فى حلقة الأسبوع الماضى كشف السفير بسيونى أن هنرى كيسنجر وزير خارجية أمريكا إبان حرب أكتوبر حاول جاهداً إحداث الوقيعة بين الرئيس السادات، وقادة الجيش إلا أنه فشل فى ذلك للدهاء السياسى الذى كان يتمتع به الرئيس السادات، والذى سد جميع المنافذ التى يمكن أن يتسلل منها الثعلب الأمريكى، كما كشف السفير بسيونى عن خرائط الألغام التى زرعتها إسرائيل فى حدائق المانجو بالإسماعيلية وحصل عليها المشير الجمسى بشق الأنفس أثناء تفاوضه مع بنيامين بن إليعازر رئيس الأركان الإسرائيلى فى مباحثات الكيلو 101. وفى حلقة اليوم يفتح السفير بسيونى صفحة جديدة من كتاب الذكريات ويؤكد أنه إذا كان الرئيس السادات قد قال عندما أعلن عن نيته لزيارة القدس فى 9 نوفمبر 1977 إنه مستعد للذهاب إلى آخر العالم من أجل السلام حتى لا تراق نقطة دم واحدة، ومع أن زيارته فى 17 نوفمبر من نفس العام كانت تعادل هبوط أول إنسان على سطح القمر، فإن جنرالات إسرائيل وعلى رأسهم مناحم بيجن رئيس الوزراء، وعايزار ويزمان وزير الدفاع، وموشيه ديان وزير الخارجية، اعتقدوا أن زيارة الرئيس الراحل استسلاماً وليست سلاماً. ومع أن الرئيس السادات قال لهم فى عقر دارهم إنه يريد سلاماً شاملاً وانسحابًا إلى حدود 4 يونيه 67ومع أنه فتح قلبه وعقله لأحفاد النبى موسى- على حد زعمهم- فقد وضع له الجنرالات أذناً من طين وأخرى من عجين، وتبخرت كل المباحثات العسكرية فى الهواء، و«كأنك يا أبوزيد ماغزيت». ورغم أن تلك الزيارة كانت مفاجأة للعدو بكل المقاييس، فإن إسرائيل لم تقدر هذه الزيارة، كما أن أمريكا - الحليف الاستراتيجى لإسرائيل - لم تقدرها أيضاً، وبعبارة أدق لم يجن السادات ما كان يطمح إليه بسهولة ولكن حصل عليه بمباحثات شاقه تأكيدًا لما قاله أمير الشعراء شوقى حينما قال: ومانيل المطالب بالتمنى.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. وفى نفس السياق يؤكد السفير بسيونى أن جهاز المخابرات كان يدرك قبل سفر الرئيس السادات للقدس أن بيجن الليكودى المتشدد لن يقبل بتفكيك المستوطنات فى الضفة الغربيةوالقدسالشرقيةوسيناء، وأنه لن ينسحب إلى الحدود الدولية، ولن يسمح بإنشاء دولة فلسطينية، أو حتى تقرير المصير، أو السيادة على الضفة وغزة.. هذا لأن بيجن كان صقراً من صقور إسرائيل الأوائل الذين ساهموا فى تأسيس دولة إسرائيل بالقتل والتدمير، وليس من المعقول أن يساهم فى تقويض أركان الدولة، بالتنازل عن الأرض للفلسطينيين من وجهة نظره. ويؤكد السفير بسيونى أننا توصلنا أثناء زيارة الرئيس السادات للقدس إلى ما كان يدور فى أروقة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والكنيست، تأكدنا أن بيجن يريد «بلع» الأراضى الفلسطينية، وتهجير أهلها إلى الأردن وإسرائيل ومصر حتى تكون أرضاً بلا شعب، على أساس أن إسرائيل كانت شعباً بلا أرض. علمنا من مصادرنا الخاصة كما يقول السفير بسيونى أن العدو يحاول التخلص من أى تعهدات قطعها مع الرئيس السادات أو هنرى كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق أثناء فض الاشتباك الأول والثانى كما أن مناحم بيجن قد قرر مقدماً وضع العراقيل فى طريق الرئيس الراحل وعلى رأسها إبقاء سيناء منزوعة السلاح، والإبقاء على مستعمرة ياميت جنوب رفح المصرية، بالإضافة إلى الإبقاء على المستعمرات والمطارات الأخرى القريبة من شرم الشيخ وإيلات ورأس النقب، ومركز القيادة المتقدم فى أم خشيب، وهو المركز الذى دمرته الطائرات المصرية فى الضربة الجوية الأولى بداية حرب أكتوبر، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قررت إسرائيل آنذاك أن تكون تلك المطارات والمستعمرات تحت السيادة الإسرائيلية. وفى سؤال لأكتوبر عن سر تمسك العدو بالمستوطنات والمطارات فى سيناء قال السفير بسيونى: لأنه أراد أن تكون المستوطنات شوكة فى حلق الشعب المصرى، والذى لن يقبل بمثل هذه المستعمرات على أرضه حتى استشهاء آخر جندى مصرى، أما المطارات فإن العدو يدرك جيداً مدى أهميتها لسلاح الجو الإسرائيلى، والذى بإمكانه فعل الكثير فى حاله تراخى أو تجاهل الخصم لهذه القوة، ومن هنا فقد أصرت إسرائيل آنذاك على التمسك بالمستوطنات والمطارات، حتى تكون لها السيادة والمبادأة إذا تجددت الحرب على أرض سيناء، فى أى جولات قادمة، ومن المؤكد كما يقول السفير بسيونى أن إسرائيل لا تعترف بالحدود الثابتة، ناهيك عن السياسة التوسعية الراسخة فى العقيدة الإسرائيلية. وعن نتائج زيارة الرئيس السادات للقدس قال السفير بسيونى: إنها حركت المياه الراكدة، ودفعت عجلة السلام إلى الأمام، وقد ساهمت تلك الزيارة فى رفع شعبية الرئيس السادات الذى يكره الحرب، ويسعى للسلام، ويترحم على أرواح جنود الأنبياء موسى وعيسى ومحمد، ويحمل على عاتقه هموم الأمهات الأرامل والثكلى، والشيوخ والأطفال، وقد أثبت السادات للعالم أن الهدف من الزيارة هو التوصل إلى سلام عادل وشامل مع التأكيد على أن الأمة العربية تمتلك كل مقومات القوة والاستقرار. واعترف السفير بسيونى من خلال حديثه ل «أكتوبر» أن الرئيس السادات كان رجل حرب، وكان فى المقابل رجل سلام.. كان واثقاً من شعبه وجيشه وقد أعلن صراحة بعد نصر أكتوبر، أن الوطن أصبح له درع وسيف، ولذلك قرر عندما أعلن فى 5 يونيه عام 1975 - لاحظ التاريخ - أنه سيتم فتح قناة السويس أمام الملاحة البحرية بعد عملية التطهير التى أجرتها البحرية الفرنسية والبريطانية والأمريكية والسوفيتية - أنه ستتم عودة المهجرين من سكان مدن القناة، والأهم من ذلك أنه حذر إسرائيل آنذاك قائلاً: إذا أقدمت إسرائيل على ضرب أى مدينة من مدن القناة، أو أى سفينة عابرة سيضطر إلى ضرب تل أبيب، ولهذا فقد كانت ثقة الرئيس السادات فى قواته المسلحة لا حدود لها. كما أن الرئيس السادات كان يجيد قراءة المستقبل فمع أن العالم كله يعتقد أن إسرائيل تحمى مصالح أمريكا فى المنطقة فإن الرئيس السادات كذب هذه النظرية وأكد أن إسرائيل لا تهمها إلا مصالحها الخاصة، ولا تستجيب لأمريكا إلا إذا كانت الإدارة قوية، والدليل على ذلك أنه فى ظل حكومة الرئيس الأمريكى «فورد» الذى تم تعيينه بعد فضيحة ووتر جيت فى عهد نيكسون لم يتحرك السلام قيد أنملة هذا لأن إسرائيل لا تتحرك إلا بمنطق القوة الغاشمة، مع أن أمريكا هى صاحبة الفضل فى إنقاذ إسرائيل من قبضة الجيش المصرى فى 73، حيث أمدتها من الإبرة للصاروخ أو من رغيف العيش إلى الفانتوم، كما يقولون إن الرئيس السادات لم يذهب إلى القدس للحصول على سلام منفرد، أو للتفاوض من أجل سيناء فحسب، ولكنه سافر للحصول على حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، وعودة الجولان إلى أحضان الشقيقة سوريا. وعن أجواء سفر الرئيس السادات إلى القدس يتذكر السفير بسيونى فى سر - ربما يذاع لأول مرة - أنه بعد إذاعة نبأ سفر الرئيس الراحل اتصل به د. محمد حسن الزيات وزير الخارجية آنذاك وطلب منه جس نبض القيادة السورية ومعرفة انطباع الرئيس الأسد عن الزيارة، و- كما يقول السفير بسيونى - تقابلت مع الرئيس السورى، واكتشفت من أول لحظة ملامح الغضب التى بدت على وجهه، وحينها اتهم الشارع السورى كغيره من الشوارع العربية الرئيس السادات بالخيانة، والعمالة لإسرائيل وأمريكا، ومع ذلك فقد قرر الرئيس السادات السفر إلى دمشق للتباحث حول الجولان، ووضع حلول عملية لانسحاب إسرائيل من قمة جبل الشيخ، ثم باقى الهضبة على مراحل، إلا أنه للأسف الشديد لم يتقبل الرئيس الأسد الزيارة، ولم يقابل الرئيس السادات كما ينبغى، ورفض أى مفاوضات مع إسرائيل، وكرر ما كان يردده الرئيس الراحل جمال عبد الناصر:(إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة)، ومرت أكثر من أربعين عاما كاملة، لم تتحرر الهضبة حيث ضاع جبل الشيخ رغم ارتفاعه وضاعت أرض الجولان رغم اتساعها فى حين نجح الرئيس السادات فى استرداد أرضه كاملة وأصبحت السيادة الوطنية للقوات المسلحة المصرية رغم ارتفاع وتيرة التخوين التى أصابت الرئيس السادات فى حياته وبعد مماته. الرئيس السادات - كما يقول السفير بسيونى - زار القدس من أجل السلام والعرب واستشهد أيضاً من أجل السلام والعرب، قال لحسن كامل رئيس ديوان رئيس الجمهورية: اذهب مع فوزى عبد الحافظ والفريق الماحى واللواء عزيز إلى إسرائيل وقل لهم إن السادات قادم، وسيخطب فى الكنيست.. السادات سيأتى إلى إسرائيل مرفوع القامة، وبالفعل سافر السادات مع مصطفى خليل، وعثمان أحمد عثمان وبطرس غالى وكان الكاتب الصحفى الكبير أنيس منصور هو الصحفى الوحيد الذى رافق الرئيس السادات فى رحلته إلى القدس. وفى القدس هبط الرئيس السادات فى مطار بن جوريون.. توقع الإسرائيليون أن السادات لم يأت، ولم يركب الطائرة من الأصل.. ترقبوا طائرة السادات عندما حلقت فى الجو،وراقبوها عندما دخلت الأجواء الإسرائيلية، عندها تبعتها طائرات الفانتوم ليس بغرض الحماية، كما يظن البعض ولكنهم توقعوا أن السادات الحقيقى لم يركب الطائرة، وأن الموجود بالطائرة هو.. سادات آخر.. سادات مزيف.. رجل بألف وجه، رجل يرتدى «ماسك» ويقود مجموعة من الصاعقة والقناصة ليقضى على كل جنرالات إسرائيل فى مطار بن جوريون. يقول السفير بسيونى: رعب يوم كيبور كان بمثابة كابوس أو هاجس للعقلية الإسرائيلية وهذا ما دعا عايزرا وايزمان وزير الدفاع الإسرائيلى إلى نشر قوات من القناصة والصاعقة والمظلات على المبانى المحيطة بالمطار تحسباً لما هو آت.. يتذكر السفير بسيونى قائلاً: كانت أخبار إسرائيل تأتينا فى المخابرات لحظة بلحظة، وكنا نقوم بتحليلها، وإرسالها إلى الجهات المعنية لرفعها إلى الجهات المسئولة.. وبعد هبوط الطائرة ونزول الرئيس السادات توجه والوفد المرافق له إلى فندق الملك داوود ليسترجع أيام الحرب والنصر، والانكسار والهزيمة.. كان السادات -رحمه الله- ينظر إلى موضع قدمه ويدرك أن أوراق اللعبة فى يد أمريكا.. وكان يعرف أقدار الرجال.. قال فى جلسات خاصة - والكلام على لسان السفير بسيونى - إن بيجن رجل حرب، وبالتالى فهو أول من يعرف قيمة السلام، وأن عايزرا وايزمان يعشق تراب مصر فلا مانع عنده ان يكون معينا له على جولدا مائير، وموشيه ديان، وكان يدرك أيضاً أن إسحاق نافون - رئيس إسرائيل آنذاك - صديق كيسنجر فقربه إليه وجعله من خاصته حتى أن «نافون» كان بمثابة حلقة الوصل أو الخيط الرفيع بين مصر وإسرائيل فى أوقات الأزمات. يقول السفير بسيونى: كنا نخشى فى المخابرات على حياة الرئيس الراحل، ولأول مرة بعد حرب أكتوبر يتم رفع حالة الطوارئ تحسبا لأى خرق إسرائيلى متوقع.. أمرت القيادة العامة للقوات المسلحة وقتها بقطع الإجازات، واستعداد القوات - تحسبا كما قلت لأى ظروف طارئة - وكان السادات قائدا شجاعا واثقا من نفسه ومن قدرة القوات المسلحة على فعل المستحيل. ولأن أحداث سيناء قد وضعت الملح على الجرح كما يقولون يؤكد السفير بسيونى أنه قد حدث لغط وهجوم على معاهدة السلام التى وقعها الرئيس الراحل أنور السادات مع مناحم بيجن ورعاية الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، وهذا الهجوم من وجهة نظرى - كما يقول السفير بسيونى - ليس فى محله لأن المعاهدة أولاً: قابلة للتعديل، كما أن الزمن - وهذا ثانيا - أصبح غير الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وانفراد أمريكا بالعالم لكونها القوة العظمى الموجودة حالياً، أما ثالثا وهو الأهم فإن التطور التكنولوجى فى الأسلحة والمعدات أصبح عامل ردع لا يستهان به، فإذا كانت إسرائيل تعتقد أنها متفوقة عسكريا وتكنولوجيا بفضل الدعم الأمريكى اللامحدود، فلا بد من التأكيد على أن هذا التفوق لن يضمن لها السلامة أو الأمن لأن التفوق لم يعد حكرا على إسرائيل وأمريكا، بل أصبح فى متناول المنظمات والحركات ناهيك عن الدول والجيوش النظامية الحديثة فى ظل تنوع مصادر السلاح وانتشار الأقمار الصناعية العسكرية والتى تملكها أغلب الدول المعنية، ويجب ألا ننسى كما يقول السفير بسيونى أن المشير محمد حسين طنطاوى رئيس المجلس الأعلى والقائد العام للقوات المسلحة قد أكد أكثر من مرة على أن سيناء مؤمنة عسكريا بدرجة مائة فى المائة، ولا شك أن رجلا مثل هذا أفنى عمره فى خدمة العسكرية المصرية يعى ما يقول، ويدرك تماما أن الدنيا أصبحت غير الدنيا لسبب بسيط هو ما كان يمكن حدوثه فى الأمس من الصعب - ولا أقول من المستحيل- حدوثه اليوم. فى الحلقة القادمة الملفات السرية فى معاهدة السلام وحكاية التعويضات والألغام ودير السلطان.