فى الغناء الفذ لقصيدة عمر الخيام والتى ترجمها الشاعر أحمد رامى، كاتب الأغنيات الأثير والأكثر حظا وحضورا لدى السيدة أم كلثوم، لتشدو بعذوبة وشجن معا "لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآت العيش قبل الأوان"، وربما هنا فى هذا المقطع البهي تكمن محنة ونجاة الإنسان معا، عند الإلتفات إلى الماضى استغراقا ومكوثا سواء حنينا أو ألما وحزنا، وبالتزامن معه التفكير المستغرق وربما حمل هموم ما سيأتي دون أن تعلم به وكأنه أصبح واقعا، تلك المساحة الوسطى تماما الصحية والآمنة فى العيش طمأنينة وهي ما ندرك ونعيش، وبأن اليوم هو الحياة التى تعرف وعليك أن تهنأ بها، وأن ما مضى قد فات وأن ما سيجيء ليس بعد بحاضر، دون أن يتقاطع ذلك تعارضا مع الاجتهاد والأمل بأن "تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا". وحيث يمنح التفكير فى الزمان الماضى ثباتا عند حيز ما لايتجاوزه الفكر والهمة، ويجعل خطو الحاضر وئيدا، ناهيك عن أن يكون هناك ذلك التطلع للقادم المنشغل به تخوفا وترقبا وأملا وطمعا أيضا بما يثقل أحمال كتفيك حاضرا وأوانا. إذ يمنح الوقوف عند حد الخوف أو الترقب القلق مما هو قادم، أو حتى الطموح المبالغ فيه في الآتي إرهاقا يحول دون التلذذ بثمار ما يجنيه الإنسان حاضرا، والوقوف فى ساحته قليلا مستمتعا مسترخيا، قبل أن يبدأ الخطو من جديد، إنها حالة الرضا والنظرة الشاكرة على ما تدرك وتعرف، ويبدأ أوان الحزن ثقيلا بتلهي الإنسان عن كل ذلك بما لم يأت ومراوده ثلة العصافير المحلقة على الشجر، التى هى دوما مراوغة، إذ تبدو فى المتناول بينما هى بعيدة تماما هناك، وكما الظمآن إذ يطارد السراب ويمضي معه فلا ينتهى الأمر، وحالة الرضا هى دوما قفز خارج تلك المدارات المرهقة كأنها النجاة أو الحكمة التى تؤتي خيرا كثيرا. ذلك الكائن .. نشرت صحيفة الشرق الأوسط تقريرا فى 13 ديسمبر الحالى نقلا عن وكالة العلوم الوطنية الأسترالية أنه "وباستخدام ودراسة الجينوم البشري، وجد الباحثون أن الحد الأقصى الطبيعي لعمر الإنسان هو 38 عاماً، وهو ما يطابق التقديرات الأنثروبولوجية لعمر الإنسان لدى أوائل "أسلاف" البشر المعاصرين، ويقول التقرير المترجم إن زيادة عمر الإنسان الحالية هى نتيجة تقدم مستويات المعيشة والطب. وهكذا عاش الأجداد القدامى للإنسان المعاصر، فى اختلاف مع التقدير الغريب لأعمارهم والذى حملناه فى وعينا صغارا، وتمدد معنا زمنا بأن الأقدمين كانوا يعيشون طويلا جدا ومعمرين بما يفوق متوسطات العمر المعاصرة، وهى نظرة سادت الى المصريين القدماء فوثبتت فى مدركاتنا ربما تماهيا وتناصا مع سير تاريخ بعض الملوك المصريين القدماء كما قرأنا عنهم فى الكتب بأنهم معمرين مثل رمسيس الثانى الذى عاش تسعة وتسعين عاما. ما يقوله التقرير عن التغذية والطب يمكن أن نطلق عليهما العمل فى مجال "الأسباب"، التى هى شأن وشاغل البحث العلمى، فباكتشاف الأدوية والعلاجات واستنباط سلالات من النباتات تعيش وتنمو فى بيئات جغرافية، وترويض بعض جوانب الطبيعة فى المناخات الحارة تماما والباردة تماما، مثل كل ذلك سعيا فيما أتاحه الله للبشر للعمل فى نطاق ومجال الأسباب. ودلالة ذلك الاكتشاف فى الجينوم البشرى ربما يكون أن الإنسان فى فطرته تلك وطبيعته الأولى تلك كان يحيا أيام فتوته ثم يمضى وهو كذلك لم يفقد منها شيئا كثيرا، وليس مستعينا على قضاء أيامه بغير ما يخرج عن طبيعته ونسقه الجسمانى، وربما هكذا عاش الإنسان قديما سعيدا، ولم يختبر قط الشيخوخة التى يتغلب على إزعاجها كثير من المتفائلين بمهدئات المقولات من مثل "أن الحياة لم تبدأ بعد" وما يشبه ذلك، وربما صاغ الفكرة جذابة الروائى الكبير والمعمر أيضا نجيب محفوظ فى ملحمته الفريدة الحرافيش فى حوار قصير رشيق دال "السعداء حقا من ينعمون بشيخوخة هادئة، فقال بتحدى: السعداء حقا من لايعرفون الشيخوخة". يوم من الأيام .. يوم عادي جدا، وعندما يبلغ المساء غايته، قد تتأمل مليا فى تفاصيله التى غادرتك، وربما تأخذك الدهشة، أنك اليوم فعلت شيئا عادى جدا وبسيط تماما، لكنه غير مكرر أو معتاد فى ناموس يومك، فتفكر كيف أنه رغم بساطته العادية – تذوق القهوة بطعم البندق أو الشاي بنكهة الخوخ مثلا – كنت تحجم عن تجربة ذلك غير متقبل، بل وتأخذ موقفا رافضا تماما، إذ تعتبر ذلك خلطا فى ذائقة الأشياء كما توراثتها الأجيال وأرخت لها سيرتهم وحكاياتهم، ثم ها أنت لا تجد فى الأمر ما يزعج، وربما يأخذك التفكير بعيدا فى الزمان والتواريخ المتناثرة، عن تلك الأشياء وكم المرات التى حالت بينك وبين اقتحام وخوض الجديد، لتطرح الأمر فى تساؤل متمهل هل تقل المبادرة وجرأة اقتحام الجديد مع الوقت أم أنها جزء من تكوين الإنسان يقبع فى مكان ما فى عقله ويظل ينمو معه ليبقى يقينا وسلوكا ثابتا؟.