ربما كانت الدراما النفسية هي الأقدر والأكثر تعبيرًا عن قدرات الفنان التمثيلية، لما لابد أن يبدو فيها من توحد بين شخصيته الحقيقية وتلك التي يلعبها إلى حد كبير حتى يستطيع أن ينقل هذه الصراعات النفسية للمشاهد، لكن هذه المشاهد القاسية إذا رآها المشاهد مرة أو اثنتين أو حتى خمس مرات فلن يستطيع تحملها لمدى زمني أطول من ذلك، خصوصًا مع عدم وجود انفراجة في الأحداث. "سقوط حر" اسم ربما تكشف عنه الحلقات المقبلة من المسلسل الذي تلعب بطولته الفنانة نيللي كريم، فحتى الآن لا يوجد رابط مباشر بين الاسم وعلاقته بالأحداث، فهذا المصطلح تفسيره في عالم الفيزياء بكونه حركة الجسم بتأثير قوة الجذب فقط، وفي اللغة العربية يعني سقوطًا طليقًا، وإن كان العنوان ليس هو الحديث الأهم في هذا الموضوع فربما يتضح تفسيره في الحلقة الأخيرة، ولكن الأهم هنا هو ما حمله العمل من تفاصيل تتعلق بالحدث الدرامي والشخوص. عشر حلقات مرت على الأحداث، ولا يوجد حدث أعظم من الذي انطلقت من خلاله حيث قتل "ملك" التي تلعب دورها نيللي كريم لشقيقتها وزوجها بعد أن اكتشفت خيانتهما معًا كما جاء بالحلقة الأولى، لنعيش بعدها في رحلة دخولها مستشفى العباسية بقسم المودعات، وما تعيشه من صراعات نفسية في تذكرها لأهلها ونجلها في بعض اللحظات من ناحية، أو في التعامل مع مجتمع النزيلات معها من ناحية أخري. وحتى الآن سارت الحلقات العشر الأولى على هذا النهج، أو بمعنى أدق ترصد لحالة المستشفى ومرضاها، حيث تقوم كل نزيلة بحكي قصتها على البطلة في توضيح لسبب وجودهم هناك، وعلى مدار الحلقة نعيش وسط أوهام الحقيقة والخيال ل "ملك"، ونغوص معها في صراعاتها النفسية ما بين بكاء أو صرخات أو حصولها على جلسات الكهرباء من أجل حدوث نوع من الصدمة لها لاستمرار تفاعلها مع الحياة. والحقيقة أن اجتهادات نيللي كريم أو "ملك" كما هو بالأحداث لا يمكن وصفه في سطور، فقد اجتازت النجمة مرحلة الاختبارات والتقييم وأصبحت كما لو أنها خلقت بالفعل لتكون ممثلة وليست راقصة باليه كبداياتها أو ممثلة مساندة في أدوار لا تتوازن مع حجم موهبتها التمثيلية، فالتوحد الذي بدت فيه نيللي كريم مع هذه الأدوار المركبة يستحيل فصله عن شخصياتها الحقيقية خلال مشاهدتنا لها، ولعل أدائها لهذه التركيبات النفسية المعقدة الذي بدأ مع مشهد قتلها لزوجها وصديقاتها في مسلسل "سجن النسا" وصدمتها بعد قتلهم لها قد وصل لقمته في هذا العمل من حيث الأداء الداخلي للشخصية التي تلعبها، والتي تنعكس في تجسيدها بملامحها الجسدية ممثلة في درجة الثبات التي بدت عليها في الأداء خصوصًا في الحلقات الأولى حيث ظهرت مثل التمثال لا تحرك ننًا أو ترمش عينًا، لا تدير رقبتها أو تهز أذرعها. ويبدو أن النجمة استعادت دورها جيدًا حتى تخرج بهذا الأداء الثابت في حركاتها ونظراتها، وردود أفعالها في رؤية أهلها، حتى نبرة صوتها تتغير معها بحسب الصراع النفسي الذي تجسده، وبالتأكيد أن الأطباء النفسيين سيكونون منبهرين بأداء نيللي كريم الذي لابد أن نرفع القبعات له، ولكن ما قيمة هذه الانفعالات دون وجود انفراجة في الدور والأحداث، فنحن في النهاية أمام عمل درامي وليس حالة مرضية، فالملل يغلب على الحلقات التي راح ثلثها الأول في مجرد تجسيد هذه الصراعات بما تحمله من قتامة على الشاشة دون أن يكون المشاهد في حالة شغف لتتبع الأحداث وانتظار ما سيطرأ عليها من جديد، وحتى إن كانت الحلقات المقبلة من العمل قد تحمل مفاجآت للمشاهد فإن ما انقضى منذ مطلع الأحداث ومرور هذا الوقت دون وجود حدث بالتأكيد أنه انتقص الكثير من حالة العمل ووهجه خصوصًا مع هذه الحالة السوادوية التي يقدمها. أما "سليم" الذي يجسد دوره الفنان أحمد وفيق فهو الشخصية الوحيدة التي قد تبدو أنها عادية لكنها تحمل أبعادًا خفية وراءها، وتضعنا دائماً في حالة تفكير نحوها، فهو زوج القتيلة الخائنة شقيقة المتهمة، وربما يكون هو المدبر الحقيقي للحدث، عن طريق تهيئة "ملك" للجريمة وشحنها لارتكابها بإيهامها بأنها مريضة نفسية، وهناك بعض الدلالات التي ظهرت بالأحداث قد تشير لذلك مثل كونه الوحيد الذي كان يعرف أنها تذهب لطبيب نفسي أو نظرة عين ملك له بعد رؤيتها له بالمستشفى، أو مساعدته لها من أجل الخروج من هذه المستشفى، إضافة إلى محاولته حل مشاكل ابنها، وأيضاً بعد مشاهد الصراع النفسي بداخله التي يصرخ فيها وإن كانت هذه الأمور نوعاً من ترضية الضمير. ولكن بعيدًا عن هذا التوقع، فالنجم يقدم دوره بأداء جذاب، بل أنه لولا ظهوره في هذا العمل لما استطعنا تحمل مشاهدة الحلقة كاملة لما فيها من قتامة، فعلاقته بصديقته أو محاولته أن يكون صديقًا لابن شقيقة زوجته"آدم" من خلال أدائه الباسم الذي تبدو فيه ملامح الطيبة، خففت كثيراً من هذه القتامة، هذا بالإضافة لتجسيده الصراعات النفسية الداخلية التي يعيشها في تذكره لحياته مع زوجته في تلاحم شديد معها ممثلاً في نظرات عينيه أو حركة الفم وجذه على أسنانه وغيرها. ولأول مرة تغيب موسيقى تامر كروان عن أعمال نيللي كريم، ورغم أن واضعها هو أحد أعلام الموسيقى على مستوى الوطن العربي وهو رعد خلف لكنها لم تحمل أية جاذبية في الأحداث أو بريقًا خاصًا في المسلسل كعادة أعمال النجمة في كل عام. الحالة التي ظهر عليها مسلسل "سقوط حر" للمؤلفة مريم ناعوم، والسيناريست وائل حمدي، لم تظهر بنفس القدر من السلاسة والسرعة في الأحداث التي عودتنا عليها من قبل ولكن لعل مضمون القصة هنا قد وضع صناعه في هذا الحصار فيما يتعلق بضرورة التطويل بتقديم الانفعالات والصراعات، وأن الأمر لعله مقصود من وجهة نظر صناعه لإحداث حالة أكبر من المعايشة مع حالة البطلة . أما الإخراج لشوقي الماجري فبالتأكيد أن هناك مجهودًا مبذولاً في العناية والاهتمام بتصميم أماكن تشبه الواقع، إضافة إلى ما يملكه من فن إدارة الممثلين لخروج أفضل ما لديه من أداء، ولكن يبدو أن تأثر الماجري وحبه للطبيعة أو بالأخص مشاهد المياه لم يتخل عنها في هذا العمل، وظهر ذلك مثلاً في مشاهد الأحلام كغرق نيللي كريم بسقوط سريرها في المياه أو عندما كسر أحمد وفيق جزءًا من سور المستشفى فتذهب لترى بحرًا كبيرًا أمامها.