دلفت إلى حجرتي وتحسست طريقي في الظلام المغلف بالصمت إلى حيث مكتبي ,وأوقدت المصباح الصغير فوقه ,وبدأت أطالع جريدة اليوم الجديد وقد أتى بها أبى لتوه من بائع الجرائد على ناصية شارعنا, لكنى خطفتها من يده لأقراها قبله كالعادة وتساءلت وأنا منهمكة في تقليب الجريدة لم أطالع الجريدة أصلا ؟ وأنا يوما لم أكن من هواة قراءة الجرائد بعد أن صارت حائطا تعلق عليه أوجاع الناس وصرخاتهم, حوادث, كوارث, قضايا فضائح ومشاكل لا تحل على الأغلب.! ومنذ أن صارت الصحافة ضجيجا بلا طحن مكلمة ليس أكثر كل من هب ودب يكتب مقالا ويصبح كاتبا صحفيا يصدعنا على الفضائيات منذ أن صارت سماء بلا نجوم ومع ذلك ترى كل اسم يسبقه حرف" د" من أين أتى به وفى أي مجال لا تعرف أو المفكر الكبير فلان الفلاني وتجده ابيض يا ورد دُمى منفوخة ترتدي ربطات عنق أو من ذوات الشعر المصبوغ والأظافر المطلية بعناية لذا فلم اعد احترم صحيفة ولا صحفي لم اعد أؤمن بأنها السلطة الرابعة أطالعها لأبحث عن أخبار النجم فلان الفلاني أو أخر فضائح النجمة العلانية أو لأنني ابحث عن وظيفة ليس أكثر دعوني اذكر اننى أحب الصور جدا أحب مشاهدة الصور محنطة على الورق في جريدة آو معلقة على جدار واذكر العبارة الشهيرة الصورة تغنى عن ألف كلمى التي أصابنا الملل من كثرة تردديها في الكلية, استمر في مطالعة الجريدة ,تمر عيناي على الصور في روتينية استوقفتني صورة ..صورة عادية بجانب خبر عادى لم تكن لتلفت انتباهي أبدا مررت عليها بشكل عابر ثم عدت إليها مرة أخرى بلا مبرر في الحقيقة وان شعرت تجاهها بإحساس غريب وكأن هناك من يراقبني فيها ابتعدت بعيناي عنها ثم شدني نفس الإحساس مرة أخرى فعدت إليها من جديد واقتربت منها وشعرت وكأنها تنبض امامى بالحياة و أن أشخاصها أفراد من لحم ودم كانت صورة لمجموعة من الرجال وقد ألقى القبض عليهم من قبل الشرطة في بلد افريقى ما ,وجوه سمراء متعبة بائسة مستسلمة أجساد نحيلة وعظام بارزة ملابس بالية لا تزيد عن فانلة داخلية لم يعد يعرف لونها الحقيقي وبنطلون جينز متهرئ ويبدو أنهم طبقا لعنوان الخبر المنشور أمامي متمردين أو قراصنة أو بلطجية وان كان مظهرهم في الحقيقة لا يناسب اى من تلك التوصيفات فهم اقرب لضحايا المجاعات منهم إلى اى شئ أخر كانوا ما بين جالس وواقف وارى على جانب الصورة جنديان -لا يبدوان في حال أفضل منهم- كل منهما يصوب نحوهم مدفع رشاشا عدت إليهم مرة أخرى و توقفت عند وجه شعرت وكان عيناه تتباعانى تنظران لي أنا بالذات تصرخان في برغم اننى لا اسمع لصاحبهما صوت وأتوقف عنده كان صاحب الوجه يجلس أقصى يسار الصورة ويبدو انه استسلم بعد معركة طويلة وأمن بان هذه هي النهاية كان ينظر إلى في ثبات "هل جننت أخيرا؟!" هكذا تحدثت إلى نفسي وأثناء انهماكي في التأمل زاغت تفاصيل الصورة عن عيني و شردت وافقت من شرودي على أنفاس ملتهبة تلفح عنقي انتفضت وقمت من مكاني ووجدته....! نعم هو صاحب الوجه في الصورة بشحمه وعظمه ينظر لي ببقايا ضحكة في عينيه - لأنه نجح في إفزاعي - لم تقو على أن تطال الشفاه أوان يصدر لها صوت لأنه اضعف من ذلك أو ربما لأنه فقد القدرة على الضحك ومن بين أنقاض هذه الضحكة تكلم بصوت خفيض وقال "لا تخافي" لا أتذكر أكانت لغتي فكيف عرفها؟ أم لغته فكيف فهمته؟ سألته في توجس "من أنت؟" فنظر إليّ في حيرة "لا يهم اعتبريني بلا اسم ولا هوية مجرد رجل فقير لا يملك شيئا ثم لم يلبث أن استدرك في كبرياء" لا بل أمل ك شيئا وصمت قليلا ثم همس بصوت حالم "املك حلما" وتابع بصوت مكسور حتى كدت أسمع صدى تهشم الكلمات "أنا واعذريني لأني أقول أنا فانا تعطى الشخص وجود وأنا لست شخصا وليس لي وجود, أنا شئ قد يرمى كخرقة بالية متكورا على نفسه بجانب الطريق لينام, أو تشوطه الأقدام كالكلب الطريد إذا ما استجدى كسرة خبز أو شربة ماء, أنا لا شئ لا وزن لي ولا قيمة ليس لي حتى شهادة ميلاد تقيدني ضمن الأحياء" "أبواي فقيرين أنجبا الكثير ومات الكثير وشببنا لا نعرف شيئا سوى زراعة الأرض كمأجورين يرمى لنا الفتات ,والتسكع أمام الحانات الرخيصة ,ومغازلة الفتيات لكن يبدو أن هذه الطفولة البائسة كانت أكثر ترفا من كل ما تبعها" وأكمل حديثه "أنا لا سمة مميزة لي لا أصلح نجما سينمائيا ولا بطلا لرواية ولا حتى فتى أحلام ولا موضوع تحقيق صحفي أن البين بين الرمادي الظل أنا صفر بل أنا أنا..........."فاى" كنت أنظر إليه في حيرة من أمر وجوده معي فقال لي "انظري إلى جيدا بالطبع لن أصبح فتى أحلامك ولا حتى سترضي بان أصبح سائقك الخاص أنا واحد ممن ترينهم وتهربين بعينيك منهم مسرعة خائفة شاعرة بالذنب أو ربما الرثاء لحالي وينتهي الأمر لك عند هذا الحد " وبينما يسترسل في حديثه اتجهت إلى الكوميدينو بجانب سريري وكان فوقه قدحا من الشاي وطبقا به سندوتشات الجبن الرومي التي أحبها فحملتها إليه غير مكترثة بمعرفة ماهيته وهل يستطيع أن يأكل أم لا ؟ فنظر إليّ بلا اكتراث ثم عاد ينظر إلى اللاشئ واخبرني بصوت بح من الألم انه لا يريد شيئا مني إنما هو يستأنس بالحديث إليّ أو إلى اى شخص فحسب, وتوقف قليلا ثم تابع "عندما شاهدتك تقفين عند وجهي وتنتبهين إلى أنيني سعدت لان احدهم انتبه إلى لكن باقي شئ واحد هو أن تفهمي مشاعري ووجعي أنا لم يعد الطعام شاغلي فقد تعودت الجوع", فقلت له "ولماذا أنت مهموم هكذا طالما انك تعودت الشقاء؟ ما الجديد الذي يدمى قلبك إلى هذا الحد؟" قال لي في أسى" أتعلمين؟اليوم عيد ميلادي"وضحك ضحكة عالية بدت في أذنها كصرخة طير مذبوح ثم استأنف حديثه "أسف إنما اضحك لأنني قلت عيد تخيلي يوم ميلادي أنا عيد" قلت له "كل عام وأنت...." لم أدر ماذا أقول سألني "وما هو الخير في حالتي؟ وقام ليتمشى في أرجاء الحجرة إننا أشخاص ندرك منذ ولادتنا انه لا فردوس هنالك, لم يخلق لأمثالنا نحن نصير أرقاما منذ ولادتنا إلى أن نموت لا نصبح بشرا أبدا ولا نعامل كالبشر ولا حتى كالأرقام التي تختصر حسابا في بنك أو في شمعة عيد ميلاد تخيلي رقم يختصر حياة بأكملها بآلامها وأحلامها . " المصيبة أنني بلا شئ مميز,فوجهي مجرد وجه لا تتعلقين به ولا ينفرك وجه يصلح فقط لأن ينسى...! لن يجلس أمامي فنانا ليرسمني رمزا للبؤس, ولن يصورني مصور فوتوغرافيا بدعوى الالتفات لحقوق الإنسان لانى في اى صورة أبقى ككل شئ موجود لكنك لا تراه وحتى حياتي لا تصلح فيلما سينمائيا ولن تحكيها لصديقاتك كشئ غير عادى, حياتي تشبه حياة ملايين غيري فلماذا أتميز أنا بينهم, ويوم وفاتي أو مقتلي -على الأرجح- ستقرئين مصرع 72الف في احد الزلازل أو ربما مجاعة أو حتى هجوم لمتمردين ومن الجائز جدا أن اسقط في احد المستنقعات, أو تلتهمني الضواري ولن تعرفي أبدا إن كنت أول ال72 أم أخرهم اى انه حتى عالم الأرقام المجرد لن ينصفني وسأكون جزء من حدث اكبر منى لا يخصني وحدي" لكنى احلم كذلك مثلكم, ربما هذا الشئ الوحيد الذي يجمع بيننا وبينكم أيها البشر الحقيقيون, يا من تحيون حقا ,وتتنفسون حقا ,وتنبض قلوبكم حقا ,بينما تنفجر انهار الألم من أشلائنا التي تتنفس بالحتمية وليس لأنها تريد, نصلب على أسنة أيام أعمارنا المديدة قياسا للشقاء الذي عانته وليس الأيام التي عاشتها" "....آه, يوم ميلادي ولم احتفل بخمسة وعشرون عاما من الجري واللهاث خلف الفتات؟ قهر وعجز عن تحقيق ابسط الأحلام, لقد سرق منى كل شئ حتى ادميتى وجدت أنني في بحثي عن لقمة العيش لأسد رمقي -ليوم واحد, لساعات محدودة- من جذور النباتات ومقالب القمامة صرت كالحيوان", واقترب مني وهو يضم يديه إلى صدره وكأنما يبتهل "تخيلي أن تختصر حياتك في البحث عن كسرة خبز وقد لا تجدينها ؟ لقد تحولت حياتي إلى فرار, فرار من الجوع, فرار من أحذية الناس ,وفرار من فوهات البنادق أجاهد لأبقى حيا ولا ادري لماذا أجاهد؟ ولماذا أبقى حيا ؟ الذي كان يبقيني على قيد الحياة هو اننى ما زلت احلم أتمنى أنا اجلس والبحر امامى اللانهاية الوسع الخير البراح احلم بقارب أدور به حول العالم أعيش كروبنسون كروزو, هل قرأت هذه القصة ؟" أومأت برأسي إيجابا وبدا كطفل صغير وعيناه تلمعان وهو يستعيد تفاصيل الرواية في ذهنه وقال" كان كتابا متهرئا وجدته في القمامة ولا ادري لماذا طلبت من احد رفاقي الذين يعرفون القراءة أن يقرأه لي ومن يومها والحكاية لا تفارقني أتمنى أن أصبح مثله لي جزيرتي الخاصة وحياتي التي املك وحدي حق التصرف فيها حياة استعيد فيها حريتي فانا لست حرا, فالجوع قيد,والعطش قيد,والسعي وراءهم يجعلك على الهامش ." حاولت أن اخفف عنه "انظر أنت تتميز عنهم فبرغم البؤس والشقاء ما زلت أرى عينا رجل يحلم حتى أن ألوان الحلم تلمع في عينيك,أكاد أراه واشم رائحته لم يسلب حلمك بعد مازال في وسعك أن تحققه طالما أنت حي قال ساخرا والدمع يسيل من صوته" بل سلبوا منى حلمي "وصمت برهة ثم أوضح "عندما امسكوا بي وبعد أن استسلمت لنهايتي جاءتني لحظة قادتني غريزتي لان أقاوم وان اهرب ولم أفز إلا برصاصة كانت أغلى شيئا دخل احشائى منذ ولدت وهكذا لن احلم مجددا" "ما يؤرقني اننى لم اصنع شيئا في حياتي ولدت لأموت بدون أن استطيع أن أقول عشت شيئا بين ولادتي وموتي من الصعب أن تفهمي أن من هم مثلى يفكرون هكذا ,ولكنها الحقيقة أنا حزين لاننى كنت مجرد عابر على الأرض كطيف لا يُرى ولا يترك اثر ولن يكون له قبر ومصيره إلى مقبرة جماعية في مكان مجهول, يزعجني اننى لم اترك رائحتي لتبقى في هذا الكون وتلتصق به, أريد أن اصرخ وارتفع صوته حقا " أنا هنا اسمعوني" وبدأ في هز قضبان وهمية "انظروا لي المسوني شموا رائحتي أنا موجود,لا تنسوني أرجوكم لا تنسوني, لقد كنت هنا أشم نفس هذا الهواء واشتهى رائحة الورد واسعد بمنظر البحر تمام مثلكم"وبدا طيفه في التلاشي ببطء وأنا أمد يدي إليه أحاول إنقاذه من مصير آل إليه بالفعل وصرخت "أنا سمعتك يا فاى وشممت رائحة ألمك ولمست أبواب حلمك, أنا هنا يا فاى لا تخف سأذكرك وسأذكرهم سيعرفون انك كنت هنا, سأرسم وجهك على الورقة سيعرفون أن هناك رجل عاش ليحلم ومات ولم يحقق حلمه.