيوعى فى أرشيف المحاكم، فوقع تحت إيده ملف القضية باعترافات ريا وسكينة ورجالتهم المباشرة، اللى بصموا عليها وقت الحادثة، وقعد سنين طويلة يشتغل عليها، لحد ما عملها سِفر ضخم مش مجرد كتاب عادى، حاجة فوق ال 700 صفحة من القطع الكبير ب بنط صغير، ومع ذلك ما تقدرش تفتح «رجال ريا وسكينة» من غير ما تخلصه على مرة واحدة، إن شا الله ياخد أسبوع.. كان طبيعى إن شغل صلاح عيسى يتحول لمسلسل (جمال عبدالحميد، 2005) يقفل باب تناول الدراما ل حكاية ريا وسكينة، على الأقل لسنين طويلة جاية.. من بين الأعمال اللى تناولت ريا وسكينة هنقف عند نسخة صلاح أبوسيف، المخرج الكبير، اللى كان ممكن يبقى أكبر بكتير لو إن الأيديولوجيا ما سيطرتش على تفكيره وأثرت دايما على اختياره الفنى، وزى ما إحنا عارفين صلاح أبوسيف واحد من كبار الشيوعيين فى تاريخ السينما، بصرف النظر عن انضمامه لواحد من التنظيمات الشيوعية من عدمه، دى حاجة تانية. «ريا وسكينة» نفسهم مكنوش حاجة مركزية فى فيلم أبوسيف، وده واضح من اختيار الأسماء وترتيبهم على التتر، يعنى ريا وسكينة وحسب الله وعبدالعال (اللى هم بالترتيب: نجمة إبراهيم وزوز حمدى الحكيم ورياض القصبجى وسعيد خليل) كانوا فى الترتيب بعد أنور وجدى وفريد شوقى وشكرى سرحان وسميرة أحمد، والأربعة لعبوا أدوارا لشخصيات خيالية تماما. لطفى عثمان مع إن الفيلم المفروض مقتبس عن تحقيق صحفى كتبه المحرر بالأهرام لطفى عثمان، اللى كان محرر حوادث معروف فى الأربعينيات، وهو اللى تابع مثلا التحقيقات فى قضية مقتل أمين عثمان، ومش عارف إذا كان لطفى هو اللى ألف كل التأليف ده فى الأهرام (ودى كارثة) ولا أبو سيف خد التحقيقات بمساعدة فريق الكتابة، نجيب محفوظ للسيناريو، وسيد بدير للحوار. (ودى مش كارثة، الفن حر). أبوسيف» نفسه فى نسخة صلاح أبوسيف من «ريا وسكينة»، هنلاقى الستتين ورجالتهم مالهمش أى عمق إنسانى، مجرد «رمز» للأشرار اللى بيستدرجوا المواطنات الآمنات، ويقتلوهم ويسرقوا فلوسهم، وده مالوش علاقة بإنه فيلم قديم، وإنما له علاقة ب «أبوسيف» نفسه، اللى كان حريف إسقاطات ورمزيات. نجمة إبراهيم وفى نهاية الفيلم التخلص من ريا وسكينة كان عن طريق «ثورة شعبية»، ساعدت رجل الشرطة (بطل الفيلم وعنصر الخير فيه) على التخلص منهم.. علشان كده اختار أبو سيف للعصابة أربعة ممثلين مكنوش تقريبا معروفين: نجمة إبراهيم يهودية مش معروفة، لا قبل دور «ريا»، ولا بعده، رغم إن نجاح الفيلم خلاها تشتغل كام فيلم، بس هى فعلا ما علمتش إلا فى الفيلم ده، وتحديدا فى المشهد اللى هنختاره، بالإضافة لجملة تانية فى الفيلم، وهى الجملة الخالدة: «قطيعة، محدش بياكلها بالساهل»، ودى جملة ساخرة عظيمة من السيد بدير، كاتب حوار الفيلم، إنه حتى قتالين القتلة شايفين إنهم بيتعبوا فى شغلهم ومظاليم. زوزو حمدى الحكيم سكينة كانت زوزو حمدى الحكيم، وكل شهرتها فى تاريخ الفن هو سؤال: إزاى الست الوحشة دى اتكتب فيها «الأطلال» التى كتبها إبراهيم ناجى ولحنها السنباطى وغنتها الست؟ وبغض البصر عن إن الأطلال، ككلمات، قصيدة عادية ممكن تتكتب فى أى حد، وبغض البصر عن إن الشعرا مش بيكتبوا قصايد فى حبيباتهن لأنهن جميلات بس، لكن لأنهن حبيبات ونقطة، بغض البصر عن كل ده، زوزو كانت بالفعل مزة جامدة جدا سنة 1932، لما اتخرجت فى أول دفعة من دفعات معهد التمثيل (شفت لها صور) إحنا شفناها فى دور «سكينة» لما كانت كبرت وزادت لها خمسين ستين كيلو. إذا كان ده دور ريا وسكينة نفسهم، فدور حسب الله وعبدالعال كانوا فى الضياع، حسب الله كان رياض القصبجى (الشاويش عطية) بس قبل ما يشتغل أهم أفلامه مع إسماعيل ياسين، كان لسه ممثل ثانوى، عبدالعال كان سعيد خليل، اللى اشتغل طول عمره فى أدوار صغيرة.. نضيف للممثلين اللى لعبوا أدوار العصابة الممثلة اللى لعبت دور الضحية، وهى مش ممثلة قوى، أو مش ممثلة خالص الست زينات علوى، الرقاصة الفنانة اللى عاشت حياة صعبة قوى، قضت أغلبها فى النضال علشان تكون نقابة للراقصات، وفشلت واعتزلت وتوفيت وحيدة.. مع الخمسة دول كان فيه عدد من رجال العصابة الكومبارس، هم دول اللى ظهروا فى المشهد الأهم من الفيلم، بس فيه صناع تانيين للمشهد أكتر أهمية منهم بيرم التونسى وأحمد صدقى وشفيق جلال وإميل بحرى، بالذات بالذات إميل بحرى، وكل دول طبعا تحت قيادة صلاح أبوسيف.. مكنش المطلوب من مشهد اغتيال الضحية فى فيلم «ريا وسكينة» إنه يكون مشهدا دمويا، فى الوقت ده كانت لسة السينما بتفكر فى تأثيرها على المشاهد، وتحاول تحافظ على رسالة أخلاقية ما، فالابتعاد عن بشاعة القتل ضرورى، لكن فى نفس ذات النفس كان مطلوب يكون مشهد مقبض قدر الإمكان ينقل الحالة حتى لو ما صورهاش، من هنا كان الإيقاع. صلاح أبوسيف أصلا مونتير، وأصلا أصلا كان بيشتغل فى شركة غزل المحلة اللى أسسها طلعت باشا حرب، وطلعت باشا هو مؤسس استوديو مصر برضه. نيازى مصطفى كان سبب فى إن أبوسيف يتنقل من الغزل للاستوديو، وبعتوه أوروبا يتعلم، ورجع اشتغل فى قسم المونتاج، لحد ما بقى رئيس القسم.. المونتاج من فنون السينما المهدور حقها، كل الناس بتتكلم عن كل حاجة تقريبا: سيناريو، حوار، تمثيل، إضاءة، مزيكا، ديكور، ملابس، مؤثرات، كله كله. لكن المونتاج محدش بيجيب سيرته، والناس غالبا بتتعامل معاه على إنه قطع المشاهد اللى مالهاش لازمة، أو المشاهد الخارجة، مع إنى بأعتبر المونتاج فى مقدمة فنون السينما والدراما عموما. المونتاج هو اللى بيخلق إيقاع الفيلم، هو اللى يخليه ممل أو ممتع. والمخرج لو مش مهتم بالمونتاج، وفدماغه هيعمل إيه بالظبط فى الأوضة قدام مكنة التقطيع أيا كانت، مش ممكن يعمل فيلم مظبوط. ولأن أبو سيف مونتير كبير كان الإيقاع فى أفلامه متميز، وكانت أفلامه نفسها ممتعة إلى حد كبير.. فى المشهد اللى معانا، استعان أبو سيف بغنوة، كتبها ولحنها اثنان كبار بيرم التونسى وأحمد صدقى، وغناها شفيق جلال هى غنوة «بنت الحارة» الشهيرة باسم «الملاحة الملاحة» وفى قول آخر «حسرة عليها يا حسرة عليها». مونتير الفيلم كان إميل بحرى والمصور وحيد فريد والديكور ولى الدين سامح، وبقيادة صلاح أبو سيف صوروا مشهد الاغتيال مع الغنوة بطريقة تدرّس، المشهد اتعمل بطريقة تصاعدية على تلات مراحل: الأولى، بداية الغنوة على إيقاع قاعد. والتانية من أول ما ريا بتدخل بكوباية الشربات اللى فيها المنوم، وبعدها العصابة تدخل بالدفوف مع جملة: «الملاحة الملاحة». والتالتة والمطرب بيغني: «وأنا إيه ذنبى أنا إيه ذنبى حدفت لى المنديل البمبى». فريا تهز القنديل، وتتنقل الغنوة لمرحلة جديدة: «فين أراضيها؟ فين أراضيها؟ فايتانا يا حسرة عليها» فالكورال يمسك فى جملة «حسرة عليها»، ويبقى عندنا كورال مجنون متسارع بيصرخ، والمطرب عنده خط تانى فيه مرثية للذبيحة.. النقل من مرحلة ل مرحلة ب يحصل معاه تصاعد فى الإيقاع، وتصاعد فى المونتاج مع زيادة النقل بين اللقطات، يعنى فى الجزء الأخير بنتعامل مع أجزاء من الثانية للقطة الواحدة، والتفاصيل بتبقى كتير كتير، فى حالة تخلق دوخة زى جلسات الزار. وفى كل المشهد من أوله لآخره كل حاجة بتتحول لآلة إيقاع: مشية ريا، خطواتها ع السلم، حركة لاى الشيشة، آلات الحفر اللى العصابة ب تحفر بيه قبر الضحية، حركة الدف يمين وشمال صعودا وهبوطا، غليان براد الشاى، رجلين واحد على مكنة ب تسن سكين ل دبح خروف، وطبعا القنديل، حتى النظرات، كل حاجة ماشية مع الإيقاع ب تناغم مذهل، والحقيقة كل ده مستوعبه، لكن إزاى غليان براد شاى يبقى ماشى مع الإيقاع، دى إجرام. الكبيرة بقى هو إزاى وحيد فريد قدر يصور المشهد من خلال عينين زينات علوى (الرقاصة الضحية) اللى هى المفروض سكرت وب تتطوح على إيقاع الغنوة، يعنى ازاى الكاميرا قدرت تعمل الحركة دي؟ اللى أعرفه إن الحاج وحيد جاب قروانة من بتوع الأسمنت وقعد عليها بالكاميرا، وخلى حد يهزه وهو بيصور هزات محسوبة بعدات الإيقاع، ودى كانت المحاولة رقم تسعة لتصوير المشهد باستخدام حاجات مختلفة. مش محتاج طبعا أقول المشهد ده فضل خالد إزاى، ولا اتعمل عليه بارودى فى كام فيلم، كفاية مشهد النهاية فى فيلم «العار». وحسرة عليها يا حسرة عليها