وهذا نموذج جديد للفشل الديمقراطي! صلاح الدين حافظ لماذا يفشل العرب والمسلمون في اتباع النهج الديمقراطي السليم, في حين ينجح آخرون كانوا وراءنا بأزمان وأشواط؟ لست وحدي الذي يطرح هذا التساؤل المحير, ولكني أعتقد أن كثيرين يطرحونه, وفي الحلوق غصة لا تنقشع أو تنجلي.. كيف إذن ولماذا يغيب اليقين الديمقراطي في بلادنا, لماذا وحدنا نفشل في صنع قفزة ديمقراطية حقيقية, بينما نري شعوبا ودولا أخري, في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية, قد قطعت خلال العقدين الأخيرين أشواطا واسعة وبخطوات جريئة نحو الرقي الديمقراطي, القائم علي إطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان, وممارسة حرية الصحافة والرأي والتعبير كما يجب. ورغم تعثر التجربة الديمقراطية في مصر, متأرجحة بين خطوة للأمام وخطوتين للخلف, وهو أمر يستدعي منا التعمق في مقال مقبل, فإن الأحداث الساخنة هذه الأيام, تضع أمامنا نموذجين للفشل الديمقراطي في عالمنا العربي والإسلامي الواسع, نموذج باكستان في قلب الشرق الإسلامي, ونموذج لبنان في قلب العالم العربي, يضعاننا في مواجهة الفشل الديمقراطي المؤسف! ونبدأ بالنموذج الباكستاني, الدولة الإسلامية الوحيدة المالكة للترسانة النووية حتي الآن وعلنا, فمنذ أن استقلت باكستان عن الهند في أربعينيات القرن الماضي, وهي تغوص في مستنقع الانقلابات العسكرية والاضطرابات الأمنية التي حرمتها من الازدهار الديمقراطي, الذي حلم به آباء الاستقلال الأول وفي طليعتهم محمد علي جناح, الذين أصروا علي الانفصال عن الهند بعد تصفية الاستعمار البريطاني الطويل. لقد قام حلم الاستقلال علي أساس بناء دولة إسلامية مستقلة, تتبع نفس النهج الديمقراطي الغربي الكلاسيكي, من حيث الحريات والتعددية وتداول السلطة بين الأحزاب, لكن الحلم سرعان ما اصطدم بعقبات شديدة التعقيد, سواء في بنية الدولة الوليد, وتعدد قومياتها وشعوبها التي يجمعها الدين, أو من حيث دور المؤسسة العسكرية في إدارة الدولة. وبينما مضت الهند رغم كل تناقضاتها, وتعدديتها الإثنية والقومية واللغوية والثقافية والدينية وفي الهند مسلمون أكثر عددا من مجموع مسلمي باكستان, فبنت أهم وأكبر ديمقراطية في العالم القديم, واستقرت علي نظام برلماني وفق قواعد وست منستر البريطانية الكلاسيكية, وأصبحت قوة نووية يحسب حسابها, مثلما ازدهرت اقتصاديا رغم كل ما يقال عن مساحات الفقر والفقراء... رأينا كيف تعثرت باكستان سياسيا واقتصاديا وديمقراطيا, إلي الحد الذي صارت فيه عنوانا علي الحكم العسكري وحالات الطوارئ والانقلابات التي تخلع انقلابيين سابقين, اللهم إلا في حالات قليلة الشأن والمدة! بعيد الاستقلال خاضت باكستان حربا أهلية طاحنة, انتهت بانفصال بنجلاديش دولة مستقلة, وحملت الاثنتان كل أوبئة التخلف والفقر والحكم الانقلابي, تحت غطاء وهمي يدعي الديمقراطية, فإن تركنا بنجلاديش جانبا, فإن باكستان انكفأت علي مشاكلها المعقدة, الممتدة من الفقر والقهر الاجتماعي, حتي الطوارئ والقهر السياسي, وإن ظل الانجاز النووي هو العلامة المميزة الأهم في مسيرتها الطويلة نسبيا, ولم يكن ذلك الانجاز إلا لمجابهة الهند النووية عبر الحدود المشتعلة دوما. *** وها هي باكستان تعوم الآن فوق موجات من الاضطرابات, السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية, فما تكاد تنجو من انقلاب عسكري إلا وتقع في حبائل انقلاب جديد, وها هو الجنرال مشرف يقدم نموذجا جديدا من قادة الانقلابات العسكرية, الذين يلجأون إلي سلاح الطوارئ وترسانة الجيش لإحكام القبضة الحديدية علي السلطة, بعد تعديل الدستور وتطويع القانون والقضاء, ليضفي شرعية مزيفة, وبعد خلع اللباس العسكري لمصلحة اللباس المدني, رغم أن الطاغية العسكري هو هو.. ومن الظلم أن نسلب الشعب الباكستاني حقه في المقاومة, فثمة هبة شعبية ضد النظام العسكري الذي قهر التجربة الديمقراطية, وثمة معارضة بعضها وطني ديمقراطي حقا, وبعضها يمثل انقلابيين وعسكريين سابقين فقدوا العرش بانقلاب مضاد, وبعضها الثالث ربط مصيره ومسيره بالغطاء الأمريكي الصرف. وفي ظل هذه الحالة المترددة بين الفشل الديمقراطي, والفشل الإصلاحي الاجتماعي يكتوي الشعب الباكستاني بالحسرة, خصوصا إذا ما نظر إلي الاستقرار الهندي علي الجانب الآخر.. ونخطئ إن وافقنا علي مقولة إن الفشل الباكستاني يرجع فقط إلي حدة المواجهة مع غريمتها الهند, ولكن المؤكد أن الفشل يعود إلي عوامل داخلية باكستانية في الأساس, أما العوامل الخارجية فهي تأتي مكملة, مستغلة الفشل الداخلي أصلا. ومن قلب العالم الإسلامي, إلي قلب العالم العربي, يأتي لبنان نموذجا واضحا للفشل الديمقراطي أيضا, وها هو الشعب اللبناني المتميز يجني ثمار فشله في إنضاج تجربة ديمقراطية حقيقية وراسخة الأسس, علي مدي نحو ستين عاما من الاستقلال. وبالمقاييس العلمية الموضوعية, للاستقلال الوطني من ناحية وللحكم الديمقراطي من ناحية أخري, نستطيع المجازفة بالقول إن لبنان الذي نحبه جميعا, قد حرم من الاثنين معا, رغم كل الأصوات المرتفعة والشعارات الرنانة التي تتغني بالاستقلال والديمقراطية.. لقد عاث الجميع فيه فسادا, وامتدت كل الأيدي الشقيقة والصديقة, العدوة والكارهة, لتلعب في الساحة اللبنانية, التي رضيت منذ بدايات الاستقلال بأن تكون مفتوحة للجميع, رئة لتنفس الجميع, أرضا مرحبة وخصبة لكل من يريد التدخل والتآمر والمناورة والتربح والتنزه والاستمتاع, بكل ما هو طيب ولذيذ وجميل في لبنان.. من البنك إلي الكازينو, ومن الثقافة إلي الصحافة, ومن الجبل إلي الساحل. ازدهر لبنان سنوات ماليا وسياحيا واقتصاديا, وأثري كثيرون, لكن الأرض اللبنانية محدودة المساحة, شهدت أكثر الحروب شراسة, من الغزو والاحتلال الإسرائيلي المتكرر, إلي الحرب الأهلية الأشرس1975 1989, مثلما شهدت تدخلات عسكرية متنوعة, أشهرها بالطبع التدخل السوري تحت راية عربية وبموافقة غربية شهيرة! لقد ظللنا سنوات وعقودا نردد أن لبنان هو النموذج الديمقراطي العربي الوحيد, الناجح والمؤكد, نفخر بازدهاره ونعتز بدوره الثقافي والفني والسياسي, رغم الإمكانات المحدودة, نموذج كان يناطح أكبر الدول وأغزر التجارب التحررية, بفضل مساحة الحرية داخله.. لكن أي حرية هي, وماذا أنتجت حتي الآن من نجاح ديمقراطي حقيقي ومستمر! *** أعجبني في هذا الصدد, قول منسوب للعلامة السيد محمد حسين فضل الله, أهم مرجع شيعي لبناني, وخلاصته: أن لبنان مثل قطعة من الزبد, تتناوشها سكاكين الفرقاء اللبنانيين المختلفين الآن.. طبعا لإعادة تفتيتها! وليس الفشل الديمقراطي في انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية, كما هو حادث حتي اليوم, إلا تطبيقا لمقولة السيد فضل الله, لأن الديمقراطية ليست أصيلة وقواعدها ليست راسخة وفضاؤها ليس خاليا من أصابع المتدخلين, وساحتها ليست إلا مسرحا لتقاطعات وخلافات إقليمية وأجنبية, فوق الداخلية, كل يريد قطعة ولو صغيرة من الزبد الهش! وتأمل ما يجري في الساحة اللبنانية, المضطربة, خصوصا منذ اغتيال رفيق الحريري, رئيس الوزراء الأسبق, في فبراير عام2005, لن تجد إلا قواعد الفوضي والفراغ تحكم بدلا من قواعد الوفاق والديمقراطية, ولن تجد إلا تدخلات أجنبية وإقليمية باسم الوساطة, تريد تمزيق الممزق, علي حد تعبير صديقنا الكاتب اللبناني الكبير محمد السماك. لقد خرجت القوات السورية(30 ألفا) من لبنان إثر تداعيات اغتيال الحريري, لكن دخلت قوات أخري دولية وإقليمية, وانقسمت الطبقة السياسية ما بين الموالاة والمعارضة, الأولي ارتبطت بمحور المعتدلين العرب, وبأمريكا وفرنسا, والثانية ارتبطت بسوريا وإيران والثوريين العرب, أو ممن تبقي منهم.. الكل يتصارع علي قطعة من الزبد. وها هي التجربة الديمقراطية اللبنانية تتعثر من فشل إلي فشل, إن كان للتدخل الأجنبي دوره, فإن التمزق الداخلي يبقي هو الأصل والأساس, فقد عجز اللبنانيون عن فهم وتطبيق القواعد الديمقراطية السليمة, أساسا للتعايش بين موزاييك طائفي يضم18 طائفة دينية ومذهبية مختلفة, وصار شعار الوفاق والتوفيق بين مصالح هذه الطوائف, بديلا للفلسفة والقواعد الديمقراطية, ولم يعد التفاهم أو التلاقي بين اللبنانيين يتم إلا وفق مصالح الطائفة ومبدأ المحاصصة, أي توزيع كل شيء من الثروة الوطنية إلي المناصب العليا والدنيا, وفق وزن وقوة كل طائفة, بنفوذها السياسي الداخلي وارتباطاتها الأجنبية, وبقوتها العسكرية الميليشياوية المسلحة علي الأرض.. وهنا ضاعت الوحدة الوطنية, كما ضاعت الديمقراطية. هكذا أصبحنا أمام فشل جديد ومحزن, لنموذج كنا نراه ديمقراطيا, فإذا به نموذج للديمقراطية الطائفية, إن كان التعبير يصلح!! *** ** خير الكلام: يقول الشاعر اللبناني الكبير خليل مطران: أطفئوا الأعين هل إطفاؤها يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا؟! عن صحيفة الاهرام المصرية 28/11/2007