أجمل المناسبات التى كانت تتوهج فيها مواهبنا ونحن تلاميذ فى المدرسة الابتدائية هى مناسبة المولد النبوى الشريف ولا تنمحى من ذاكرتى قصيدة كتبها لنا ولحنها أستاذ الموسيقى فتحى البلاسى ومطلعها «ليلة الميلاد عودى.. جددى أحلى العهود.. وابعثيه من جديد.. يوم عيد خير عيد». وابتدع أستاذنا الإذاعى المخضرم المبدع فهمى عمر حفلات الليلة المحمدية وكانت مهرجانًا للروحانية والشفافية. وفى هذه المناسبة الشريفة يحلو لنا سماع صيحات وأناشيد الطرق الصوفية، وللطرق الصوفية فضل كبير فى تعريب الموسيقى الغنائية وتطويرها وابتداع عوالم نغمية تلعب دورًا كبيرًا فى الوصول بالإنسان إلى مرحلة الوجد وهز النفوس الذاكرة فى الحضرة لتنقيتها من الشوائب النفسية والأكدار الدنيوية، والإنشاد الدينى هو المصدر الأساسى لفن الغناء العربى وقد خرج الغناء الدنيوى من عباءته ومر بمراحل كثيرة على أيدى طائفة من المشايخ الموهوبين برعوا فى الانتفاع فنيًا بالمحصول الوفير من أنغام الفن الإلهى وطبعه على العواطف الإنسانية النبيلة التى لا تتناقض مع مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أو الابتهال إلى الله سبحانه وتعالى . كان الإنشاد الدينى فى مجالس الذكر الصوفية مجالًا يتجمع له أعلام الفن ومشاهير المنشدين والمطربين، وكانت ليالى الموالد فى القاهرة وعواصم الأقاليم مواسم للموسيقى والغناء يقصدها عشاق السماع من أقصى البلاد، وكان يغنى فيها عبده الحامولى والمنيلاوى ومحمد عثمان والمشايخ محمد عبد الرحيم المسلوب وسلامة حجازى وسيد درويش وعلى محمود. ولم يكن دور المسحراتى يقل شأنًا عن دور المطرب، فلم يكن يقبل على هذه المهنة إلا من هو صاحب صوت جميل وأداء رتيب خاصة فى زمن المماليك، وقد نزل إلى هذه المهمة كثير من المطربين، ويتسع مجال الشعائر الدينية الإسلامية ليشمل الابتهالات والتسابيح والتمجيد، ففى زمن أحمد بن طولون خصص غرفة قريبة منه لرجال عرفوا بالمكبرين وكان عددهم 12 رجلًا فى شكل ثلاث فرق يتناوبون التسبيح والتكبير طوال الليل ويجّودون القرآن الكريم ويلقون قصائد الزهد فإذا حان موعد الآذان يرفعونه، وكان المؤذن يقوم بالتسبيح فوق المئذنة قبل الفجر وقبل صلاة الجمعة فيما يعرف بالتذكير، وكانت القصائد أيضًا تلقى من فوق المأذن أو على دكة المشايخ، وقد عرف ما سمّى بالسّحَريات والفجريات والتسابيح والتذكير، وكان المنشدون لهذه الألوان يراعون القواعد الفنية والأصول الموسيقية فى الأداء والقالب الفنى والتصاعد النغمى وكانوا يلتزمون بتقاليد محددة فى مسجد الحسين بالقاهرة، إذ يأتى الأداء من نظام موسيقى معين يختلف باختلاف أيام الأسبوع ففى يوم السبت يكون المقام المستخدم هو (عشاق) ويوم الأحد (حجاز) والاثنين (سيكاه) وهذا اليوم يختلف المقام فيه حسب موقعه من الشهر فإذا كان هو أول اثنين فالمقام يختلف عنه إذا جاء موقعه الأسبوع الثانى أو الثالث أو الرابع، والأربعاء (جهاركاه) والخميس (راست) والجمعة (بياتى) وكان الشيخ على محمود واحدًا من هؤلاء فى العصر الحديث فى نفس المسجد. وتجاوز أداء الإنشاء الدينى مجالات الشعائر وأصبح من التقاليد أن يدعى المنشدون لإحياء الليالى فى بيوت الأعيان والموسرين، وكان المنشد ملتزمًا بتلاوة القرآن فى بداية الليلة وفى نهايتها وأيضًا قبل وبعد تقديم ما شاء له من إنشاد. كان المنشد الصوفى يمزج بين العناصر الفنية التقليدية فى الإنشاد الصوفى والعناصر الفنية الشائعة فى الموسيقى الشعبية، وشيئًا فشيئًا ظهر نمط جديد من الإنشاد منسقًا فى صيغته وموضوعاته وأساليب أدائه مع التقاليد الاجتماعية والفنية الشعبية، ومن الثابت أن ذلك قدظهر مطلع القرن العشرين.. ذلك أن المستشرقين الذين عرضوا للموسيقى والنشاط الخاص بها لم يشيروا إلى وجود هذا النوع من الموسيقى قبل مطلع القرن المذكور وقد أكد ذلك أيضًا أبحاث الباحثين وكتابات الرحالة. وتتنوع أشكال الإنشاد الدينى فهناك الإنشاد فى مجالس الذكر وابتهالات وتسابيح وألوان أخرى وكلها فنون محببة لنفوس المسلمين ويشهد ذلك الإقبال العظيم على حفلات الفرقة الدينية التابعة لدار الأوبرا ويقودها المايسترو عمر فرحات ومن ينجح فى الحصول على تذكرة لها تبقى أمه دعياله، ويا «ليلة الميلاد.. عودى لنغنى وننشد فى ذكرى ميلاد أشرف الخلق وأجملهم فى الخليقة وفى الأخلاق..