عادة ما يتبع كل الثورات فى العالم قدر من الانفلات الأمنى فى ربوع البلاد، وعادة ومن المنطقى أن يتوقف مدى وحجم الانفلات على مدى ما فى المجتمع من بلطجية ومسجلين خطر، فكلما زاد عددهم فى الدولة زاد مدى الانفلات الأمنى وزاد انتشاره داخل القطر، ولكن الوضع فى مصر يتجاوز حدود تلك النظرية بكثير، فالانفلات الأمنى فى مصر فاق المدى المتوقع فى أى مجتمع فى العالم شهد ثورة أطاحت بنظامه الحاكم. والسؤال: ما الأسباب التى جعلت المجتمع المصرى يصل إلى هذا القدر من الانفلات غير المتوقع عقب ثورة 25 يناير، على الرغم من أن الشعب المصرى يشهد له العالم بالطيبة والسلمية، وهو ما ظهر واضحا فى أثناء الثمانية عشر يوما التى أطاحت بالديكتاتور المخلوع؟ وبنظرة تحليلية سريعة للأوضاع المجتمعية والسياسية لمصر بعد الثورة، يمكن أن نضع أيدينا على عدة عوامل دفعت المجتمع المصرى إلى منزلق الانفلات الأمنى، لعل أبرزها: فى عهد المخلوع، ونظامه البوليسى القمعى، حرص النظام وجهاز مخابراته على تربية وتكوين جيش أو حشد من البلطجية وصل عدده إلى مئات الآلاف، موزعين على المحافظات كافة، ليكون بمثابة العصا الخفية التى يرتكز عليها جهاز الشرطة، لتنفيذ مهام التخويف والترهيب لمن يرفع عيناه فى وجه هذا النظام أو حتى فى وجه أحد أفراد الشرطة، وتبرز المهمة الرئيسية لهذا الحشد من البلطجية فى فترات الانتخابات البرلمانية وغيرها من الانتخابات والاستفتاءات الشعبية، فكان هؤلاء البلطجية تحرسهم الشرطة، يقومون بدور منوط إليهم فى أية عملية انتخابية، وهو تزوير الانتخابات لصالح الحزب المنحل ورجاله، حتى لو أضطرهم الأمر إلى سرقة الصناديق ذاتها من اللجان، كما حدث فى انتخابات 2010. فى عهد المخلوع، وما شهده من سياسة محكمة وممنهجة فى السلب والنهب من قبل رجاله لثروات الدولة، وغياب السياسات الاقتصادية الرشيدة لخلق فرص عمل للأعداد المتزايدة من الشباب عاما بعد عام، ازدادت معدلات البطالة إلى حد مخيف ويقدر عددهم بعشرات الملايين، إلى جانب ما خلفته سياسات النظام البائد من ملايين أخرى من أطفال الشوارع الذين لا مأوى لهم ولا زاد ولا أسر ترعاهم، إذن لازم الفقر، هؤلاء وهم عشرات الملايين من العاطلين وأطفال الشوارع، ناهيك من ملايين أخرى من العاملين أصابهم الفقر بدرجة أو بأخرى، لتدنى رواتبهم ودخولهم الشهرية، فى بلد منهوبة خيراته لصالح قلة ملتفة حول النظام رأس الفساد فى البلاد. فى عهد المخلوع، انتشر الفساد فى البر والبحر وشمل كل المجالات، فإلى جانب الفساد الاقتصادى والسياسى والإدارى لأنظمة الدولة ومؤسساتها، ساد الفساد الأخلاقى وفساد الذمم بين العباد، بما يشمل العاطلين عن العمل وأطفال الشوارع، بل وصل الفساد إلى قطاع عريض من الطبقة الوسطى التى تمثل رومانة الميزان فى أخلاق الشعوب، فكان الانفلات الأخلاقى سببا رئيسيا فى الانفلات الأمنى. فقد كشفت لنا الثورة مدى الانفلات الأخلاقى الذى يعانيه المجتمع بكافة شرائحه، فعندما سقطت منظومة الردع والتخويف من السجن والسيف والجلاد بسقوط نظام المخلوع القمعى، وشهد المجتمع قدرا كبيرا من الحرية المفاجئة، أساءوا استخدام الحرية، وظهرت أخلاقياتهم وسلوكياتهم غير الحميدة وغير الرشيدة، التى لم تتأدب بآداب الإسلام، وعلى التفريق بين الحلال والحرام، فانتشرت أحداث السطو على العباد وعلى الأراضى الزراعية وممتلكات الدولة وقطع الطرق وممارسة القتل والتخريب والحرق وغيرها من الجرائم الإنسانية، أصبحت كلها أمورا مباحة فى كل مكان وأمام كل بيان. وثمة عوامل أخرى سياسية وأمنية ساعدت على تفشى ظاهرة الانفلات الأمنى فى مصر الثورة، ويأتى على رأسها تقاعس الشرطة المتعمد فى أداء واجباتها فى حفظ الأمن فى المؤسسات وعلى الطرقات، مع تقاعس مواز من النيابة والقضاء فى عدم تفعيل القوانين العقابية والجنائية إزاء المجرمين والبلطجية وكل متجاوز لحقه وفى حق الآخرين فى هذا البلد، فيطلق سراح من يتم القبض عليه متلبسا بالجريمة بعد ساعات بإخلاء سبيلهم. ناهيك عن سيل البراءات التى نشهدها الآن لرموز النظام البائد، حتى بات قريبا سماع براءة المخلوع ذاته، وذلك كله عمل مخطط ومرتب جيدا فى سبيل تغذية مناخ الرعب والفوضى والانفلات الأمنى، بهدف تكوين رأى عام مناهض فى الداخل والخارج للنظام الحاكم الجديد الذى أفرزته الثورة وإزاء الثورة ذاتها، ما يجعل البعض الآن من عامة الشعب غير المدركين لهذه المنظومة لخلق الفوضى، أن يتمنى العودة بمصر إلى نظام المخلوع طلبا للأمن والأمان. إذن هو الانفلات الأمنى الذى يأتى نتيجة التركة الثقيلة التى خلفها النظام البائد، أفرزت ظاهر عديدة قوضت أمن المجتمع المصرى، كانت أبرزها حشد البلطجية والفقر والبطالة وأطفال الشوارع والفساد الأخلاقى، إلى جانب التراخى الأمنى والقضائى المتعمد من قبل أذناب النظام البائد، لدعم هذا الإرث من الفساد، لعلهم ينجحون فى العودة إلى صدارة المشهد السياسى فى مصر بالقضاء على الثورة ومنجزاتها.