ولادة فيلم مهم مثل "رسائل البحر" مرت بفترة مخاض طويلة حيث كان مقرراً أن يلعب أحمد زكي بطولته إلا أن الأقدار حالت بين أحمد زكي وبين هذه البطولة فقد جاء مشروع الفيلم في الوقت الصعب وبالتحديد قبل دخول أحمد زكي لتصوير فيلم "حليم" وبدء العد التنازلي لصراعه الأخير مع المرض وقد اتيح لي أن أكون شاهدة علي ميلاد "رسائل البحر" كفكرة كاد يطير بها أحمد زكي فرحاً لأنه شعر وقتها أنه التقط الجوهرة الفنية وبحكم تواجدي مع كابتن طيار "جهاد جويفل" وزوجته "هالة رجب" وصداقتهما العميقة "بأحمد زكي" كنت أتابع شغفه الشديد بالفيلم وإعجابه بالسيناريو حيث ظل يمثل لنا بعض المشاهد منه ويعمق احساسه بالأحداث من خلال التهتهة لذلك دخلت إلي عالم الفيلم قبل عرضه بسبع سنوات علي الأقل، وكان مصدر سعادة أحمد زكي بالسيناريو هو أنه سيلعب دور الطبيب لأول مرة في مشواره الفني لأنه لم يقدم هذه الشخصية من قبل ولكن من سوء الحظ أن تنطفئ هذه السعادة شيئاً فشيئاً لأن أجواء تصوير الفيلم كان من المفترض أن تكون في شهري يناير وفبراير حيث البرد الشديد وموعد "النوات" البحرية وهو ما يتعارض مع بداية مرض أحمد زكي بالصدر، وكان الحل في أن يلبس بدلة غطس تحت ملابسه لحمايته من سوء الطقس إلا أن كل يوم كان يبعد أحمد زكي عن الفيلم لأن حالته الصحية التي لم تعد تسمح بذلك لدرجة أن صديقه الطيار جهاد جويفل كان يدخل معه في خناقات يحذره خلالها من الاستهتار بعواقب تصوير هذه المشاهد وأن هناك نوعاً من الخطورة علي صحته وخاصة عندما ينقلب به المركب في البحر، ولكن أحمد زكي كان يزداد اصراراً مهما توسل إليه أصدقاؤه أو حاولوا أن ينبهوه لما يمكن أن يحدق به من خطر، كان يقول إنه يدرك حجم المسئولية ويعرف كل ذلك لكنه فنان بروح مقاتل وحلم حياته أن يجسد عشقه للإسكندرية في هذا الفيلم فهي المدينة التي قضي فيها أجمل أيام عمره لذلك شهد "شيراتون المنتزه" لقاءات عديدة بين أحمد زكي وداود عبدالسيد من أجل التحضير للفيلم ومن هي البطلة التي يمكن أن تجسد الدور صحيح أن هناك أسماء كثيرة كانت مطروحة إلا أن هناك تصورات كثيرة كانت تدور في ذهن أحمد زكي حول الفيلم كلها بقيت في مخيلتي وخلقت لدي حالة من التشوق لرؤيتها علي الشاشة ذلك تنسمت عبير أحمد زكي عند رؤية افيشات الفيلم الذي كان لا يمل من الحديث عنه. وعندما دخلت إلي دار العرض لمشاهدته اكتشفت عالماً جديداً مليئاً بالتفاصيل المدهشة، تكاد تكون مختلفة تماماً عن المشاهد التي كان يجسدها أحمد زكي أمامنا فالفيلم لا يمكن اختزاله في ممثل أو مجموعة لقطات لأنه لوحة بصرية رسمها فنان تشكيلي مبدع تولي الإخراج وكتابة السيناريو والحوار في تجربة أعادت السينما المصرية إلي حلبة السباق في امتدادها الطبيعي لتصبح "تاج العلاء في مفرق الشرق" فالفيلم الذي يحتفظ بالسبق الفني الحصري لداود عبد السيد قد أعاد التوازن إلي السينما وخلصها من الشوائب التجارية وفتح كل نوافذها المغلقة علي أجواء الفن، فعند مشاهدة الفيلم أدركت لماذا كان أحمد زكي يكن لداود عبدالسيد كل هذا الحب، ويتمسك بهذا العمل حتي آخر نبضات قلبه، فبالتأكيد أنه كان يدرك أسرار العبقرية المختبئة بين سطور السيناريو الذي كان يعكف علي قراءته، لكنه لم يكن يتخيل أبداً أن يخرج الفيلم مبهراً بهذا الشكل، فلم يعد بينه وبين الأفلام العالمية أي فرق لأنه وصل بمستواه الفني إلي درجات كبيرة من العمق والصدق وكتب شهادة ميلاد جديدة لآسر ياسين في دلالة قاطعة علي تواصل المواهب في هذا الشعب.