قصة الحجاب فى تونس قصة مؤلمة حقًّا.. و كنت قد تناولت "تونس وقصة الحرب على الحجاب" تفاصيل القصة من أوَّلها، وكيف أن المستعمر الفرنسى الخبيث استغل بعض الرموز التونسية من الرجال والنساء لينفِّذوا مخطَّطه الرامى إلى إخراج المرأة من حجابها وعفتها بُغية تدمير المجتمع التونسى وتغريبه، وبهدف إفقاده لهويته الإسلامية، ولإيقاع الشباب فى براثن الشهوة والانحلال.. ولقد نجح الاستعمار الفرنسى فى ذلك إلى حدٍّ كبير، بل إن نجاحه كان أعظم بعد خروجه من البلاد، حيث استخدم الرئيس السابق بورقيبة فى دعم مسيرة الانحلال، والتى وصل الأمر فيها إلى سنّ قانون سنة 1981م يحظر الحجاب على المرأة التونسية!! وفى سنة 1987م قام وزير الداخلية "زين العابدين بن علي" بانقلاب على الرئيس بورقيبة، ونجح الانقلاب وتولى زين العابدين حكم البلاد من يومها وإلى حين كتابة هذه السطور، فماذا حدث فى معركة الحجاب؟! إن المعتاد فى حوادث الانقلاب أن يعلن الرئيس الجديد رفضه لمنهج الرئيس القديم، وإلاَّ فليس هناك مبرر للانقلاب. وعادةً ما يبدأ الرئيس الجديد فى كسب وُدّ الشعب بطريقة أو أخرى حتى تستقر الأوضاع.. لكن هذا فى الواقع لم يحدث!! لقد أعلن "زين العابدين" فى أيامه الأولى وتحديدًا فى خطاب له فى مارس 1988م أنه متمسك بمنهج بورقيبة فى مسألة المرأة والحجاب، وأعلن أنه لن يكون هناك تراجع عن المكاسب التى حققتها مجلة الأحوال الشخصية (وهى المجلة التى كان يصدر فيها بورقيبة تشريعاته الظالمة بخصوص المرأة والأسرة)، وزاد القمع بشدة لرجال الدعوة الإسلامية، وامتلأت السجون بالمعتقلين، وهرب العديد منهم إلى خارج البلاد، وسجلت لجان حقوق الإنسان تجاوزات خطيرة، وازداد تتبع المحجبات واضطهادهم. ولقد قابلْتُ الكثير من التونسيين فى أوربا وأمريكا، وكان الجميع يذكر أن المرأة التونسية لا تستطيع أن تلبس الحجاب، وإلاَّ تعرضت للقهر والإذلال، وأنها إذا ذهبت للعمرة أو الحج تلبس الحجاب بعد مغادرة الطائرة لتونس، ثم تعود لخلعه قبل عودة الطائرة إلى الأراضى التونسية!! لقد سمعت هذا بنفسى وحكاه لى العديد من أفراد الجاليات التونسية المنتشرة فى كل مكان. ولقد قابلتُ ظاهرة عجيبة عكسية لكل ما أراه من الجاليات الأخرى؛ فالمعتاد للمسلم الذى يعيش فى أوربا أو أمريكا أن يفكر للعودة إلى بلاده عندما تبلغ بناته سن المراهقة حتى لا تفسد البنات فى المجتمع الغربي، ولكنى وجدت الكثير من العائلات التونسية تهاجر من تونس إلى أوربا أو أمريكا عندما تكبر بناتها حتى تجد وسطًا تستطيع فيه البنت أن تلبس الحجاب!! إنه وضع معكوس غير مفهوم، ولكنه الواقع! ونتيجة لهذه الضراوة فى المعركة قلَّتْ نسبة المحجبات جدًّا فى تونس فى فترة التسعينيات، بل إن الأمر ازداد سوءًا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م فى أمريكا، وزادت ضراوة الحرب ضد الحجاب، وضد الثوابت الإسلامية بدعوى الحرب ضد الإرهاب، ولمحاولة تسويق النظام التونسى لنفسه عند أمريكا، خاصةً أن الأوضاع فى الجزائر والمغرب متقلبة وغير مستقرة. صحوة إسلامية فى تونس ولكن -سبحان الله الذى بيده ملكوت السموات والأرض!- نشطت فى تونس صحوة إسلامية فى عام 2002م، ولعلها رَدَّة فعلٍ للهجوم الشرس على الإسلام بقيادة أمريكا، وكثيرًا ما نجد أن زيادة الاضطهاد تفجِّر طاقات الإيمان فى قلوب المسلمين والمسلمات. وبدأ الحجاب ينتشر من جديد، واكتشف النظام التونسى أن التشريعات الظالمة، والقوانين الجائرة، والعصا الغليظة، والسجون الكثيرة.. كل ذلك لم يقتل حب التونسيين والتونسيات للإسلام؛ فالإسلام جذوة فى قلوب المؤمنين قد تضعف أحيانًا ولكنها لا تنطفئ أبدًا. وتزامنت هذه الفترة مع ظهور عدة مواقع إسلامية على الإنترنت، إضافةً إلى ظهور القنوات الفضائية الإسلامية، وانتشار صحوة إسلامية عامَّة فى أقطار العالم الإسلامى هبَّتْ ريحها على تونس بقوَّة، وبدأ الحجاب يدخل إلى المعاهد والجامعات، بل وتسلل إلى داخل الإدارات العمومية والخاصة. لم تقف الحكومة مكتوفة الأيدى أمام هذا النشاط العميق، إنما بدأت تتحرش وبقوَّة بالمحجبات،خاصة الطالبات فى الجامعة، وسعت إلى تفعيل القوانين الجائرة والمخالفة للدستور التونسي، ولكن روح الإسلام كانت قد سرت بالفعل فى أوصال الشعب التونسى الأصيل، وظهر جو عام من الرفض لتعدى النظام الحاكم على ثوابت الدين، ومن ثَمَّ قامت فى عام 2003م احتجاجات قوية من بعض طوائف الشعب على السلطات التونسية، وكان من أهم هذه الاحتجاجات مطالبة عدد من المحامين والشخصيات السياسية التونسية رئيسَ الدولة بالتدخُّل لإيقاف مهزلة انتهاك حرمة النساء التونسيات العفيفات والملتزمات بزيهن الإسلامي. وصدر بيان عن المجلس الوطنى للحريات فى تونس فى 30 مايو 2003م يندِّد فيه بمنع الكثير من المعاهد العلمية والجامعات الطالباتِ المحجبات من دخول المؤسسة التعليمية. وبعدها بثلاثة أيام، وفى 2 يونيو 2003م أدانت مجموعة من الطالبات التونسيات المحجبات النظام التونسي؛ لأنه منعهُنَّ من خوض امتحان نهاية العام بسبب حجابهن. وتفاقم الأمر فى آخر السنة، حيث وقّع أكثر من مائة محامٍ وناشط حقوقى على عريضة تدين النظام التونسى فى تعامله مع مسألة الحجاب، وجاء فى هذه العريضة -التى قُدِّمت لرئيس الدولة فى 11 نوفمبر 2003م- "أن النساء التونسيات المرتديات للحجاب يتم حرمانهن منذ بداية السنة من العمل ودخول المعاهد والجامعات، كما يعمد رجال الأمن دون موجب قانونى إلى تعنيفهن، ونزع الحجاب بالقوة مع الشتم والوصف بشتى النعوت، ولو أمام أزواجهن أو إخوانهن، وإجبارهن على إمضاء التزام بعدم ارتداء الحجاب مستقبلاً". صور من محاربة الحجاب فى تونس وإزاء هذا النشاط الإسلامى تحركت الجمعيات التونسية العلمانية فى اتجاهٍ مضاد، ودارت مناقشات حادة فى أروقة هذه الجمعيات؛ فعلى سبيل المثال شددت "الجمعيات التونسية للنساء الديمقراطيات" -وهى جمعية نسائية علمانية- فى مؤتمرها السنوى يوم 8 مارس 2004م على "رفضها القاطع للحجاب، وذلك لما يرمز إليه من انغلاق ورجعية " على حد تعبيرها. ولم تتوقف الانتهاكات، ووصلت أحيانًا إلى أمور طفولية لا تخطر على بال العقلاء! فقد داهمت الشرطة التونسية محلات لعب الأطفال التى تبيع دُمية "فلة"، وهى دمية لفتاة محجبة! فحتى لعب الأطفال غير مسموح لها أن تتحجب! وإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن مناهج الدراسة عند الأطفال ستكون خالية تمامًا من أى صورة تمثل امرأة محجبة، بل إن وزير التربية أصدر قرارًا فى عام 2006م بإيقاف المدرِّسة "سعيدة عدالة" عن التدريس لمدة 3 أشهر مع إيقاف مرتبها؛ بسبب ارتدائها للحجاب داخل المدرسة! ولكن -والحمد لله- أبطل القضاء التونسى القرار، والذى يتعارض مع الدستور التونسي. وفى عام 2008م أصدرت وزارة شئون المرأة والأسرة فى تونس مرسومًا يؤكد على منع ارتداء الحجاب فى كل مؤسساتها، ويعتبر المرسوم أن الحجاب أو أى شكل من أشكال تغطية الرأس كالمناديل أو القبعات ما هو إلا شكل من أشكال التطرف، بل ويطالب المرسوم "بالتصدي" لكل من يرتدى أو يستخدم الأشياء المشار إليها! وكأن الحجاب أو المنديل سلاح إرهابى لا بُدَّ من التصدى لحاملته من النساء! ثم كانت الصورة الأخيرة التى رأيناها منذ أسبوعين عندما أجبرت عدة جامعات تونسية الطالبات على التوقيع على إقرار بعدم لبس الحجاب فى الجامعة. إنها ليست حربًا على الحجاب فقط، ولكنها على الإسلام ذاته. إن ما ذكرناه من معركة الحجاب ما هو إلا صورة من صور تعنُّت النظام التونسى ضد كل ما هو إسلامي، وإلاَّ فالصور كثيرة، والآلام عميقة، ولجان حقوق الإنسان تسجِّل اضطهادات وانتهاكات مستمرة، والأخطر من ذلك هو محاولة الحكومة التونسية أن تقوم بما يسمَّى "بتجفيف المنابع"؛ فتضع حظرًا إلكترونيًّا على مواقع الإنترنت الإسلامية الواعية، وكذلك على بعض الفضائيات، وأيضًا على زيارات الشيوخ والعلماء، فهى بالجملة تريد تغييب الشعب التونسى عن مواكبة نمو الصحوة الإسلامية فى البلاد الإسلامية بشكل عام. كلمة إلى الحكومة التونسية إننى أتوجَّه فى هذا المقال بكل صدق وإخلاص إلى الحكومة التونسية أن تراجع نفسها ومناهجها، وأن تثوب إلى رشدها، وأن تنيب إلى الله U، وأن تنظر إلى الأمور نظرة تجرُّد تهدف إلى مصلحة البلد الأصيل تونس لا إلى مصلحة بعض الأفراد، أو بعض الدول الخارجية. إن تونس تتجه إلى مخاطر جمَّة إذا استمرت الحكومة فى هذه الطريقة الشاذَّة فى التعامل مع شعبها. ولعل من أهم هذه المخاطر هى انتشار الفساد والانحلال فى المجتمع نتيجة تعرية المرأة وكشف عوراتها، وهذا الانحلال قد يقود المجتمع إلى تدمير نفسه، ولقد أشار الديوان الوطنى التونسى للأسرة والعمران البشرى فى إحدى دراساته إلى أن 11.9% من فتيات تونس توافق على ممارسة الجنس قبل الزواج، كما يوافق على نفس الشيء 40% من الشبان التونسيين، وهى نسب مفجعة للغاية، ومع ذلك فهذه هى أقل أرقام فى هذا المجال، وهناك بعض الدراسات الأخرى التى ترتفع بالنسبة عن ذلك كثيرًا. والمصيبة الكبرى تتمثل فيما صدر عن منظمة المسح الوطنى لصحة الأسرة -وهى منظمة حكومية- فقد صدرت عنها سنة 2007م إحصائية تشير إلى أن 18% من الزوجات التونسيات، و60% من الأزواج التونسيين (فى المرحلة العمرية بين 18 و29 سنة) لهم علاقات غير شرعية خارج إطار الزواج!! ونتيجة لشيوع الفاحشة بهذه الصورة فقد ارتفعت نسبة العزوبية بشكل مبالَغ فيه، ووصلت النسبة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 سنة إلى 65% فى عام 2006م، فى مقابل 53.9% فى عام 2001م. وليس الانحلال هو الكارثة التى تواجه تونس فقط، ولكنى أحذِّر الحكومة التونسية مما سوف يرعبها حقًّا!! إن هذا الضغط المستمر على الشعب لن يوفِّر لكم الأمان أبدًا، ولن يثبِّت أقدامكم أمام عدوكم، ولن يحفظكم -كما تريدون- فى كراسيكم.. إن هذا الخصام بين الشعب وحُكّامه سيقود الشعب حتمًا إلى ثورة، وسيأتى زمن يفيض الكيل بالناس فينقلبون على من يخنقونهم ويذلونهم، وقد لا تكون هذه الثورة منضبطة، وقد تخرج عن حدود المألوف والمعقول، وقد تدفعون الناس إلى الاتجاه المعاكس تمامًا، فتظهر التيارات الإسلامية المتشددة التى تقبل باستباحة الدماء، وتدمير المجتمع. إن هذه ليست توقعات متشائمة لا وجود لها فى الواقع، ولكننا -فى الحقيقة- نراها الآن كثيرًا، وما هذه الموجة العاتية من التطرف التى نراها فى أطراف العالم إلا ردَّة فعلٍ لقهر أعداء الإسلام للمسلمين، وأعداء الإسلام ليسوا نصارى ويهودًا ومجوسًا وهندوسًا وشيوعيين فقط، إنما كثيرًا ما يكونون من أبناء الإسلام، أو هكذا يقولون! وهى فتنة كبيرة تجعل الحليم حيرانَ؛ لأن الصليبى أو التترى واضح الهيئة، أما المنافقون فقد يضربون الإسلام ويذبحونه بينما يستشهدون -ظلمًا وزورًا- بآية أخرجوها عن معناها، أو بحديث حرَّفوا مقصده، فتكون فتنة يقع فيها عموم المسلمين. ولقد وصف وزير الشئون الدينية التونسى الحجاب بأنه زى طائفى دخيل على التقاليد التونسية، وأنه صورة من صور النشاز! وهذا ليس كلامًا لرجل من عوام الصحفيين، إنما كلام أكبر مسئول عن الشئون الدينية!! روى أحمد بن حنبل -رحمه الله- عن عمر بن الخطاب t أن رسول الله قال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ"[1]. إن نتائج هذه المعركة الآثمة شديدة الخطورة، ولعل أخطر هذه النتائج وأتعسها أن النظام التونسى يُدخِل نفسه فى صراع مع الله U، ورسوله العظيم r، وهذه حرب خاسرة فى أوَّلها وفى آخرها، ولن يفلح قوم ناصبوا ربَّهم العداء، وراجعوا التاريخ حتى تعرفوا النتائج.. يقول تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل: 69]. كلمة إلى الشعب التونسي وأخيرًا فإنى أوجِّه كلمة إلى إخواننا وأخواتنا فى تونس المسلمة.. ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. لكل مخاضٍ ألم، ولكل ليلٍ فجر، ولكل ظالم نهاية، فلا يَهُولَنَّكم ما ترون من كيد وتدبير، فهذه أفعال من لا وزن لهم ولا قيمة، أما الكيد المتين والتدبير الحكيم فهو تدبير ربِّ العالمين.. يقول تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 50-53]. وكلمة أخيرة إلى أخواتنا العفيفات فى تونس.. إنكن لا تدافعن عن حجابكن أو أشخاصكن فقط، إنما تدافعن عن الإسلام كله، وعن الأمة بأسرها.. فاللهَ اللهَ فى حجابكن.. والله الله فى عقيدتكن.. إنكن تحملن راية قد تقود المسلمين جميعًا إلى الخروج من النفق المظلم الذى دخلت فيه الأمة منذ ردح من الزمان، فلا تُسقِطْنَ هذه الراية أبدًا. إن النصر فى النهاية لَكُنَّ أيتها المناضلات المجاهدات، فلا تيْئَسْنَ أو تجزعن، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
