قبل حوالي عقدين من الزمان.. التقيت رائد جراحة القلب وأشهر وأهم علمائها عبر التاريخ العالم الأمريكي والذي ينحدر من أصول لبنانية.. الدكتور مايكل ديبيكي.. كانت سيرته الذاتية تقول إنه أول من أجري في ستينيات القرن الماضي جراحة قلب مفتوح مستعينا بما يعرف بماكينة القلب الصناعي وهو التطور الذي أحدث تحولا دراميا في جراحات القلب.. وانه يقترب من ثمانينات العمر.. أما الانطباع الأول الذي خرجت به في بداية اللقاء فكان محبطا إلي حد كبير.. وجدت نفسي أمام رجل "عجوز جدا" يديه مرتعشتان وعلامات الإجهاد والإعياء تجعل من يجلس إليه يشفق عليه حتي من تواتر أنفاسه.. كان السؤال الذي ألح علي قبل أن أطرح أسئلتي: ما الذي يمكن أن يقدمه هذا الطبيب المسن جدا والذي تكاد أعراض الشخوخة تفترسه.. هو رجل ينتمي إلي الماضي.. طبيب سابق.. عالم في سن التقاعد غير قادر علي مجاراة الزمن أو ملاحقة التقدم؟.. بالتأكيد لا شيء سوي أحاديث الذكريات وحكايات التاريخ الطبي.. مما لا يفيد كل من يبحث عن الخلاص من كابوس العصر.. أمراض القلب وهمومه. ولكن ما حدث بعد ذلك كان مذهلا. طرحت علي العالم العجوز سؤالا واحدا: ما هي أسباب أمراض القلب.. وعندما رفع حاجبيه مبديا دهشته من السؤال الذي يمكن أن يطرح علي طبيب مبتدئ.. قلت له لا تندهش.. فأنا أعرف الاجابة الحاضرة.. ستحدثني عن عوامل الخطورة.. التدخين ومرض السكر والتقدم في العمر وارتفاع دهون الدم وعدم ممارسة الرياضة إلي آخر هذه القائمة المحفوظة.. ولكنك تعلم مثلي أن كل هذا ليس صحيحا.. هناك شباب في مقتبل العمر يمارسون الرياضة مجبرين بحكم طبيعة عملهم.. ولا يدخنون ولا يعانون من أي مرض مزمن ولا يأكلون إلا طعاما صحيا خاليا من الدهون ومع ذلك كشفت الفحوص التشريحية إصابتهم بتصلب شرايين القلب.. وهناك أشخاص يعانون من كل ذلك ويعيشون حتي الثمانين والتسعين من العمر بقلوب من حديد.. مشيرا إلي دراسة أمريكية أجريت علي عدد كبير من الجنود الأمريكيين الشباب الذين قتلوا في حرب فيتنام.. وأظهرت إصابة عدد منهم بضيق وتصلب شرايين القلب. كانت المفاجأة ان هذا العالم العجوز المنهك كان يشرف علي دراسة مهمة للبحث عن الأسباب الحقيقية لأمراض القلب.. كان يقود مئات الباحثين الشباب.. يوجههم ويمنحهم خبرات السنين وحكمة الممارسة الطويلة.. يستمعون إليه بتقدير وإجلال وينفذون توجيهاته بحب وحماس.. وهو المعني الذي تكرر بشكل آخر بعد ذلك بسنوات عندما تعرض أول رئيس لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.. بوريس يلتسين.. لأزمة قلبية تطلبت تدخلا جراحيا عاجلا.. يومها تم استدعاء الدكتور ديبيكي من الولاياتالمتحدة للإشراف علي الجراحة رغم انه توقف عن الممارسة العملية قبل ذلك بسنوات بسبب تقدم العمر.. فخبرة السنين وحكمة الممارسة الطويلة تجعل توجيهاته في غرفة العمليات أهم من ثبات اليدين وحماس الشباب. في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي شاءت أقداري أن أكون عضوا في فريق أخذ علي عاتقه مهمة التصدي لمشروع كارثي تبناه الرئيس الراحل أنور السادات عندما سمح ببيع آلاف الأفدنة في منطقة هضبة الهرم لشركة أجنبية لإقامة مشروع سكني ومنتجعات الأمر الذي كان يهدد بانهيار الأهرامات الثلاثة.. وكان علي رأس هذا الفريق المستشار ممتاز نصار رحمه الله والذي تولي الجانب القانوني في الحملة التي استمرت حتي قام السادات بإلغاء المشروع.. ما يعنيني هنا هو تجربتي مع المستشار ممتاز نصار الذي كان يقترب من عامه الثمانين وكان وقتها نائبا في البرلمان. كان مسنا جدا وعلامات الشيخوخة حاضرة في مظهره وفي قدرته علي التحمل.. ولكنه كان موسوعة قانونية يحمل في رأسه زادا هائلا من المعرفة.. أذكر اننا عندما كنا نحتاج إلي نص قانوني يدعم وجهة نظرنا كان المستشار العجوز يطلب من مساعده أن يحضر كتابا معينا يشير إليه في المكتبة التي تضم آلاف المراجع ويطلب منه أن يفتح صفحة محددة يذكر له رقمها فلا يخطئ ولا يتردد ولا يتعثر.. وعندما قدم استجوابا للحكومة في البرلمان وقف لأكثر من ثلاث ساعات يشرح استجوابه ويستعرض النصوص القانونية والمحاذير الاقتصادية دون أن ينظر إلي الورق الذي أمامه.. فأذهل بحكمته وحضوره وسرعة بديهيته كل النواب الحاضرين.. فصفقوا له طويلا قبل أن يرفضوا الاستجواب كالعادة ويقرروا الانتقال إلي جدول الأعمال. هذه هي الحقيقة التي نصر علي تغييبها ونحن نجادل ونختلف ونتشاحن علي موضوع خفض سن تقاعد القضاة إلي ستين عاما بدلا من سبعين.. ونتناسي عن عمد وسوء قصد أن بعض المهن الدقيقة وبعض التخصصات النادرة لا تعترف بشيخوخة السن لأن الزمن بالنسبة لها يعني مزيدا من المعرفة وامتلاك ناصية العلم وخبرة السنين.. يتساوي في ذلك الأطباء والمهندسون والإعلاميون والقضاة وأساتذة الجامعات والمحامون والعلماء الباحثون.. وأن وصفة النجاح الحقيقية هي الاستفادة من خبرات هؤلاء جنبا إلي جنب مع الاستفادة من حماس الشباب واقدامهم.