أثناء كتابة هذا المقال، وهو اليوم الموافق رقم 23 من أيام العدوان الإسرائيلى الغاشم على قطاع غزة، وصل عدد الشهداء الفلسطينيين إلى 1346 شهيدا غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا حول لهم و لا قوة، وتصور معى عزيزى القارئ عدد هؤلاء الشهداء إذا ما قبلت حركة حماس المبادرة المصرية التى أعلن عنها بعد ثلاثة أيام فقط من بدء العدوان الإسرائيلى، ولم يكن عدد الشهداء تجاوز آنذاك الرقم 180 شهيدا، وبضع عشرات من المصابين وعددًا محدودًا من المبانى والمنشآت المدمرة. ولا شك أن تلك هى إرادة الله تعالى، ولكن حكمة البشر هى فى التعلم من الأخطاء. ولاشك أيضًا أن وضع غزة زاد سوءا طول فترة العدوان، ولا يوجد أفق للخروج من المأساة التى يعانى منها الفلسطينيون فى غزة، خاصة فى ضوء إعلان الحكومة الإسرائيلية المصغرة قرارها 30 يوليو الماضى بالاستمرار فى العمليات العسكرية حتى الانتهاء من تدمير شبكة الأنفاق التى أقامتها حماس عبر الأراضى الإسرائيلية، وكذلك لتدمير أكبر كم ممكن من الترسانة الصاروخية التى تمتلكها حماس. والهدفان على هذا النحو غير محدديْن، فلا أحد يعرف على وجه الدقة كم نفقا يعبر الحدود بين القطاع والأراضى المجاورة، ولا كم هو عدد الصواريخ التى تملكها حماس. وبالتالى فالعملية وفقا للمنظور الإسرائيلى مفتوحة الزمن. لكن هذا الافتراض القائل بالمدى المفتوح يقيده عمليًا ذلك العنف والهمجية التى ميزت العدوان الإسرائيلى إلى الحد الذى لم يكتف بقتل المدنيين عمدًا، وإنما أيضًا تدمير البنية الأساسية، من مدارس وطرق ومبان عامة كالإذاعة الفلسطينية ومنشآت تابعة للأمم المتحدة، فضلا عن محطة الكهرباء الوحيدة التى دُمرت بالكامل، والتى بدورها تؤثر على كافة مناحى الحياة اليومية لكل أهالى القطاع دون اسثتناء. فمع هذا التدمير المتعمد لمحطة كهرباء غزة الوحيدة ومخزونها من الوقود، دخل القطاع برمته حياة القرون الوسطى بكل معنى الكلمة، فلا كهرباء ولا ماء ولا اتصالات ولا صرف صحيًّا ولا باقى مفردات الحياة اليومية المعتادة. ومثل هذه الضربات الهمجية الإسرائيلية تعد تطبيقًا لسياسة عقاب جماعى لأكثر من 1,8 مليون فلسطينى، وتمثل نموذجًا صارخًا لجرائم الإبادة الجماعية. فساد المكاييل الغربية يحدث هذا وقادة المجتمع الدولى وكبراؤه كواشنطن ولندن وباريس وبرلين وأوتاوا لا يرون فى الهمجية الإسرائيلية أية غضاضة، ولا يدينون قتل الأطفال، بل هى لديهم دفاع مشروع لإسرائيل عن النفس ضد صواريخ حماس محدودة التأثير. إن الحديث عن المكاييل المتنوعة التى يكيل بها الغرب مواقفه مع قضايانا العربية ليس جديدا، كما أن هدف الغرب الأزلى لن يتغير وهو بقاء إسرائيل أكثر قوة من كل جيرانها، وتقديم كافة صنوف الحماية والدعم لكل ممارساتها غير الإنسانية ولكل تجاوزاتها للقانون الدولى، والتعامل معها باعتبارها دولة فوق النقد وفوق المحاسبة. وفى ضوء هذا الهدف الغربى فإن توقع أن يقوم مجلس الأمن بإصدار قرار يوقف العدوان الإسرائيلي ويفرض صيغة تهدئة معينة على أطراف الصراع العسكرى يعد توقعا فى غير محله، بل إن حدث فسوف يكون محفوفا بالمخاطر. فالتوازن الداخلى فى مجلس الأمن لا يسمح بإصدار قرار متوازن بأى صورة من الصور، أو يراعى الحد الأدنى من المطالب المشروعة للفلسطينيين فى غزة كرفع الحصار وتأمين مستلزمات الأهالى بكرامة وديمومة ودون انقطاع، والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، بل غالبا سيأتى مثل هذا القرار الدولى وهو يحمل أعباء كثيرة على الفلسطينيين بحجة حماية إسرائيل، ولن يعطيهم أكثر من وعود بتحسين الحياة اليومية وإعادة تعمير ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية سوف تذهب مع الرياح كما حدث من قبل مرارا، ناهيك عن الإدانة الواضحة للمقاومة الفلسطينية والغمز بأنها حركات إرهابية، وربما يضع أعباء أمنية على حماس تحديدا والسلطة الوطنية الفلسطينية عامة. ومعروف أن اللجوء إلى مجلس الأمن إن لم يصاحبه قوة دفع وأطراف كبرى تحمل على عاتقها إصدار قرار بشأن أزمة دولية ما، فإن احتمالات صدور مثل هذه القرارات الناجزة تبدو غائبة تماما. وهو الأمر الذى نراه اليوم بشأن العدوان على غزة. إذ كل ما نراه من الأممالمتحدة مجرد مطالبات من الأمين العام لإسرائيل بأن تراعى الأوضاع الإنسانية لأهالى القطاع، وعدم استخدام مفرط للقوة، والحفاظ على مقار مدراس الأونروا التابعة للمنظمة الدولية. ولا توجد رغبة كافية من قبل الولايات وبريطانيا وفرنسا، وهم الأعضاء النافذون فى مجلس الأمن، بالتعامل الجاد مع العدوان الإسرائيلى، وأقصى ما يمكن توقعه من تحركاتهم إن وجدت، هو التحرك الذى ظهرت معالمه فى مؤتمر باريس، الذى ضم أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وتركيا وقطر، وكان هدفه الأكبر إيجاد صيغة بديلة للمبادرة المصرية، والتى صرح بها وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس بحضور وزيرى خارجة قطر وتركيا ولم تخرج عن حماية أمن إسرائيل وعزل ترسانة حماس الصاروخية مقابل تحسين الحياة للفلسطينيين. وهى الصيغة التى تبدو بمثابة تأييد جارف للعدوان الإسرائيلي وأهدافه، وتخلٍ كامل عن الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية وهو تنظيم دائم لفتح المعابر وانسحاب الدبابات الإسرائيلية من المناطق التى تمركزت فيها أثناء العدوان، ورفع الحصار وإطلاق سراح المعتقلين. تشويش قطرى تركى ولما كانت قطر وتركيا وبدعم أمريكى هما صاحبتا الدعوة إلى مؤتمر باريس، فيتضح أن مواقف هاتين الدولتين تصبان فى تقديم غطاء للهمجية الإسرائيلية، والتشويش على المبادرة المصرية التى تضع فى اعتبارها وضع بنود واضحة لتفاهم دائم وبعيد المدى يوفر للفلسطينيين الحماية ورفع الحصار وإعادة التعمير بدون أدنى ابتزاز إسرائيلى، على أن يكون هذا التفاهم نتيجة مفاوضات فى مدى زمنى محدد بعد توقف كامل للعدوان الإسرائيلى. وللأسف فإن مواقف قادة حماس وكما صرح بذلك خالد مشعل تعتبر أن مواقف قطر وتركيا أكثر التزاما بالمطالب الفلسطينية رغم ما فيها من عوار وتراجع وتخاذل، وكل ذلك من أجل ألا تمر المبادرة المصرية وألا تقوم مصر بواجبها القومى كجزء من حملة تشويه لم تستطع أن تقلب الحقائق. وللأسف أيضًا فإن استمرار حماس فى موقفها الرافض قبول المبادرة المصرية، والمطالبة بأن يُقر الإسرائيليون أولا بمطالب حماس كلها قبل الالتزام بوقف كامل للنار، يصبان فى تقديم أسباب وذرائع تستغلها تل أبيب فى الترويج الدعائى الفج بأن عدوانها الهمجى ليس إلا دفاعًا عن النفس. والمفارقة الكبرى هنا أن اولوية حماس لا علاقة لها برفع الحصار الإسرائيلى برًا وبحرًا وفتح المعابر الستة مع إسرائيل، وهى دولة الاحتلال والُملزمة وفقا للقانون الدولى بتقديم كل التسهيلات والإمكانات التى تعين الفلسطينيين على الحياة بدون إذلال، بل إن أولويتها هى فتح دائم لمعبر رفح ووضعه تحت رقابة دولية، وبالتالى يخف الضغط على الإسرائيليين، وهنا مكمن العجب العجاب، وبالتالى تصبح مصر مسئولة أمام العالم على القطاع قبل أن يتم تحريره بالكامل ومعه أرض الضفة الغربية ليشكلا معا أرض دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة والقابلة للحياة. الموقف المصرى من يتأمل التحركات المصرية يدرك أن الموقف المصرى ينطلق من مبادئ ومعايير قومية بكل معنى الكلمة، وأن إدانتها للعدوانية والهمجية الإسرائيلية لا تتوقف عند الكلمات البراقة بل تتبعها تصرفات دقيقة ومحسوبة بكل دقة، وهذه المبادئ يمكن إجمالها فيما يلى: أولا أن مصر حريصة على وحدة الصف الفلسطينى وعلى مكانة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعى للشعب الفلسطينى فى ربوع العالم وفى الداخل والتى تضم كافة الفصائل الفلسطينية أيا كان توجهها الفكرى والسياسى، وكذلك الحفاظ على مكانة السلطة الوطنية برئاسة محمود عباس، ومن هنا حرصت مصر على أن يكون هناك وفد فلسطينى موحد ينقل وجهة نظر محددة مقبولة من الجميع يتم التفاوض على أساسها مع الجانب الإسرائيلى بعد الالتزام الكامل والصارم بوقف إطلاق النار من كل الأطراف. وبالمقارنة مع مواقف قطر وتركيا يتضح أنهما لا يهتمان بوحدة الصف الفلسطينى وإنما بمساعدة حماس على حساب مصالح الشعب الفلسطينى وسلطته الوطنية. وبعبارة أخرى بينما تعمل مصر على توحيد الصف الفلسطينى، تجاهد كل من قطر وتركيا وبدعم أمريكى بات مفضوحا على تكريس الانقسام الفلسطينى وتشتيت السلطة الوطنية والنيل من مكانتها ورمزيتها. ثانيا أن مصر حريصة تماما على وقف نزيف الدم الفلسطينى وعلى البنية الأساسية فى القطاع وهى بنية محدودة ولكنها ضرورية. ومن هنا يأتى التركيز المصرى على وقف إطلاق النار تحت أى مسمى كهدنة مؤقتة أو هدنة إنسانية يتم خلالها التفاوض الجاد وصولا إلى تفاهم شامل وملزم على أن تضمنه الأممالمتحدة أو القوى الكبرى أو الرباعية الدولية. ثالثا أن مصر تلتزم بفتح معبر رفح للاعتبارات الإنسانية ولتخفيف المعاناة على أهالى القطاع، حيث قدمت أكثر من 900 طن من المواد الغذائية، وسمحت بانتقال 3500 فلسطينى من القطاع إلى الأراضى المصرية مقابل 1870 شخصا دخلوا القطاع، الأمر الذى يثبت زيف الدعاية السوداء التى تبثها مصادر إعلامية تتهم مصر بأنها شريك فى الحصار على قطاع غزة. ويحدث مثل هذا الالتزام المصرى فى إطار السيادة ومتطلبات الأمن القومى خاصة وأن هناك حربا حقيقية لمواجهة الإرهاب والإرهابيين تحدث فى مناطق متعددة بشمال سيناء وقريبة من الحدود مع القطاع. رابعا أن مصر تقدم التسهيلات اللازمة للقوافل الإنسانية والإغاثية الراغبة بالمرور إلى القطاع وهو ما حدث مع كل القوافل التى نظمتها منظمات غير حكومية مصرية وسعودية وإماراتية وجزائرية وغيرها. خامسا أن أى تحرك مستقبلى يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية كفاح مشروع لشعب مقهور تحت الاحتلال ويسعى لإقامة دولته المستقلة ذات السيادة، يتطلب أولا مصالحة فلسطينية حقيقية والتزام كل الأطراف الفلسطينية بهذه المصالحة بدون مزايدة والتخلى عن الرهان على دعم خارجى ثبت أنه أكثر ضررا من تحركات العدو الصهيوني نفسه، لأنها ببساطة تصب لصالحه على حساب الحقوق الفلسطينية. وسادسا وعلى عكس ما تسعى إليه قطر وتركيا وإسرائيل بنزع سلاح حماس وفصائل المقاومة، كما ظهر فى صيغة مؤتمر باريس الفاشل، فإن مصر ترفض رفضا باتا نزع سلاح المقاومة، وتعتبر الأمر شأنا فلسطينيًا يتداخل بقوة مع جهود التسوية الدائمة، وبالتالى لا يمكن وضعه فى أى مباحثات أو مفاوضات تتعلق بالتهدئة الخاصة بقطاع غزة. الاعتبارات الستة السابقة تظهر الأبعاد القومية التى تتحرك من خلالها مصر، وهى كفيلة بالرد على كل الحملات الدعائية السوداء التى تبرع فيها الجزيرة وأمثالها. وكفيلة أيضا بتفسير لماذا تتردد قيادات حماس فى المشاركة فى الوفد الفلسطينى الموحد المفترض وصوله للقاهرة من أجل بحث أسس تهدئة بعيدة المدى؟! ورغم كل المماحكات والتردد من قبل بعض قادة حماس ستظل المبادرة المصرية، وباعتراف واشنطن نفسها وعواصم عربية رئيسية هى الأساس الذى ستجرى عليه أية مفاوضات مقبلة. والتاريخ نفسه يثبت أن شأن غزة ومصيرها كما هو مصير القضية الفلسطينية برمتها لا يمر إلا عبر القاهرة. والمهم أن يدرك بعض الفلسطينيين تلك الحقيقة الساطعة سطوح الشمس فى منتصف النهار.