موسم الأضاحي.. سعر خروف العيد والعجول البقري والجاموسي في الأسواق    «الإسكان» تتابع الموقف التنفيذي لمشروعات المرافق والطرق في العبور الجديدة    وزير الزراعة يبحث مع نظيره بغينيا الاستوائية التعاون في مجال البحوث التطبيقية والصادرات    الثانوية العامة.. حجازى: التأكيد على الطلاب قبل بدء كل امتحان على كتابة البيانات بدقة    بعد بدء عرضه.. ماذا نعرف عن النص المسرحي المُستوحى منه فيلم أهل الكهف؟    طفرة تعليمية بمعايير عالمية    الحكومة الجديدة فى مهمة اقتصادية من الدرجة الأولى.. ماذا في انتظارها؟    .. وتأمين المخزون من اللحوم    البورصة المصرية تطلق مؤشر الشريعة EGX33 Shariah Index    تعرف على التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات اليوم بالسكة الحديد    وزير الإسكان يصطحب نائب رئيس غينيا الاستوائية في جولة بمشروعات العاصمة الإدارية    بنك مصر يوقع بروتوكول تعاون مع صندوق التنمية الحضرية    امتحانات الثانوية العامة 2024.. هدوء بمحيط لجان امتحان الاقتصاد والإحصاء بأسيوط    حكومة هونج كونج تلغى جوازات سفر 6 نشطاء    أكبر هجوم منذ أكتوبر.. إطلاق 100 صاروخ على طبريا بشمال إسرائيل    الآليات الإسرائيلية تتوغل داخل حي الزيتون بمدينة غزة    وزير الدفاع الألماني يعتزم إعادة نظام تسجيل المؤهلين للخدمة العسكرية    كيف ستغير نتائج انتخابات الاتحاد الأوروبي الملامح السياسية للقارة العجوز؟    تريزيجية: "كل يوم الصبح اقرأ ورد قرآن.. وأصعب محطاتي وفاة والدي"    رئيس إنبي: لم نحصل على أموال إعادة بيع حمدي فتحي.. وسعر زياد كمال 60 مليون جنيه    انتظام لاعبي الأهلي الدوليين في مران اليوم    النصر السعودي يستهدف التعاقد مع صخرة برشلونة.. ليس أراوخو    رئيس جامعة المنيا يتفقد لجان امتحانات كلية الهندسة    طالب بالثانوية العامة فى بورسعيد بالكوفية الفلسطيني: "بتفائل بها" (صور)    حجاج بيت الله الحرام يتوجهون إلى مشعر منى الجمعة لبدء مناسكهم    امتحانات الثانوية العامة 2024، بدء امتحان الاقتصاد    بعد قليل.. أولى جلسات محاكمة سفاح التجمع الخامس    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    رئيس الوزراء يهنئ شيخ الأزهر بعيد الأضحى المبارك    بطل ولاد رزق 3.. ماذا قال أحمد عز عن الأفلام المتنافسة معه في موسم عيد الأضحى؟    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    دار الإفتاء: يجوز للحاج التوجه إلى عرفات فى الثامن من ذى الحجة يوم التروية    "مقام إبراهيم"... آيةٌ بينة ومُصَلًّى للطائفين والعاكفين والركع السجود    مصر خالية من أى أوبئة    احذري تعرض طفلك لأشعة الشمس أكثر من 20 دقيقة.. تهدد بسرطان الجلد    وزير الصحة: تقديم كافة سبل الدعم إلى غينيا للتصدي لالتهاب الكبد الفيروسي C    أفضل الأدعية والأعمال المستحبة في يوم عرفة    موعد مباراة سبورتنج والترسانة في دورة الترقي للممتاز والقنوات الناقلة    نقيب الصحفيين الفلسطينيين: موقف السيسي التاريخي من العدوان على غزة أفشل مخطط التهجير    ماذا يحدث داخل للجسم عند تناول كمية كبيرة من الكافيين ؟    تحويلات مرورية جديدة.. غلق كلي لكوبري تقاطع محور "محمد نجيب والعين السخنة"    دون إصابات.. إخماد حريق عقار سكني بالعياط    استشهاد 6 فلسطينيين برصاص إسرائيلي في جنين بالضفة الغربية    هيئة الدواء: هناك أدوية ستشهد انخفاضا في الأسعار خلال الفترة المقبلة    «الزمالك بيبص ورا».. تعليق ناري من حازم إمام على أزمة لقب نادي القرن    رئيس الأساقفة جاستين بادي نشكر مصر بلد الحضارة والتاريخ على استضافتها    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    عاجل.. تريزيجيه يكشف كواليس حديثه مع ساديو ماني في نهائي كأس الأمم الإفريقية 2021    عصام عبد الفتاح يحسم موقفه من رئاسة لجنة الحكام    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    الكويت: ملتزمون بتعزيز وحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وتنفيذ الدمج الشامل لتمكينهم في المجتمع    رسميًا.. تنسيق الثانوية العامة 2024 في 5 محافظات    الفرق بين الأضحية والعقيقة والهدي.. ومتى لا يجوز الأكل منها؟    عصام السيد يروى ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    يوسف الحسيني: القاهرة تبذل جهودا متواصلة لوقف العدوان على غزة    بالفيديو.. عمرو دياب يطرح برومو أغنيته الجديدة "الطعامة" (فيديو)    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل قصواء الخلالى: موقف الرئيس السيسي تاريخى    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اطلبْ‮ ‬لِي جمال عبد النّاصر


1
ليس كلّ‮ ‬ما يتمنّاه المرءُ‮ ‬يدركه،‮ ‬ولا تأتي الرّياح دائمًا بما تشتهي السّفن‮. ‬حكمة قديمة نسيها‮ "‬مرزوق‮". ‬الأمر الذي لم يتوقعه،‮ ‬أو يحسب له حسابًا،‮ ‬هو أن يتسرّب بعض هؤلاء،‮ ‬الذين يصبُّون معسول الكلام في أذنيْه،‮ ‬من داره مباشرة،‮ ‬لدوَّار الشّيخ‮ "‬سعدون‮"‬،‮ ‬بصفته كبير العزبة‮. ‬يفحُّون في أذنيه كلامًا كالسّم الزعاف للأفاعي الرقطاء‮. ‬يقنعونه بلا جهد وهو الرجل الطيِّب لحد السّذاجة أن صقر أمّ‮ "‬سعدون‮" ‬لم يقولوا صقر‮ "‬مرزوق‮" ‬صقرهم كلَّهم‮. ‬
صقر العزبة كلّها يا كبير‮. ‬ثمنه الذي سوف يُباع به،‮ ‬يساوي لاشكّ‮ ‬الكثير‮. ‬نعمة أرسلها الله لعزبتك يا كبير،‮ ‬جرّاء طيبتك،‮ ‬وصلاحك،‮ ‬ونيّتك الصافية يا شيخ‮ "‬سعدون‮". ‬عدل الله،‮ ‬يقتضي أن يُقسّم هذا الكثير إلي كومتيْن‮. ‬كومة ل"مرزوق‮"‬،‮ ‬لأنّه هو من وجد الصّقر علي الشجرة،‮ ‬حلال بلال عليه‮. ‬الكومة الثانية للعزبة،‮ ‬لأنّها مالكة الصّقر،‮ ‬بحكم أن المكان الذي وُجد فيه وهو الخليج يقع في زمام أراضيها‮. ‬أضافوا،‮ ‬وهم يبرّرون مطلبهم‮. ‬أن الكومة التي يستحقها‮ "‬مرزوق‮"‬،‮ ‬ستجعله من طائفة الأثرياء‮. ‬كفاه هذا يا كبير‮. ‬يبوس كفّه وجهًا وظهرًا،‮ ‬ويحمد الله علي نعمته‮. ‬لا ينظر بالمرَّة للكومة الثانية،‮ ‬التي ستكون تحت يديْك،‮ ‬تتصرف فيها بمعرفتك‮.. ‬يا كبير‮. ‬
ألست أنت شيخ العزبة وكبيرها؟ وكلمتك سيف علي رقاب الكلِّ؟ أم أننا في زمن تأكل فيه القطّة عيالها؟،‮ ‬أليست العزبة كلّها أهلك وناسك يا شيخ؟‮. ‬
لم يفكر الشّيخ‮ "‬سعدون‮" ‬كثيرًا‮. ‬هو أيضَا استكثر النعمة علي‮ "‬مرزوق‮".‬
لم يرد عليهم بقبوله اقتراحهم‮. ‬فاجأهم مباشرة باقتراح آخر لم يتوقّّعوه،‮ ‬قال بهدوء‮:‬
‮"‬والله فكرة يا أولادي‮.. ‬نبني الكوبري‮"‬
‮"‬كوبري؟‮!"‬
صاحُوا‮. ‬أصيبُوا بإحباط وخيبة أمل كبيرة‮. ‬لن يدخل جيوبهم مليمٌ‮ ‬واحدٌ‮ ‬من ثمن الصّقر‮. ‬كانوا يؤمّلون بتوزيع ثمنه عليهم‮. ‬فكّروا،‮ ‬وجدوا أن أفضل الحلول أن يتريّثُوا،‮ ‬لا داعي الآن للقفز فوق الأحداث،‮ ‬ننتظر‮. ‬ردُّوا عليه بأصوات مبعثرة‮:‬
‮ "‬عليك نور‮.. ‬تاهتْ‮ ‬ولقيناها‮.. ‬اللِّي تشوفه يا كبير‮.. ‬نبني الكوبري‮.. ‬منفعة للكلّ‮"‬
لكنّهم وهم ينصرفون من عنده،‮ ‬تهامسوا دون أن يسمعهم‮: "‬نشوف الفلوس الأوّل‮.. ‬وقتها يحلّ
2
حمل الهواء كلام الشيخ‮ "‬سعدون‮" ‬وزوَّاره،‮ ‬وطاف فوق دور العزبة القليلة،‮ ‬حتي حطَّ‮ ‬في النهاية فوق دار‮ "‬مرزوق‮". ‬تسلل من فتحة بابه المفتوح،‮ ‬وصكّ‮ ‬مسامعه بصلفٍ‮ ‬واستهتار،‮ ‬فانتفض كمن لدغته عقرب‮. ‬انزعج بشدّة‮. ‬ركبته موجة‮ ‬غضب عارمة،‮ ‬كادتْ‮ ‬تقوده للجنون‮. ‬ثار الدّم في عروقه وضرب‮ ‬يافوخه‮. ‬راح يلهث،‮ ‬ويصرخ،‮ ‬ويشتم،‮ ‬ويسبّ‮ ‬العزبة وشيخها الخرف‮. ‬زوّاره من حوله،‮ ‬يطلبون منه الهدوء،‮ ‬خوفًا علي صحته من الانفعال‮.‬
لكنّه لم يهدأ‮. ‬زوَّاره حوله لا يختلفون عمّن أحاطوا بالشّيخ‮.. ‬هكذا أيقن،‮ ‬كلّهم من طينٍ‮ ‬واحدٍ،‮ ‬من بذرةٍ‮ ‬واحدةٍ‮. ‬طردهم من الدّار بقسوة وقلّة ذوق،‮ ‬لم يتوقعاها منه‮. ‬كان علي استعداد لحظتها وهو في ذروة‮ ‬غضبه،‮ ‬أن يشقّ‮ ‬رأس أيّ‮ ‬طامع،‮ ‬يبغي اقتحام داره،‮ ‬والاقتراب من صقره بالفأس‮.‬
انزعجتْ‮ "‬مفيدة‮"‬،‮ ‬فوجئت،‮ ‬انحطّت أرضًا تبكي وتولول وتتحسس بطنها المنتفخ‮. ‬تقول وهي تخبط رأسها بقبضتها‮.. ‬آه يا أنا‮.‬
أقسم لها يُطمئنها،‮ ‬بأنّ‮ ‬لا أحد من عزبة‮ "‬أمّ‮ ‬الزفت‮" ‬هذه سوف يري بعد الآن ريشة واحدة من ريش صقره‮. ‬وأنه في الأوّل والآخر‮ ‬غلطان،‮ ‬لأنه بطيبة قلبه،‮ ‬ونيّته الصافية،‮ ‬سمح لهم بدخول داره،‮ ‬ودسّ‮ ‬أنوفهم الوسخة في طبق رزقه،‮ ‬واقتحام أخصّ‮ ‬خصوصيّاته‮:‬
‮"‬اقفلي الباب يا وليَّه‮" ‬
هكذا صاح منهيَّا كلامه،‮ ‬آمرًا بصوت كالرّعد،‮ ‬لا تدري من أين جاءه‮. ‬
نهضتْ‮ "‬مفيدة‮" ‬سريعًا مرتكزة علي كفّيها،‮ ‬وأقفلتْ‮ ‬الباب‮. ‬ظل بقيَّة اليوم،‮ ‬خلف بابه المقفل،‮ ‬يضرب كفًا بكفّ‮: ‬
الصقر صقري ويريدون مشاركتي فيه‮ .. ‬سبحان الله‮.. ‬آخر زمن يا أولاد‮.. ‬عالم عينها فارغة بصحيح لا يملؤها سوي التراب‮.. "‬اخص ع البهايم‮".‬
عندما طرق الشّيخ‮ "‬سعدون‮" ‬باب‮ "‬مرزوق‮"‬،‮ ‬من ورائه رهط الحالمين والنصّابين والطامعين والكاذبين والمنافقين‮. ‬لم يفتح لهم بابه‮. ‬بل،‮ ‬وتطاول عليهم من وراء الباب المُغلق،‮ ‬وهو يرفع فأسه في الهواء مهددًا،‮ ‬قائلاً‮ ‬لهم‮ : ‬
‮"‬امش من هنا يا ضلالي أنت وهو‮.. ‬لأطلع أقطعكم بالفاس‮"‬
صُدم الشيخ‮ "‬سعدون‮". ‬فوجئ برد فعل‮ "‬مرزوق‮" ‬العنيف‮. ‬ضرب كفًا بكف،‮ ‬وهو يردد لمن حوله إن‮ "‬مرزوق‮" ‬ابن‮ "‬زبيده‮" ‬الهبلة جنَّ‮ ‬رسميًا‮. ‬وإنه لن يتركه بعد هذا التطاول دون محاسبة‮. ‬مكانه ليس العزبة بين أهله وناسه،‮ ‬بل السّراي الصّفراء في مصر،‮ ‬سراي المجانين بالعباسيّة‮. ‬لا بدّ‮ ‬أن يؤدّبه،‮ ‬قليل الأدب،‮ ‬خائن عشرة أهله،‮ ‬سيُبلغ‮ ‬عنه الشّرطة لتقبض عليه‮. ‬
هاص الرهط المحيط ابتهاجًا بغضبه ووعيده،‮ ‬أكدُّوا له أنه علي حق في كلِّ‮ ‬كلمة قالها‮. ‬لا بدّ‮ ‬أن يبلغ‮ ‬عنه الشّرطة فعلاً،‮ "‬مرزوق‮" ‬حرامي،‮ ‬ونحن شهود،‮ ‬سرق صقر العزبة‮. ‬
سمع‮ "‬مرزوق‮" ‬كلامهم من وراء الباب‮. ‬غلي الدم في عروقه،‮ ‬وكاد ينفجر‮. ‬صاح كالأسد‮:‬
‮"‬امشُوا من هنا يا أولاد الكلب‮"‬
‮ ‬
غضب الشيخ‮ ‬غضبًا شديدًا،‮ ‬لم يحدث أن واجه أمرًا مماثلاً‮ ‬من قبل،‮ ‬أو أن تطاول عليه أحد أبنائه بهذه الجرأة الوقحة‮. ‬
انتهز بعض المحيطين بالشّيخ الفرصة السّانحة،‮ ‬واقترح تحطيم الباب،‮ ‬وأخذ الصّقر منه عنوّة‮. ‬طلب آخرون،‮ ‬بغضب مفتعل،‮ ‬أن يُعاقب‮ "‬مرزوق‮" ‬أمام الكلِّ‮ ‬في جرن العزبة الواسع‮. ‬تُربط قدماه بحبلٍ‮ ‬متينٍ،‮ ‬وتُرفعان لأعلي،‮ ‬ليُضرب عليهما بعصا الشيخ مائة ضربة،‮ ‬حتي يعود له عقله الفالت‮. ‬
‮"‬مرزوق‮" ‬أهان العزبة كلَّها،‮ ‬عندما أهان كبيرها الشّيخ‮ "‬سعدون‮". ‬
العزبة بريئة منه،‮ ‬ومن أفعاله،‮ ‬ليوم الدّين‮. ‬
لكنّ‮ ‬الشيخ‮ "‬سعدون‮" ‬خاف من تطوّر الأمر،‮ ‬بصورة تجلب له المتاعب،‮ ‬هو أمام رجل مجنون،‮ ‬وغير طبيعي،‮ ‬مستعد الآن لارتكاب جريمة في أيِّ‮ ‬لحظة،‮ ‬بعدها لن يفيد العزبة صقرٌ‮ ‬ولا هم يحزنون‮. ‬
رفض كلَّ‮ ‬مقترحات الرهط المحيط،‮ ‬المتحفّز للانتقام،‮ ‬قائلاً‮ ‬لهم‮:‬
‮"‬أنا ح أتصرف‮.. ‬كلُّ‮ ‬واحد يروح لحاله‮"‬
ساعده بعضهم علي ركوب مطيّته،‮ ‬قبل أن ينخسها بعصاه،‮ ‬ويوجّهها إلي ممشَي الخليج صوب الجزيرة‮. ‬قال لهم بهدوء الواثق‮:‬
‮"‬والله لأبلغ‮ ‬عنه لجمال عبد النّاصر شخصيًا‮.. ‬يبقي يفرجني ابن زبيدة ح يعمل إيه مع الزعيم؟‮"‬
3
‮"‬اطلب لي جمال عبد النّاصر‮"‬
هكذا ردّد الشيخ‮ "‬سعدون‮"‬،‮ ‬بتصميمٍ‮ ‬لا يلين‮. ‬لمَّا سأله الحاج‮ "‬عبد البديع‮":‬
‮"‬مش طلبته من تليفونك ليه يا بو حسن؟‮"‬
ردّ‮ ‬الشيخ‮ "‬سعدون‮" ‬بهدوء‮:‬
‮"‬ما عنديش نمرته‮.. ‬ثم إنّك أمين الوحدة هنا وبتكلمه؟‮"‬
أدرك الحاج‮ "‬عبد البديع‮" ‬أن الشّيخ الغاضب،‮ ‬لن يتزحزح قيد أنملة من دكَّانه،‮ ‬إلاَّ‮ ‬بعد أن يكلّم‮ "‬جمال عبد النّاصر‮" ‬شخصيًا‮. ‬عليه التصرف بسرعة،‮ ‬تنهي الموقف وترضي الشيخ علي أيّة حال‮. ‬أدخله للدكّان،‮ ‬ربت علي كتفه،‮ ‬أجلسه علي كرسي بجوار التّليفون،‮ ‬استأذن منه لدقائق‮. ‬توجّه لمبني السّنترال،‮ ‬وتفاهم مع‮ "‬سعد أفندي‮"‬،‮ ‬حول كيفية حل مشكلة الشّيخ‮ "‬سعدون‮". ‬طلب منه أن يكلمه،‮ ‬ويوهمه بأنه الريَّس عبد النّاصر،‮ ‬مؤكّدًا له أن الشّيخ رجل طيّب،‮ ‬وعلي نياته،‮ ‬وسوف يصدّقه‮. ‬
فوجئ‮ "‬سعد أفندي‮" ‬بطلب الحاج‮ "‬عبد البديع‮"‬،‮ ‬ضحك كثيرًا‮. ‬استعاد أيام التلمذة والشقاوة‮. ‬كان عاشقًا للفن،‮ ‬محبًا للتمثيل،‮ ‬يرتاد المسارح والسينمات بالزقازيق‮. ‬اشترك في كثير من تمثيليّات ومسرحيّات الحفلات المدرسيّة التي‮ ‬
تُقام في نهاية كلِّ‮ ‬عام دراسي،‮ ‬وفكّر‮.‬
مشاكله مع الحاج‮ "‬عبد البديع‮" ‬انتهتْ‮ ‬من زمن،‮ ‬منذ ترك له خط تليفونه مفتوحا مباشرة علي سنترال كفر صقر،‮ ‬امتياز خاص بنمرته،‮ ‬يطلب أيّ‮ ‬نمرة في أيِّ‮ ‬وقت،‮ ‬دون أن يمرّ‮ ‬عليه بسنترال مطاوع‮. ‬كأنّ‮ ‬سنترال مطاوع انتقل لدكّانه‮. ‬صحيح أن هذا فعل مخالف،‮ ‬يُعاقب عليه من مصلحته التّابع لها،‮ ‬محاباة واستثناء لتليفون خاص دون الباقي‮. ‬لكنّه برّر الفعل،‮ ‬بأنّه خطوة في مصلحة الجزيرة‮. ‬أحيانًا،‮ ‬تضطّره الظروف للغياب عن السّنترال،‮ ‬ولا أحد يحلّ‮ ‬محلّه،‮ ‬حتي‮ "‬بلتاجي‮" ‬نفسه،‮ ‬الذي لا يُطيق البقاء بالسّنترال ساعة زمن‮. ‬لذلك،‮ ‬فإن وجود خط مفتوح،‮ ‬ومتاح لدي أمين وحدة الاتّحاد الاشتراكي بدكَّانه،‮ ‬حلٌّ‮ ‬أمثل لأيِّ‮ ‬مشكلة طارئة،‮ ‬طلب إسعاف،‮ ‬أو نجدة،‮ ‬أو عربة إطفاء حريق،‮ ‬أو استدعاء طبيب‮.. ‬أو‮ ‬غيره من الحالات الإنسانيّة الملحّة التي لا تحتمل الانتظار،‮ ‬هو بفتح هذا الخط،‮ ‬لا يريح نفسه فقط علي حساب الحاج‮ "‬عبد البديع‮"‬،‮ ‬بل يسدُّ‮ ‬فراغًا لمشكلة جماهيريّة خطيرة،‮ ‬لم تعمل مصلحة التليفونات نفسها حسابها‮. ‬كان يعرف أنّ‮ ‬مصلحة التليفونات تعرف،‮ ‬لا تمانع‮ ‬،‮ ‬تغضّ‮ ‬الطرف‮. ‬
ها هي مشكلة جماهيريّة،‮ ‬متمثلة في صقر أم‮ "‬سعدون‮"‬،‮ ‬لا بدّ‮ ‬من إيجاد حلّ‮ ‬لها‮. ‬
لولا ذكاء الحاج‮ "‬عبد البديع‮" ‬في التعامل مع المشكلة،‮ ‬لكان الأمر قد تطوّر في العزبة للأسوأ،‮ ‬لم لا؟ قد يقتتل الناس علي الصّقر،‮ ‬وتسيل الدماء في حرب أهليّة،‮ ‬يكون طرفاها‮ "‬مرزوق‮" ‬في ناحية والعزبة في ناحية‮. ‬ثم إن هذا الطلب من الحاج‮ "‬عبد البديع‮" ‬جاءه علي‮ "‬الطبطاب‮"‬،‮ ‬مجرد تسليّة طريفة،‮ ‬يستعيد هوايته القديمة،‮ ‬وتريح بال الرّجل الغاضب‮. ‬
تنحنح،‮ ‬استدعي صوت الزعيم في مخيلته،‮ ‬كيْ‮ ‬يضبط نبرات صوته علي نبرات صوت الزعيم،‮ ‬محاولاً‮ ‬تقمّص شخصيته‮. ‬
عاد الحاج‮ "‬عبد البديع‮" ‬للدكّان بسرعة،‮ ‬بأمل أن يكون الشّيخ‮ "‬سعدون‮" ‬قد صرف نظره عن الفكرة‮. ‬فيريح ويستريح‮. ‬وجده مثلما تركه،‮ ‬زعابيب أمشير تنطلق من تقاطيع وجهه لتعصف بالجّميع‮. ‬
رفع سمّاعة التليفون،‮ ‬وأدار نمرة وهميّة في دائرة النمر عدّة مرّات دون مجيب،‮ ‬وهو يخاطب نفسه بصوت يصل لمسامع الشّيخ،‮ ‬يوهمه بحقيقة ما يفعل،‮ ‬وأنه يطلب الزّعيم بالفعل‮: ‬
‮"‬باين الريِّس مشغول‮.. ‬مشاكل مع إسرائيل وأمريكا والغرب والدنيا كلّها‮.. ‬الله يكون في عونه‮"‬
ووضع السّمّاعة علي التليفون‮. ‬
4
‮"‬اطلبه تاني‮"‬
ردَّ‮ ‬الشيخ بإصرار‮.‬
‮ ‬لم يجد الحاج‮ "‬عبد البديع‮" ‬بدًا من كلّ‮ ‬بدّ‮. ‬طلب السّنترال‮. ‬جاءه صوت‮ "‬سعد أفندي‮" ‬بنبرة مغايرة علي الطرف الآخر‮. ‬صاح مبتهجًا‮:‬
‮"‬سلام عليكم سعادة الريِّس‮.. ‬أهلاً‮ ‬وسهلاً‮.. ‬الله يسلمك‮.. ‬إزاي صحتك‮.. ‬كلّنا معاك ووراك يا ريِّس‮.. ‬النصر للعرب إن شاء الله‮.."‬
‮...‬
‮"‬معي الشيخ سعدون شيخ عزبة أمّ‮ ‬سعدون‮.. ‬أيوه يا ريِّس عزبة أمّ‮ ‬سعدون من توابع جزيرة مطاوع‮.. ‬أيوه عاوز يكلّم سعادتك‮"‬
قدَّم السّمّاعة بسرعة للشيخ الذي انتفض واقفًا ترتجف كلّ‮ ‬أعضائه‮. ‬وتزداد دقّات قلبه سرعة‮. ‬الشّجاعة التي دفعته للإصرار علي مكالمة الزّعيم،‮ ‬تبخرتْ‮ ‬في لحظة‮. ‬كأن اللعبة تحولت فجأة للجدّ،‮ "‬عبد النّاصر‮" ‬رئيس الجمهوريّة،‮ ‬وزعيم الأمّة العربيّة،‮ ‬بنفسه علي التليفون‮.‬
تلعثم الشيخ،‮ ‬وهو يحيِّي الزّعيم بكثيرٍ‮ ‬من السّلامات والتحيّات،‮ ‬لم يفهم منها الزّعيم في السّنترال كلمة واحدة‮. ‬
صاح بصوت باتر،‮ ‬قائلاً‮ ‬له‮:‬
‮"‬أنا مش فاهم أنت بتقول إيه يا سعدون؟‮.. ‬خُش في الموضوع يا حبيبي علي طول‮.. ‬عاوز إيه؟"أراد الشيخ تلخيص حكاية الصّقر في كلمات قليلة‮: ‬تكلم بفأفأة وثأثأة عن‮ "‬مرزوق‮" ‬الصّيَّاد والصّقر‮.. ‬عن الكوبري المُراد إنشاؤه‮. ‬لكنه رغم هذا لم يفلح في توصيل الفكرة بوضوح‮. ‬هو الذي تعوّد علي الإسهاب والاسترسال،‮ ‬في القضايا العرفيّة التي يحضرها‮. ‬
جاءه الصّوت القوي الباتر مرَّة أخري،‮ ‬يخترق أذنه من السّمّاعة‮:‬
‮"‬أنا مش فاضي أسمع الكلام الفارغ‮ ‬ده‮.. ‬بلا صقر بلا زفت‮.. ‬عاوزين كوبري؟ نعمل لكم بدلًا من الكوبري مائة كوبري‮.. ‬ما في مشكلة‮.. ‬أنت ترجع العزبة حالًا وتبلغهم سلامي‮.. ‬قل لهم الريِّس مش ناسيكم يا أهل عزبة أمّ‮ ‬سعدون الكرام‮.. ‬وح يعمل لكم اللّي أنتم عاوزينه من كوبري أو‮ ‬غيره‮"‬
‮"‬ربنا ينصرك يا ريِّس علي من يعاديك‮"‬
‮"‬انتظر‮.. ‬ح نرصف لكم الطّريق‮"‬
‮"‬رصف كمان؟‮.. ‬الله يعمر بيتك يا ريِّس‮"‬
‮"‬وإن شاء الله مستوصف ومدرسة ابتدائي‮"‬
‮"‬مستوصف ومدرسة ابتدائي كمان؟‮"‬
أيقن الحاج‮ "‬عبد البديع‮" ‬أن‮ "‬سعد أفندي‮" ‬حلتْ‮ ‬له اللعبة‮. ‬نسي نفسه واسترسل‮. ‬سيكتشف الشّيخ الخدعة‮. ‬التقط السّمّاعة من الشيخ‮ "‬سعدون‮":‬
‮"‬إحنا مقدّرين ظروف البلد يا ريِّس‮.. ‬ربنا يحميك وإحنا وراك‮.. ‬تُؤمر بأي حاجة سعادتك‮.. ‬مع السّلامة يا ريِّس مع ألف سلامة‮"‬
‮...‬
وضع السّمّاعة علي التليفون،‮ ‬وهو يتنهد تنهيدة ارتياح‮. ‬
انحطّ‮ ‬الشّيخ‮ "‬سعدون‮" ‬علي الكرسي،‮ ‬يأخذ نفسًا عميقًا،‮ ‬كان الزعيم يكلمه منذ لحظات‮. ‬
5
هجرة
بعد هذه الواقعة بشهور‮. ‬أدرك المصدّقون من أهل عزبة أم‮ "‬سعدون‮" ‬أن‮ "‬عبد النّاصر‮" ‬خدعهم‮. ‬أمّا المكذّبون أيقنوا أن الشّيخ‮ "‬سعدون‮" ‬هو الذي كذب عليهم بحكاية إنه كلّم‮ "‬عبد النّاصر‮" ‬شخصيًا،‮ ‬حتي يتجنّب‮ ‬غضبهم‮.‬
الكوبري الذي انتظروه للعبور،‮ ‬نحو الطّريق الرئيسي مباشرة أمام الخليج،‮ ‬ظُّلوا ينتظرونه لسنوات كثيرة حتي نسُوا أمره‮.‬
أمَّا ما أسفر عنه موقفهم حيال ابنهم‮ "‬مرزوق‮" ‬الصّيَّاد،‮ ‬جعلهم يشعرون بالعار‮. ‬لقد أذنبوا في حقّه،‮ ‬وهو واحد منهم‮. ‬خسروه بعد أن خسر نفسه‮. ‬تسبّبوا بغبائهم وطمعهم في ضياعه وضياع صقره‮.‬
‮"‬مرزوق‮" ‬الذي ظلَّ‮ ‬موصدًا بابه علي الصقر،‮ ‬يرتاب في كلِّ‮ ‬طارق يقف أمام داره‮. ‬استيقظ في صباح اليوم التالي،‮ ‬ليجد الصّقر قد فارق الحياة‮. ‬لم يصدّق ما حدث،‮ ‬أُصيب بلوثة مؤقتة،‮ ‬حمله بين كفّيه ينفخ الهواء في وجهه لعلّه يتنفس،‮ ‬يفتح أجفانه المغلقة لتستعيد عيناه الرؤية‮. ‬كيف يعيده من عالم الموت،‮ ‬بأي صورة،‮ ‬لعالم الأحياء؟‮.‬
لم يخبره أحدهم رغم ثرثرتهم الكثيرة التي أوجعتْ‮ ‬رأسه،‮ ‬وأخذت صقره للموت،‮ ‬أن الصّقور تحبّ‮ ‬الحريّة،‮ ‬أن الحبس يهلكها في محابسها،‮ ‬هو صيَّاد سمك وليس صيَّاد صقور‮. ‬
ظل حتي الظّهيرة يعاني من آثار اللوثة،‮ ‬حتي ظنّت‮ "‬مفيدة‮" ‬أنه فقد عقله‮. ‬يرفض تصديق أن الصّقر مات‮. ‬يقلب جثته الميّتة بين كفّيه،‮ ‬ينظر للسّقف،‮ ‬ينتظر معجزةً‮ ‬سماويّة تبعثه من جديد‮. ‬أليست السّماء هي من أهدته إيَّاه؟ لماذا تتخلّي عنه الآن؟‮. ‬خرج حاملًا صقره بين كفّيه ليجوب شوارع العزبة ليري أهلها ما فعلوه به،‮ ‬لم يجرؤ أحدٌ‮ ‬علي مواجهته‮. ‬لحقت به‮ "‬مفيدة‮" ‬وأعادته مرغمًا للدار‮.‬
‮"‬مفيدة‮" ‬الحامل،‮ ‬عيناها لا تكفّان عن البكاء،‮ ‬والولولة،‮ ‬وندب حظّها المائل‮. ‬
أفاق من‮ ‬غيبوبة الصّدمة،‮ ‬كان لا بدّ‮ ‬أن يفيق،‮ ‬أدرك أن حلمَه في الثراء قد مات،‮ ‬وأنّه سوف يدفنه مع جثّة الصّقر للأبد‮. ‬أقسم ألاَّ‮ ‬يبيت في هذه العزبة المشئومة ليلة واحدة بعد الآن،‮ ‬العزبة التي حسدته علي النّعمة،‮ ‬وحاصرته بشرِّها،‮ ‬العزبة التي لم تقدّر في لحظة واحدة،‮ ‬أنّه أحد أبنائها،‮ ‬الذين يمتُّون بصلة الدّم لكلِّ‮ ‬سكَّانها‮.‬
قال ل"مفيدة‮":‬
‮"‬ما لنا عيش هنا بعد اليوم‮.. ‬يا لله بنا‮"‬
خرج وعاد بعربة كارُّو يجرّها حمار ويقودها صبيُّ‮.‬
أخذ زوجه التي تتوجّع بحملها‮. ‬جمع عفشه القليل وأدوات صيده،‮ ‬وربطه جيدًا بحبل علي العربة الكارُّو‮. ‬ركبت‮ "‬مفيدة‮" ‬بجوار العفش‮. ‬قاد الصبي حمار العربة‮. ‬ومشي هو وراءها يحملُ‮ ‬صقره الميّت‮.‬
اخترق الرّكب العزبة مرصودًا بالعيون المتطفّلة خلف الأبواب المواربة،‮ ‬حتي أخذ ممشي الخليج الترابيّ‮. ‬عند شجرة الصّفصاف التي وجد عليها الصّقر توقف،‮ ‬حفر الطمي تحت جذعها،‮ ‬وواري جثة الصّقر التراب‮.‬
غادر العزبة لآخر مرَّة متجهًا للجزيرة‮. ‬الجزيرة كلُّها أخواله‮. ‬الخال والد كما يقول المثل‮.‬
‮ ‬
عندما وصل‮ "‬مرزوق‮" ‬وعائلته للجزيرة بالعربة الكارّو،‮ ‬توقف أمام باب الريِّس‮ "‬الهادي‮". ‬نادي بصوت مجروح ومهزوم‮: ‬يا خال‮. ‬
خرج البحَّاري مستجيبًا للنداء،‮ ‬ومرحبًا بالضّيف‮. ‬فوجئ بما حدث‮. ‬حزن لحزن‮ "‬مرزوق‮" ‬المسكين،‮ ‬وضياع حلمه،‮ ‬قال له الأرزاق علي الله يا بني‮. ‬نزلت‮ "‬مفيدة‮" ‬حاملة بطنها أمامها،‮ ‬قبلت يد أمّ‮ "‬عبدالله‮"‬،‮ ‬جلستْ‮ ‬معها‮. ‬بعد الترحيب وتقديم واجب الضيافة‮. ‬خرج البحَّاري القديم مصطحبًا‮ "‬مرزوق‮" ‬الصّيَّاد،‮ ‬للبحث عن مكان مناسب يؤوي أسرته،‮ ‬قائلاً‮ ‬له‮: ‬
‮"‬اعتبر كلَّ‮ ‬بيوتنا بيتك يا مرزوق‮"‬
بسط مرزوق كفَّه علي صدره بامتنان‮: ‬
‮"‬عشتْ‮ ‬يا خال‮.. ‬ربّنا يُديم المعروف‮". ‬
بعد السؤال،‮ ‬والبحث والتقصّي،‮ ‬بقيادة البحَّاري‮. ‬أهدت الجزيرة لأسرة‮ "‬مرزوق‮" ‬اللاجئ إليها،‮ ‬علي مشارف الغروب،‮ ‬حجرة تؤويه بالقرب من قبر جدّته أمّ‮ "‬سعدون‮"‬،‮ ‬وضريح قطبها الصوفيّ‮ ‬أبي مطاوع‮.‬
سعد‮ "‬مرزوق‮" ‬كثيرًا‮. ‬كأنه عثر أخيرًا علي ملاذه الآمن بالقرب من الجبَّانة،‮ ‬قبر الجدّة وضريح الشيخ‮. ‬صاح ممتنًا،‮ ‬وهو ينزل عفشه القليل بالحجرة‮:‬
‮"‬الله يرحمك يا جدّة‮.. ‬شي الله يا أبو مطاوع‮". ‬ورفع كفّيه وقرأ فاتحة الكتاب‮.‬
أخذتْ‮ ‬أمّ‮ "‬عبد الله‮" ‬لهم من دارها،‮ ‬ما تيسّر لديها من طعام‮.‬
‮ ‬
حلَّ‮ ‬ليل الجزيرة الصافي المغاير لكلّ‮ ‬ليالي الدنيا علي‮ "‬مرزوق‮". ‬جلس محتبيًا وظهره لحائط حجرته الجديدة،‮ ‬يتأمل الليل،‮ ‬نجومه المشتعلة في علياء السماء،‮ ‬سكونه الآسر الجاثم فوق ربوع المكان‮. ‬أحسَّ‮ ‬في وحدته،‮ ‬أن هذا الليل ليله وحده،‮ ‬ولا أحد‮ ‬غيره‮. ‬كلّمه عن أوجاعه وما آل إليه حاله‮. ‬أحسَّ‮ ‬بالليل وهو يهبط عليه برفق،‮ ‬ويحتويه بين ساعديه كأبّ‮ ‬حنون،‮ ‬ويربت علي كتفه بكفّه الحانية‮. ‬برأ صدره في أحضان أبيه الليل‮. ‬جاشتْ‮ ‬مشاعره المرهقة بجحود الأهل،‮ ‬وسالتْ‮ ‬دموعه علي خدّيه،‮ ‬انتحب بالبكاء رغمًا عنه،‮ ‬كانت الدموع تطهره،‮ ‬وتنفض عن نفسِه همومها‮.‬
‮ ‬كفكف الليل دموعه‮. ‬طبّب جراحه وطيّبها،‮ ‬غادرها علي الفور السقم والألم والحزن‮. ‬أهداه الليلُ‮ ‬من فيض كرمه الحاتميّ‮ ‬الأمن والأمان‮.‬
تعافي صدر‮ "‬مرزوق‮" ‬تحت جنح الليل،‮ ‬من آلام الجحود،‮ ‬ونكران الأهل،‮ ‬وغدر ذوي القربي‮.‬
وبينما هو يجفف دموعه بظهر كفّه،‮ ‬ويشكر أباه الليل،‮ ‬أحسّ‮ ‬بها أمامه،‮ ‬أخذتْ‮ ‬رأسه في حجرها وطبطبتْ‮ ‬علي ظهره،‮ ‬استعاد حجر أمّه الذي افتقده منذ زمنٍ‮ ‬بعيدٍ،‮ ‬استعاد حنانها الطاغي،‮ ‬كأنه عاد طفلًا ودّ‮ ‬النوم علي فخذها،‮ ‬والراحة في طمأنينة محيطها ورعاية كفّيْها،‮ ‬تطبطب علي كتفه بكفّ،‮ ‬وترقوه بكفّها الأخري من الحاسدين والأشرار‮. ‬عندما رفع رأسه مطمئنًا،‮ ‬لم تكن أمّه،‮ ‬كانت عجوزًا تقارب المائة،‮ ‬انزعج بخوفٍ‮. ‬قالت له‮:‬
‮"‬اسم الله عليك وحواليك‮.. ‬ما تخافش يا حبيبي‮.. ‬أنا جدّتك‮"‬
‮"‬جدّتي أم سعدون‮!"‬
كانت جدّته أمّ‮ "‬سعدون‮" ‬تنظر له بمودّة‮. ‬أشاحتْ‮ ‬بساعد نحيلة وكفّ‮ ‬معروقة‮. ‬قالت له‮:‬
‮"‬خلاص يا مرزوق‮.. ‬خلِّيك رجل زي جدّك الفارس‮.. ‬البكاء علي الفايت نقصان عقل يا حبيبي‮"‬
قال لها وهو ما زال يتشنهف‮:‬
‮"‬يرضيكي اللّي حصل يا جدّة؟‮"‬
قالت له‮:‬
‮"‬لا يا حبيبي‮.. ‬ما يرضينيش‮"‬
سألها‮:‬
‮"‬والعمل يا جدّة؟‮"‬
ردّت عليه،‮ ‬وابتسمت بفمٍ‮ ‬خالٍ‮ ‬من الأسنان‮: ‬
‮"‬العمل عمل ربّنا يا بني‮.. ‬الأرزاق علي الله‮" ‬
وأشارتْ‮ ‬لحجرته‮: ‬
‮"‬افرحْ‮.. ‬صقرك في أوضتك‮"‬
صاح بدهشة‮: ‬
‮"‬صقري؟‮!"‬
‮"‬أي نعم‮.. ‬صقرك في أوضتك يا مرزوق‮.. ‬صقرك في أوضتك‮.. ‬صقرك في أوضتك‮..."‬
تردد صدي صوتها في فضاء الجبّانة المظلم،‮ ‬وهي تغادره نحو قبرها القريب،‮ ‬وتختفي من أمام عينيْه‮. ‬
أفاق في جلسته المتوحّدة،‮ ‬علي صراخ‮ "‬مفيدة‮"‬،‮ ‬التي فاجأتها آلام الوضع بالحجرة‮.‬
‮ ‬نهض،‮ ‬وهرول نحو دار البحَّاري،‮ ‬يستدعي خالته أمّ‮ "‬عبد الله‮"‬،‮ ‬التي ارتدتْ‮ ‬بسرعة ثوبها الأسود‮ "‬الملس‮"‬،‮ ‬وغطّت رأسها بطرحتها الحرير،‮ ‬وتبعته‮. ‬
لحقهما الريِّس‮ "‬الهادي‮".‬
أحاطتْ‮ ‬نسوة الجزيرة من الجيران بأمّ‮ "‬عبد الله‮" ‬لمساعدة جارتهم الجديدة في استقبال وليدها الأوّل،‮ ‬قمنَ‮ ‬بالمهمّة علي أكمل وجه،‮ ‬حتَّي وضعته بأمان بين يدي أمّ‮ "‬عبد الله‮"‬،‮ ‬التي حملته لأبيه‮ "‬مرزوق‮" ‬الجالس مع الريِّس أمام الحجرة وهي تضحك سعيدة‮. ‬
بصّ‮ "‬مرزوق‮" ‬في وجه وليده،‮ ‬انتفض قلبه في صدره ورفرف،‮ ‬قطعة اللحم هذه التي تنبض بالحياة بين يديه قطعة منه‮. ‬هذا أوّلُ‮ ‬مولود يرزقه الله به‮. ‬انهمرت دموع الفرح الغزيرة من عينيه رغمًا عنه مرَّة أخري‮. ‬الريِّس‮ "‬الهادي‮" ‬يربت علي كتفه‮. ‬أمّ‮ "‬عبد الله‮" ‬تقول له‮:‬
‮"‬احمدْ‮ ‬ربّنا واشكرْ‮ ‬فضله‮.. ‬صلّ‮ ‬علي حبيبك النّبي يا بني‮"‬
‮"‬الحمد لله‮.. ‬ألف صلاة عليك يا نبي‮"‬
النسوة من الجيران يضاحكنه،‮ ‬يطلبن منه أن يسمي وليده‮ "‬اسم النّبي حارسه‮" ‬اسمًا يحبّه‮. ‬انتظرن أن يقول لهن سموه باسمي أنا،‮ ‬أو باسم جدِّه،‮ ‬أو جد جدِّه،‮ ‬أو جدِّه الكبير‮ "‬سعدون‮".‬
لكنّه قال،‮ ‬وهو يمسح الدّموع التي فاضتْ‮ ‬بذيل جلبابه‮:‬
‮"‬صقر‮"‬
ضحك الريِّس‮ "‬الهادي‮" ‬متعجبًا‮:‬
‮"‬صقر؟‮!.. ‬صقر صقر‮.. ‬المهم يعيش‮"‬
والتفت ل"مرزوق‮":‬
‮"‬ألف مبروك‮ .. ‬يتربّي في عزَّك يا بني‮"‬
‮ ‬
أول ليلة من ليالي أسرة‮ "‬مرزوق‮" ‬بالجزيرة‮.‬
ليلة فرحة من لياليها الراقصة،‮ ‬عاشها‮ "‬مرزوق‮" ‬وزوجته‮ "‬مفيدة‮" ‬وبينهما وليدهما‮ "‬صقر‮"‬،‮ ‬بين الكثيرين من الخالات والأخوال الذين التفّوا حول الأسرة الجديدة،‮ ‬خرجتْ‮ ‬خالات ودخلت أخريات،‮ ‬دسسن كثيرًا من الهدايا والعطايا حول فراش المولود‮. ‬
قبل أن يرحل ليل الجزيرة،‮ ‬ويلمّ‮ ‬نجومه المبعثرة،‮ ‬خطف رجله حتي عزبة أمّ‮ "‬سعدون‮"‬،‮ ‬باعتبارها عزبة من توابعها،‮ ‬ترك لأهلها علي باب الصبح،‮ ‬خبر المولود الجديد الذي سماه أبوه‮ "‬مرزوق‮" ‬الصّيَّاد‮ "‬صقر‮". ‬لتظل حكاية‮ "‬صقر مرزوق‮" ‬حيَّة مع حياة ولده‮. ‬
مات الصّقر‮.. ‬عاش الصّقر‮.‬
عادت الأفواه تلوك حكاية‮ "‬صقر مرزوق‮" ‬من جديد‮.‬
كانت‮ "‬مفيدة‮" ‬في الأسابيع والأشهر التالية تحمل‮ "‬صقر‮" ‬علي كتفها،‮ ‬وتتوجه مباشرة لأمِّ‮ "‬عبد الله‮" ‬كلّما أحسّت بالقلق عليه؛ مغص مفاجئ،‮ ‬أو بكاء مستمر،‮ ‬أو ارتفاع في درجة حرارته‮. ‬فُوجئت هناك،‮ ‬بأمهّات كثيرات من الجزيرة يفعلن ما تفعل،‮ ‬يذهبن للسيّدة الطيّبة التي تُسدي لهن النصيحة،‮ ‬من أمّ‮ ‬ماهرة ومجرّبة،‮ ‬رأتها تحنّك فم طفل بإصبعها النظيف بعد تطهيره،‮ ‬تديره في فمه شمالاً‮ ‬ويمينًا لتبلغه كلّه بالعسل،‮ ‬ورأتها تدلّك بطن موجوع أصابه الهزال والاصفرار بسبب الديدان المتطفلة التي تعيش في بطنه،‮ ‬ثم وهي تغسل جوفه بالحقنة الشرجيّة بمهارة لا تقل عن مهارة طبيب‮. ‬ورأتها تُعدّ‮ ‬كؤوس الهواء الساخن لظهر امرأة موجوعة في ظهرها‮.‬
لم تكن السيّدة الطيّبة،‮ ‬تفعل معها ذلك بالمجّان،‮ ‬وعن طيب خاطر،‮ ‬وزكاة عن صحّتها فقط‮. ‬بل مع كلِّ‮ ‬نساء الجزيرة اللائي يلجأن إليها للعلاج والمشورة،‮ ‬بل كانت تخصّ‮ "‬صقر‮" ‬بمحبّة زائدة،‮ ‬كأنه أحد أبنائها،‮ ‬لأنه كما كانت تقول‮: ‬جاء للدنيا بأمر الله علي يديْها‮. ‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.