تمر بنا هذه الأيام مناسبة دينية عظيمة، ألا وهى الهجرة النبوية الشريفة، مع أنها حدثت فى ربيع الأول إلا أنها تمثل مرحلة مهمة فى حياة الدولة الإسلامية، ويجب علينا أن نغتنمها لنتوقف فيها على أهم مواقفها ودروسها، ونعى أسرارها ومعانيها، ولنستفيد من كل الجوانب فيها.. وباستعادتنا لأحداث الهجرة نجد الكثير من الدروس والعبر التى تبدو أنها قد استهلكت وتكررت كثيرًا، وجميعنا يعرفها عن ظهر قلب، ونستعرض أهم الأسباب التى دفعت إلى الهجرة النبوية الشريفة ودروسها، وأهم ما يمكن تطبيقه فى حياتنا من أجل رفعة شأن أمتنا الإسلامية. فجاءت الهجرة لتكون نقطة فارقة فى حياة البشرية، لتفرق بين الحق والباطل، وتميز بين الخير والشر.. ومن أبرز الأسباب التى أدت لحدوثها. شدة الأذى والاضطهاد الذى كان يتعرض له النبى ( صلى الله عليه وسلم): فقد أوذى الرسول إيذاء شديدا لم يتعرض له نبى من الأنبياء السابقين.. فقد تمادى إيذاء المشركين له لدرجة ينادونه بالمجنون كما قال الله تعالى عنهم:( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) كانوا يقولون عنه إنه ساحر كذاب، كما قال تعالى: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) فقد كانوا لا ينظرون له إلا نظرات كلها سخرية واستهزاء، كما قال سبحانه: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ، ولعل من أكثر درجات الايذاء التى واجهت الرسول الكريم: هو ما قام به أبو لهب وهو عم النبى ( صلى الله عليه وسلم) من تحريض لولديه عتبة وعتيبة أن يطلقا ابنتى النبى ( صلى الله عليه وسلم) رقية وأم كلثوم لما جاء بالدعوة عندما توفى عبد الله وهو الابن الثانى للنبى ( صلى الله عليه وسلم) استبشر أبولهب وقال لقومه: أبشروا فان محمدا قد صار أبترا يعنى ليس له ولد يحمل ذكره من بعده. فنزل قوله تعالى: «إن شانئك هو الأبتر»، فقد حرض زوجته أبى لهب وهى أخت أبى سفيان على أن تحمل الشوك وتضعه فى طريق النبى ( صلى الله عليه وسلم) وعلى بابه، ولذلك وصفها القران الكريم بأنها حمالة الحطب، ثم تأتى نهاية سلسة الإيذاء عندما حاولوا قتل النبى ( صلى الله عليه وسلم) عدة مرات، ففى يوم الخميس 26 صفر سنة 14 من البعثة اجتمع سبعة من كبار كفار قريش فى دار الندوة وجاءهم الشيطان فى صورة شيخ يريد نصحهم ودار نقاش طويل فقال أحدهم: نخرجه من بيننا وننفيه من بلادنا. فقال الشيطان: لا والله ما هذا لكم برأى ألم تروا حسن حديثه وحلاوة كلامه والله لو فعلتم ذلك فسينزل على حى من العرب فيتبعوه فيسير بهم إليكم فيقاتلوكم. فقال أبو البخترى: احبسوه فى الحديد وأغلقوا عليه الباب حتى يموت. فقال الشيطان: لا والله، لئن حبستموه ليخرجن من وراء الباب. فقال أبوجهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة شابا جلدا قويا فنعطى كل فتى منهم سيفا صارما فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه فى القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حربكم فيرضوا منا بالدية. وهذا هو السبب الرئيسى من اسباب الهجرة. قبول أهل المدينة الإسلام ودخولهم فيه: فقد عرض الرسول ( صلى الله عليه وسلم)، فى موسم الحج سنة 11 من البعثة، وأثناء خروجه ( صلى الله عليه وسلم) مع أبى بكر الصديق وعلى بن ابى طالب إلى منى فسمع أصوات ستة نفر من شباب المدينة وكانت تسمى يثرب، فعرض النبى ( صلى الله عليه وسلم) الإسلام عليهم فاسلموا، وحملوا الإسلام إلى أهل المدينة حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه ذكر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم). وبذلك أصبح للإسلام قواعد وأرضية صلبة يستند عليها فى المدينة. ومن دروس وعبر الهجرة النبوية الشريفة التى يجب أن نستمدها حتى تكون منهاجا لنا فى حياتنا: الأخذ بالأسباب والتوكل على الله: فقد وكل النبى ( صلى الله عليه وسلم) على بن أبى طالب للنوم مكانه واصطحب أبى بكر معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعلى رضى الله عنه بات فى فراش النبى ( صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر رضى الله عنه صحبه فى الرحلة. بالإضافة إلى استعانته ( صلى الله عليه وسلم) بعبد الله بن أريقط الليثى وكان خبيرًا ماهرًا بالطريق. ويتجلى كذلك فى كتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع فى إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم. حب الله والوطن فى أحلك الأحوال: حينما هم ( صلى الله عليه وسلم) بالرحيل من مكة قال: «إنك من أحب بلاد الله إلى قلبى، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت»، وهذا طبيعى فيها نشأ ( صلى الله عليه وسلم) وترعرع، وفيها نزل عليه ( صلى الله عليه وسلم) الوحى، ولكن رغم ذلك لم يستكين إلى حبها وفضل حب الله عز وجل ورضاه ودعا ربه»اللهم وقد أخرجتنى من أحب البقاع إلى فأسكنى فى أحب البقاع إليك». وهذا درس بليغ. الثقة بالله فى السراء والضراء: فحينما خرج ( صلى الله عليه وسلم) من مكة مكرهًا فلم يجذع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما نصره الله سبحانه وتعالى بالإسلام وظهور المسلمين لم يزده زهوا وغرورا؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهًا كعيشته يوم دخلها فاتحًا ظافرًا، وعيشته يوم كان فى مكة يلاقى الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك. اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فالنبى ( صلى الله عليه وسلم) يعلّم بسيرته المجاهد فى سبيل الله الحق أن يثبت فى وجه أشياع الباطل، ولا يهن فى دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا يهوله أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم، فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هى للذين صبروا والذين هم مصلحون. ثبات أهل الإيمان فى المواقف الحرجة: ذلك فى جواب النبى ( صلى الله عليه وسلم) لأبى بكر رضى الله عنه لمّا كان فى الغار. وذلك لما قال أبو بكر: والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا. فأجابه النبى ( صلى الله عليه وسلم) مطمئنًا له: (ما ظنّك باثنين الله ثالثهما). ان نضع ثقتنا فى الله، وأن نكون على يقين تام بأن الله سبحانه وتعالى سيخرجنا من حالنا هذا، كما اخرج رسوله الكريم من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام. أن من حفظ الله حفظه الله: لو كان أحدنا مكان النبى ( صلى الله عليه وسلم) لما ائتمر به زعماء قريش ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، لا يظن أنه ناجٍ أبدًا لكن الله أنجاه، وخرج من بينهم سليمًا معافى. وهذه سنة ماضية، فمن حفظ الله حفظه الله، وأعظم ما يحفظ به أن يحفظ فى دينه، وهذا الحفظ شامل لحفظ البدن، وقد يصاب لترفع درجاته، وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن فى حفظ الدين والدعوة. ملازمة الصبر فى جميع أعمالنا: قد كان هينًا على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبى ( صلى الله عليه وسلم) جملة، ولكنها سنة الإبتلاء يؤخذ بها النبى الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيرًا كان أم كبيرًا. أن من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه: فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التى هى أحب شىء إليهم، لما تركوا ذلك كله لله، عوضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملّكهم شرقها وغربها. تعظيم دور المرأة فى الإسلام:ويتجلى ذلك من خلال الدور الذى قامت به عائشة وأختها أسماء رضى الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين فى أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا فى تجهيز الراحلة تجهيزًا كاملًا، إلى غير ذلك مما قامتا به. الرفع من شأن المرأة وحثها على التقدم، وعدم التقليل من شأنها فى المجتمع فهى التى بإمكانها أن تخرج لنا دعائم لبناء أمة إسلامية قوية، تعمل على رفع رايه الاسلام عالية مرفوعة، ولا أحد فينا يستنكر الدور الذى أدته أسماء بنت أبى بكر عندما صمدت أمام قادة قريش وأبت أن تفشى سر رسول الله، علاوة على ماقامت به اثناء الرحلة العظيمة من حرصها على ان تقدم المؤن للرسول الكريم وتذهب له بالطعام والشراب. دور الشباب فى نصرة الحق: ويتجلى ذلك فى الدور الذى قام به على بن أبى طالب رضى الله عنه حين نام فى فراش النبى ( صلى الله عليه وسلم) ليلة الهجرة. ويتجلى من خلال ما قام به عبد الله بن أبى بكر؛ حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود بها النبى ( صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر. فتجب تنمية طاقات الشباب ودفعهم إلى الامام واستغلال مابداخلهم من طاقة عظيمة تمكنهم من تغيير الوضع الحالى، وأن يتذكر شبابنا أن الصبر دائما تكون نهايته سعيدة، إلا أنه يجب ان يكون مصحوبًا بالتوكل على الله، والأخذ بالأسباب. حصول الأخوة وذوبان العصبيات: ويتجلى ذلك عندما قام الرسول الكريم بالمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين وإيثار الأنصار تجاه المهاجرين والذى يتجلى ذلك فى أن كان الفرد من الأنصار يقول لأخيه المهاجر إن لى زوجتين أطلق واحدة وتتزوجها أنت. فيجب الالتحام والتعاون فيما بين المسلمين، والثبات أمام الأزمات، والحرص الدائم أن يكون هدفنا واحدا، نسعى دائما من أجل الوصول إليه، وأن نتخلى عن روح العصبية التى قد تؤدى بنا إلى الانقسام، ومن ثم إلى الانهزام الذى لايجنى ثماره إلا نحن، ولايخفى علينا ما كان بين المهاجرين والأنصار من تلاحم وإيثار وهم ليسوا أبناء بلد واحد، وإنما قد جمعهم الإسلام ليوحد كلمتهم وهدفهم فى الحياة ألا وهو بناء دولة إسلامية عالية الشأن.