إنه لمن الضروري بمكان أن نعرف الفرق بين "الخلق" و"الإبداع" قبل أن نصدر أحكاما علي فرع أو أكثر من فروع الإبداع التشكيلي بأنه يدخل في نطاق المحرمات. فهناك فارق كبير بين الخلق الإلهي، والإبداع البشري، "فالخلق" يختلف اختلافا بينا عن "الإبداع" في أن الخلق يكون من العدم، والله وحده هو القادر عليه، وقد خلق الله كل الأكوان بما فيها الكون الذي نعرفه والأرض التي نعيش فوق سطحها منذ الأزل بنفس الكيفية التي هي عليها الآن متضمنة كل العناصر التي اكتشفها الإنسان تباعا علي مر العصور وسيظل يكتشف المزيد، بينما لم يستطع الإنسان منذ الأزل وحتي الآن وإلي الأبد أن يخلق ذرة واحدة من أي من تلك الموجودات لأنه هو نفسه مخلوق وبالتالي فليس في استطاعته أن يدرك ماهية أو كيفية الخلق، وبالتالي لا يمكن أن يكون خالقا بأي حال من الأحوال، أما الإبداع البشري فهو نشاط إنساني يستطيع أن يقوم به عدد قليل من البشر وهبهم الله القدرة علي إعادة ترتيب بعض الأشياء الموجودة بالفعل بهدف إنتاج عمل فني يحاكي بعضا من نسب الجمال الموجودة بالفعل في مخلوقات الله، أي أنه لا يأتي بشيء من العدم لذا فالإنسان يستطيع أن يخترع.. يبتكر.. يبدع.. وحتي هذا الإبداع لا يحدث إلا كنتيجة لمؤثرات خارجية فهو يخضع لمثيرات أو محفزات أشياء موجودة بالفعل سواء أكانت مادية ملموسة أو تخيلية مدركة. من ذلك يتضح جليا أن الخلق والإبداع متمايزان ومختلفان من حيث "النوع" وليس من حيث "الدرجة" أي أنه مهما برع الإنسان في الإبداع فإنه لن يصل رلي القدرة علي الخلق من العدم، وحتي إذا استخدمنا لفظ الخلق في الحديث عن الأعمال الفنية بديلا عن لفظ الإبداع فهو هنا يعتبر لفظا مجازيا يعني إبداع عمل فني وليس خلق بشر أو حيوان أو طير. إن الفنان المسلم قد استطاع إدراك "الغيبيات" حين آمن بوجود الله بعد أن قضي أجداده قرونا عديدة لا يدركون إلا ما هو في قالب "المحسوسات"، فعندما أتي الدين الجديد انتقل بالفنان إلي درجة من الرقي الروحاني جعلت في استطاعته تجسيد المعاني الروحانية المجردة في أعمال فنية مبتكرة وفي قالب جديد لم يسبقه إليه أحد أحد وهو "التجريد الهندسي"، ولكن بعد أن استقرت المفاهيم الدينية الجديدة في أرواح ونفوس وأذهان المسلمين في العصور التالية لذلك، أدرك الفنان المسلم بفطرته السليمة أنه لم يعد هناك أي شبهة في استخدامه للأشكال الآدمية في رسومه. وقد اتجه فن التصوير الاسلامي في اتجاهين، الأول هو التصوير الجداري والثاني هو التصوير الإيضاحي "المنمنمات" الذي يملأ المخطوطات وقد انتشر هذان النوعين في قصور الولاة وعلية القوم من العلماء والأدباء والشعراء، وكان أغلب رسامي المنمنمات هم من أمهر الخطاطين. وقد برع الفرس في فن التصوير كما برع العثمانيون أيضا سواء أكان لوحات مستقلة أو صورا توضيحية استخدم فيها الفنان عناصر مستمدة من الحيوانات والطيور والنباتات فضلا عن تصويره للإنسان. ومن أمثلة هذه المخطوطات قصة "إسكندر نامة" للشاعر التركي العثماني "أحمدي" والتي نسخها "حاجي بابا" وهي توجد بالمكتبة الأهلية بباريس وتحتوي علي عشرين صورة رسمها مصور مجهول، ومن أمثلة الكتب العلمية نجد مخطوطة لكتاب "الجراحة" للخطاط "شرف الدين" وهي تحتوي علي 140 صورة تشرح خطوات إجراء العمليات الجراحية في ذلك العصر، وبالطبع تحتوي علي صور آدمية، كما يوجد مخطوط آخر عثماني مؤرخ 905 ه وهو يدور حول قصة "خسرو وشيرين" يمتلئ بالرسوم الآدمية التي رسمها مصور عثماني مجهول وهو يوجد في مكتبة ابسالا في السويد. كما أن هناك مخطوطات كثيرة ترجع إلي عهد السلطان "سليمان القانوني" منها مخطوطة "سليم نامة" التي تحتوي علي 24 صورة تصور فتوحات السلطان سليم الأول، ومخطوطة "منازل السفير" التي نسخها ورسمها الفنان "نصوح" وهو من أشهر الفنانين في ذلك العصر. وتعتبر مخطوطة "كتاب المهرجان" من أهم المخطوطات التي تصف الكثير من مظاهر الحياة للشعب العثماني وهي ترتكز علي حياة الطبقة المتوسطة من تجار وحرفيين وتصور أيضا المهرجين اللذين كانوا يدخلون السرور علي نفوس البسطاء من الشعب بألعابهم الضاحكة، فقد صورت هذه المخطوطة الاحتفالات المختلفة التي كان يقيمها أفراد الشعب في المناسبات الحياتية المختلفة، لذا فهي تعد مخطوطة نادرة وفريدة من نوعها بين المخطوطات الإسلامية المصورة وتنتمي الأعمال المصورة فيها إلي مدرسة المصور عثمان التي بلغت الذروة في فن التصوير، كما يذكر المؤرخون. أما مخطوطة مقامات الحريري الأكثر شهرة فهي تحتوي علي 99 صورة تصور عرضا للحياة اليومية عند العرب في ذلك الوقت والدور الذي كان يؤديه العلم فيها. ومن أبرز أمثلة أعمال فن رسم الصورة الشخصية هي صورة "شابيك فان" التي رسمها المصور الإيراني "بهزاد" في القرن 9 ه 15 م وهو يعد من أشهر المصورين الإيرانيين آنذاك في مجال التصوير سواء فن البورتريه أو فن تصوير الطبيعة بطريقة خاصة تعتمد علي ابتكار درجات لونية جديدة بأسلوب خاص في طريقة مزجها بالإضافة إلي المهارة في استخدامها ويظهر هذا بوضوح في مخطوطة "البستاني" التي توجد بالهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة حيث يتجلي فيها جمال التكوين وبراعة التلوين. ومن أمثلة فن الصورة الشخصية نسوق مثالا ثانيا من المدرسة الهندية المغولية "القرن 11 ه 17م" وهي رسم يصور "شاه جهان" جالسا علي عرشه ونلاحظ اختيار المصور الوضع الجانبي للشخصية. كما توجد في المتحف الإسلامي بالقاهرة أمثلة من تلك الصور التراثية نجدها علي حنية بها رسوم هندسية متداخلة ووحدات نباتية بالإضافة إلي بعض الرسوم التشخيصية، كما توجد أعمال نحت خزفي سنتحدث عنها في مقال الأسبوع القادم بإذن الله ضمن مقال "فن النحت الإسلامي".