لخّص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الفارق بين السياسة في تركيا والسياسة في الأنظمة العربية الديكتاتورية بقوله: إن حزبه “لا يرى السياسة كأداة لمعاندة الشعب أو استصغاره أو تحريضه، بل يراها كأداة لتقديم أفضل الخدمات للبلد والشعب”. وأردف، في تعليقه على خسارة حزبه بعض البلديات في الانتخابات البلدية، رغم تفوقه وحصوله على المركز الأول بنسبة 56% من البلديات: “إلى أي مصير تنتهي بنا السياسة التي لا يوجد الشعب بداخلها؟ إلى الفاشية، والديكتاتورية، والظلم، ولهذا السبب كنا دومًا نبحث عن رضا ودعم الشعب، وسنواصل طريقنا فيما بعد على نفس النهج”. ما قاله أردوغان يعني أن الديمقراطية هي الفائز الأول في انتخابات المحليات التركية، وطبيعة هذه الديمقراطية أن يفوز من يقدم خدمات أفضل للشعب، ويخسر من يقصر أو يتراخى، والمحصلة النهائية هي مزيد من تعزيز التجربة الديمقراطية التركية، وقبول حزب الرئيس بخسارة بعض البلديات، كأنه أمر عادي والتعامل معه على أنه عقاب من الشعب على تقصيره والإعلان عن أنه سيبدأ من اليوم التالي مباشرة للانتخابات في تصحيح ما أخطأ فيه. وأردوغان قال إن هذه مقتضيات الديمقراطية: “ربحنا في بعض البلديات، وخسرنا في أخرى، وفي كلتا الحالتين هذه إرادة الشعب، وهذه طبيعة الديمقراطية ونحن نحترمها”. ومع هذا، ورغم خسارة حزب العدالة والتنمية 10 بلديات، أبرزها أنقرةوإسطنبول وأزمير، وفوزه ب40 مدينة مقارنة بانتخابات 2014 التي فاز فيها ب50، إلا أنه جاء في المركز الأول متفوقا على باقي الأحزاب الأخرى، حيث فاز ب52 بلدية بدلا من 81. ومتابعة خريطة تركيا الانتخابية تظهر غلبة اللون البرتقالي المعبر عن حزب أردوغان على الخريطة، ما يعني أن الشعب منح حزب العدالة أكثر من نصف الأصوات، ووثق به مجددًا، حيث حل الحزب أولًا بفارق كبير. خسارة رئاسة بلدية أنقرة أو إسطنبول لا تعني خسارة كل المقاعد أو الأحياء، وهو ما قاله أردوغان: “أغلبية الأحياء في إسطنبول كانت لنا أو تنافسية، ماذا يعني هذا؟ حتى إذا تخلى أناسنا عن رئاسة البلدية، فقد أعطوا الأحياء لحزب العدالة والتنمية”. وبهذا سيحكم العدالة والتنمية 56% من البلديات التركية، بعد فوزه ب16 بلدية كبرى و24 بلدية “مدينة” و538 بلدية “أقضية”، و200 بلدة، ويستمر في الصدارة للمرة ال15 في الانتخابات. وفاز حزب العدالة والتنمية الحاكم ب778 بلدية، ليحل في المرتبة الأولى من بين الأحزاب السياسية في تركيا، وحصل حزب الشعب الجمهوري على 242 بلدية، والحركة القومية على 236 بلدية، والشعوب الديمقراطي على 63 بلدية، والحزب الجيد على 22 بلدية، والأحزاب الأخرى على 42 بلدية. ووجد الكثير من المواطنين العرب، سواء من المقيمين في الدول العربية أو داخل الأراضي التركية، في الانتخابات المحلية التي جرت في تركيا، مناسبة مهمة للتعبير عن آمالهم بعيش تجربة المشاركة في انتخابات ديمقراطية في بلادهم العربية. فانتخابات تركيا البلدية عنوان مهم لمسار الديمقراطية في المنطقة، ومؤشر لخيارات الشعوب ومواقفها، وفوز الإسلاميين وأنصار الربيع العربي يغضب “محور الثورة المضادة” ويحرجه، والديمقراطية هي من انتصرت. لماذا تراجع حزب أردوغان نسبيًّا؟ ويمكن رصد الأسباب التالية لتراجع عدد البلديات التي فاز بها حزب أردوغان على النحو التالي: 1- الحشد الكبير من خصومه من العلمانيين وداعميهم في الغرب المعادين للتوجه الإسلامي لحزب أردوغان، خاصة بعدما أعلن عن مشاريع أخرى لأسلمة تركيا تدريجيًّا، ربما أبرزها إعادة “آيا صوفيا” إلى مسجد، بعدما حوله أتاتورك إلى متحف، إذ أن فوز حزب أردوغان بأغلبية البلديات يعني سيطرته على الرئاسة والبرلمان وغالبية المحليات، ما يعني إعطاءه دفعة لتنفيذ هذه المشاريع. 2- انتخابات البلديات قائمة على تقديم الخدمات في الأحياء، ومعنى الخسارة ليس بالضرورة رفض التوجهات الخاصة بحزب العدالة والتنمية بقدر ما هو رفض لتراجع مشاريع الخدمات في بعض الأحياء، أو التكاسل في أداء بعض منتسبي حزب العدالة مقابل شعبية كبيرة لمرشح المعارضة في أنقرة، جعلته يحسم النتائج بفارق 3.5% فقط، وأقل من نصف في المائة في إسطنبول رغم استمرار الفرز والطعون. 3- الاقتصاد هو الذي صوّت هذه المرة ضد بعض مرشحي حزب العدالة، ففي ظل الضغوط والمؤامرات التي قادتها أمريكا ضد الاقتصاد التركي، والتلاعب في سعر الليرة والمضاربة عليها، كلها أمور أسهمت في تضرر المواطن التركي، فسعى لاختيار أفضل من يراه قادرًا على خدمته وخدمة تطلعاته الاقتصادية من حزب أردوغان أو المعارضة، فقد سبق أن تعرضت تركيا لهجمات اقتصادية خارجية استهدفت الليرة التركية، فتسببت في خسارتها ما يقارب ثلث قيمتها. 4- إذا وضعنا في الحسبان أن “أزمة الليرة” كانت مفتعلة، وتمت بأياد خارجية، بهدف التأثير على مجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة، والسعي لافتعال نفس الأزمة قبيل الانتخابات، خصوصًا وأن الرئيس الأمريكي ترامب كان صريحًا، ولم يجد حرجًا في تهديد تركيا، والتصريح علنًا باستخدام العصا الاقتصادية ضدها، ندرك أن الاقتصاد لعب دورًا، ومع هذا تتوقع وكالة الأنباء التركية “أياما جميلة وفترة طويلة من الاستقرار تنتظر تركيا في المرحلة المقبلة، حيث لا توجد انتخابات ولا “اقتصاد انتخابي” لمدة أربع سنوات، مما سيشكل عاملا أساسيا لدعم العجلة الاقتصادية”. أبرز ملامح الانتخابات يمكن رصد أبرز ملامح هذه الانتخابات فيما يلي: 1- حقق حزب العدالة والتنمية فوزه الخامس عشر على التوالي منذ تأسيسه عام 2001 وتَسلُّمه الحكم عام 2002، إذ تَقدَّم الأحزاب بنسبة التصويت 56% وعدد البلديات التي كسبها (52 من 81)، وهي نتيجة غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية التركية. 2- لا تأثيرات سلبية مباشرة لنتائج الانتخابات البلدية على الاستقرار السياسي أو الاقتصادي في البلاد، رغم فوز المعارضة برئاسة بلدية أنقرة الكبرى، واحتمال فوزها ببلدية إسطنبول الكبرى (لم يتضح المشهد حتى كتابة هذه السطور)، وذلك لأنها انتخابات محلية من جانب، كما أن نتائج تحالف الشعب (المُكون من العدالة والتنمية والحركة القومية) الذي فاز بأغلبية الأصوات (51.6 بالمئة) وغالبية بلديات المدن بواقع 52 من أصل 81 في عموم تركيا من جانب آخر. 3- حزب المرأة الحديدية “مرال أكشنار” (الحزب الجيد) المدعوم من الإعلام السعودي-الإماراتي، لم يفز بأي ولاية من أصل 81 ولاية تركية!. 4- حزب السعادة الإسلامي (حزب أربكان) تصرف مثل تعامل حزب النور في مصر مع الإخوان، وتحالف مع حزب الشعب العلماني المعارض نكاية في حزب أردوغان، وبدلًا من دعمه حزب العدالة ب150 ألف صوت له في إسطنبول، خسر نفسه وخسر أصواته ولم يفز بأي حي أو بلدية. 5- خسارة مرشح العدالة والتنمية في أنقرة محمد أوزحسكي، وفوز مرشح حزب الشعب المعارض، لها مبررات: فالأوّل واجه اعتراضات كبيرة لدى ترشيحه لأنه من خارج أنقرة، وليس ابنها، بعكس مرشح حزب الشعب الأكثر شعبية في البلدية لهذا فاز، بعد غياب حزب الشعب عن أنقرة لأكثر من 25 سنة متتالية، وهو مثال على إرادة الناخبين في مواجهة قرار الحزب الذي ينتمون إليه ويصوتون له. 6- الأكراد صوتوا لأردوغان لا لأحزابهم القومية، ففي مناطق الأغلبية الكردية في البلاد، أي محافظات الشرق والجنوب الشرقي، خسر حزب الشعوب الديمقراطي هناك بلديتين مهمتين هما شرناق وأغري (%20 من البلديات التي فاز بها سابقا) لصالح حزب العدالة والتنمية.