من يسافر بالسيارة أو بالقطار من فيينا الي سالسبورج, أو من لندن الي جرينتش, أو من أي مدينة أوروبية الي أخري أو إلي ضواحيها يتمتع بمناظر لآلاف الأفدنة من البراري والتلال الخضراء التي تشع نظافة ولونا, وجبالها المغطاة بالأشجار الرأسية علي أراض مائلة, وهو يعبر كباري صغيرة فوق أنهار, أو كبيرة فوق بحيرات ووديان وبين الحين والحين يري أكواخا حجرية وخشبية ذات أسقف منشورية ومخروطية حمراء, أمامها أو علي بعد منها بعض من البقرات البيضاء المملوءة صحة ولبنا. لقد كان من الممكن أن تقسم الحكومات هذه الأراضي وتبيعها كأراض زراعية أو أراضي بناء لناطحات سحاب أو حتي فيلات, الحكومات حرصت علي ابعاد أي تطوير لهذه الأراضي لتبقيها وقفا قوميا أخضر كمراع ومتعة للناظرين. هذه الأراضي الخضراء تنشر كل يوم أكسجينا في الجو ليتوازن مع ما أفسدته الصناعة والتشييد وبين الفينة والأخري تصرح بمساحات منها تخصصها لدورات معسكرات للطلبة وغيرها من المجموعات العمرية المختلفة, منها تريلات للإقامة أو لدورات المياه, ليس فيها مغالاة في الحجم أو الألوان أو الارتفاع, بل منها ما قد تعمد وضعه في منخفض من الأرض أو تحت الأرض بالكامل أو خلف أي من المجموعات الشجرية. وجود هذه المساحات الخضراء حول المدن وبينها يلعب دورا في التوازن العمراني البيئي بين مناطق للسكن والعمل والصناعة مع البحار والوديان والسهول والأنهار والبحيرات والصحاري, وما علي كل ذلك من أفراد حيوانات وحشرات وطيور وأسماك ونباتات وزهور وخضراوات وفواكه. هذا التوازن يحافظ علي الحياة البيولوجية والنباتية علي الأرض, ويضمن لها الاستدامة وللإنسان الصحة والراحة والأمن, ومن الواجب علينا حفظ هذا التوازن فهو من أسس العبادات التي يحاسب عليها الانسان, ومن الغريب ان الانسان وليس الحيوان أو الطير وهي أولي الضحايا هو الذي أفسد البيئة الايكولوجية بردم أنهار وبحيرات, والبيولوجية بالصيد الجائر لحيواناتها وطيورها وحرق وتقطيع غاباتها وأشجارها, وبالبناء عليها بمصانع تبث غازات ضارة وبمبان مزدحمة متلاصقة لمجرد الاستغلال بدون احتياج ديمغرافي كما يحدث في الخليج العربي,
من الواضح اننا استمررنا في امتداد العمران والبناء علي الأراضي الزراعية والصحراوية حتي إن المدن التحمت ببعضها البعض بامتدادات غير مخططة لتضاعف اعداد سكانها وتجاوزها نصف التعداد القومي, ولم تتواجد محاولات لإيقاف الامتدادات الحضرية علي الأراضي الزراعية بتحديد حوزات لكل مدينة مع إحاطتها بطريق دائري وحزام أخضر.
هذه الامتدادات عبرت الأحزمة السريعة الدائرية وشغلت حوافها من الجهتين ببنايات متصلة انتفاعيا مما يعرض أرواح العابرين للخطر, الأحزمة الخارجية والحدائق الداخلية أصابها التقسيم والبيع كقطع اراض صغيرة وكبيرة, والأخيرة قسمت وبنيت كعمارات متلاصقة وذات كثافة سكانية عالية, وحتي في المسطحات النهرية, نجد ان المساكن والمطاعم والنوادي العائمة والثابتة قد احتلت الشواطئ النهرية, وحجبت النيل عن السائر علي الطريق. نتيجة لهذا يقدر نصيب الانسان المصري من المساحات الخضراء في القاهرة بالسنتيمترات, في حين ان نصيب الفرد في المدن الخارجية هو بعشرات الامتار, وهذا يعطينا دلالة علي مستوي صحة الطفل والبالغ المصري الذي يحتاج الي الحديقة في حفظ التوازن البيئي ورفع نسبة الاكسجين مصدر الطاقة والحياة السليمة. كما يحتاج اليها في راحته النفسية ومتعته باقترانه مع الطبيعة أصل الجمال. تحتاج الحياة الحضرية المعاصرة لتوسع لاغني عنه لراحتنا وكفاءة اتصالاتنا وأمننا في تكنولوجيا الإضاءة والوسائط المتعددة, كل هذا يحتاج لتوليد طاقة ينتج عنها أحمال حرارية اضافية تجعل من الضروري التوسع في التكييف الصناعي للهواء, كل هذا يتطلب استهلاك كميات متزايدة من طاقة احتراق الفحم والبترول, بالاضافة الي ما يتطلبه التوسع العمراني والصناعي, وهنا تصعد كميات لم نشهدها من قبل من الغازات الضارة الي الأجواء العليا ومنها غازات ثاني أكسيد الكربون واكسيد النيتروز والميثان مما يزيد من سمك غلافنا الجوي ويضيف الي ظاهرة الدفيئة وتكون ما يعرف بالاحتباس الحراري فيضطرب نظام المناخ العالمي وتزداد العواصف والأعاصير والفيضانات في أمكنة جافة والجفاف في أمكنة أصلا ممطرة, كما تذوب الثلوج في القطبين فيرتفع منسوب البحار, وتغرق دلتات وتنضب المياه من انهار, ويقل انتاج المحاصيل ويضطرب الأمن الغذائي وتزداد حرائق الغابات, كما يرقق أو يخترق غاز الفريون الخارج من التكييف طبقة الاوزون وهي أصل الحياة علي الأرض وحافظة لأهله من الأشعة فوق الحمراء الضارة بالصحة. معماريا لم يكن أجدادنا في حاجة للإضاءة الصناعية طوال النهار, لان تصميماتهم راعت قرب الفراغات من الفتحات الخارجية, كما لم يكونوا في حاجة لتكييف الهواء ميكانيكيا والذي تعودنا عليه اليوم فسيولوجيا. لقد كانوا حريصين علي تهيئة أنفسهم ماديا ومعنويا لاستغلال العوامل الطبيعية للتهوية والتبريد والتدفئة كما راعوا الاهتمام بعزل الغلاف الداخلي عن الخارج مناخيا, وذلك بعمل فتحات خارجية صغيرة مغطاة بمشربيات عن الخارج, وأخري واسعة علي أفنية داخلية مظللة. لقد استعملوا حوائط المنازل الخارجية من الحجر أو الطوب السميكة أو المزدوجة التي تمنع الحرارة نهارا وتحافظ علي برودة الليل صيفا, كما تحافظ علي دفء الداخل نهارا, وتمنع فقد الحرارة في ليالي الشتاء الباردة. كما قاموا بتحريك الهواء البارد والنقي طبيعيا نتيجة لفرق الضغط بين المناور والفراغات, فيتحرك الهواء من منطقة الضغط العالي البارد في المناور أو تحت الأرض الي منطقة الضغط المنخفض داخل الفراغ المسكون طاردا منه الهواء الساخن. ويلاحظ ذلك ايضا في برودة الهواء القادم من مناور السلالم والمناور الداخلية واندفاعه باردا الي الشقق والشوارع الخارجية. لقد تخلينا عن مظاهر عمارتنا الخضراء في الأحواش الداخلية وملاقف الهواء وهي وحدات معمارية شرق أوسطية تجذب الهواء من الارتفاعات العالية لتبريده خلال عمق الملقف لاستعماله في الفراغات المعيشية, وخروجه ساخنا من الشخشيخة بدون أي استهلاك لأي طاقة منتجة لغازات ضارة بالغلاف الجوي العالمي. مصر مهيأة بجوها الصحو المشمس في أغلب أيام العام ورياحها الشاطئية, واندفاع نهرها لاستغلال الطاقة النظيفة والمتجددة من الشمس والرياح والطاقة المائية لتوليد الكهرباء التي تشغل تكييف الهواء والإضاءة ووسائل الاتصال الالكترونية, وقد ابتدأنا فعلا في توليد الكهرباء من طاقة الرياح في المناطق ذات المصادر الكافية للرياح, وبالذات سواحل البحر الأحمر في الغردقة والزعفرانة والبحر الأبيض وشرق العوينات, والطاقة المائية من السد العالي وحركة المد والجزر البحري وينتظرنا أكثر من غيرنا, كأرض90% من مساحتها صحراء تحت شمس ساطعة أغلب العام, أن نتوسع في استغلال الطاقة الحرارية الشمسية في توليد الكهرباء, وهي من الأمور التي اصبحت قريبة, ومنها أبراج الشمس مثلا التي تستغل حركة الهواء الساخن الي أعلي لإدارة مراوح أفقية تحرك مولدات كهربائية, والطاقة النظيفة المتجددة الناتجة ستكون أقل تكلفة وإفسادا للمناخ من طاقة إحراق الفحم أو البترول. ستساعد هذه الاتجاهات وغيرها في المحيط الصناعي علي مواجهة مشاركتنا العالمية في مؤتمر كوبنهاجن للمناخ نحو خفض الكربون المنبعثCarbonfootprint وايقاف ارتفاع حرارة الأرض علي درجتين مئويتين عام2020, وللمطالبة للقوي الصناعية العالمية بالمشاركة في مواجهة نتائج غرق أجزاء من الدلتا.