ما لم يسلم الطرفان، الإسرائيلى والفلسطينى، باستحالة أن تعود الأوضاع فى غزة إلى ما كانت عليه قبل الحرب الأخيرة التى طالت شهراً، دون أن يتمكن أى منهما من تحقيق نصر حاسم يكسر إرادة الطرف الآخر ويلزمه الانصياع لكل شروطه ومطالبه، سوف تظل كل محاولات وقف إطلاق النار فى غزة هشة يصعب تثبيتها أو البناء عليها، مهما كثرت أعداد الضحايا على الجانب الفلسطينى، أو زادت معدلات إطلاق صواريخ حماس والجهاد على مدن الجنوب والشمال الإسرائيلى! وما يزيد من استحالة عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب الأخيرة، أن الشعب الفلسطينى فى القطاع الذى لا ينتمى أغلبه إلى حماس أو الجهاد يؤثر أن تستمر المذبحة التى سقط فيها ما يزيد على 1900 شهيد فلسطينى، وأصيب فيها ما يقرب من عشرة آلاف جريح، وتشرد خلالها أكثر من 250 ألف فلسطينى بلا مأوى يشكلون نسبة تقرب من ربع سكان القطاع على أن تعود الأوضاع إلى سابق عهدها، يتعرضون على مدى ساعات الليل والنهار إلى القصف البرى والجوى والبحرى يضرب أحياءهم دون رحمة، ويدمر المنازل على رؤوس سكانها ومعظمهم من النسوة والأطفال والعجائز، لا يعفى المساجد والمستشفيات والمدارس وملاجئ الأممالمتحدة التى تعرضت عمداً للقصف الجوى فى غزة وجباليا فى ستة حوادث مشهودة ومسجلة، رغم تحذيرات موظفى الأممالمتحدة للجيش الإسرائيلى التى وصلت فى بعض الحالات إلى 17 تحذيراً، ومع ذلك قصف الإسرائيليون أكثر من 100 مبنى ومدرسة تابعة لوكالة غوث اللاجئين فى عمل استفزازى مقزز ينم عن ازدراء إسرائيل البالغ للأمم المتحدة، وجسارتها على خرق قواعد القانون الدولى، لأنها تتمتع بحماية أمريكية تجعلها فوق الدول والبشر وفوق أحكام الشرعية الدولية! وتبلغ المأساة ذروتها عندما يغادر الناس بيوتهم تحت تحذيرات الجيش الإسرائيلى التى تطالبهم بالإخلاء الفورى للمنازل ثم يجدون أنفسهم تحت القصف الجوى لملاجئ ومدارس وكالة الغوث التى ترفع علم الأممالمتحدة، لا يعرفون أين المفر وأين الحماية الدولية! ولأن الحياة فى مثل هذه الظروف تكاد تساوى الموت إن لم يكن الموت يفضلها، يرفض أهل غزة أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه، ويصرون على خيار واحد، رفع الحصار عن القطاع، أو الموت تحت قصف إسرائيل المتواصل والمتعمد. ولا يختلف الوضع كثيراً على الناحية الأخرى، حيث يؤكد أكثر من 86% من الشعب الإسرائيلى مساندتهم القوية لعملية الغزو البرى للقطاع، إلى أن ينتهى الجيش من تدمير شبكة الأنفاق الأرضية التى حفرتها حماس لتمكن مقاتليها من الوصول إلى أهداف داخل إسرائيل أو فى مناطق الحدود، وعندما أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو انسحاب الجيش الإسرائيلى الأحادى خارج القطاع لأنه أنجز مهمته بعد أن دمر أكثر من 32 نفقاً وقتل أكثر من 900 مقاتل فلسطينى، رفضت غالبية الإسرائيليين قرار رئيس الوزراء الإسرائيلى، لأن الشواهد على الأرض تقول بوضوح كامل، إن جيش الدفاع لم يدمر كل شبكات الأنفاق، وإن حماس التى أطلقت أكثر من 3500 صاروخ على المدن الإسرائيلية لا تزال قادرة على إطلاق المزيد من الصواريخ، صحيح أن صواريخ حماس والجهاد لم تحقق أى أهداف تكتيكية أو استراتيجية، وانحسرت خسائرها فى مقتل ثلاثة مدنيين إسرائيليين وجرح عدد آخر لا يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، لكنها تشكل فى النهاية تهديداً لأمن سكان إسرائيل، يدفعهم إلى البقاء فى المخابئ والملاجئ وتعطيل أعمالهم، خاصة أن الصواريخ نجحت فى الوصول إلى تل أبيب وحيفا والقدس فى الشمال، كما وصلت إلى ديمونة وبئر سبع فى الجنوب، بما يؤكد أن عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب تعنى بالنسبة لغالبية سكان إسرائيل أن أمن إسرائيل لا يزال مهدداً، لأن نتنياهو فشل فى تدمير البنية العسكرية لحماس ولم يتمكن من إسكات صواريخها. ولأن كلاً من حماس وإسرائيل يدعى أنه حقق نصراً عسكرياً يمكنه من فرض إرادته وإملاء مطالبه على الطرف الآخر، تزداد المسافة اتساعاً بين مواقف الجانبين خلال عملية التفاوض التى تجرى فى القاهرة الآن، حيث تصر إسرائيل على هدنة طويلة الأمد، تلزم حماس التوقف عن أى أعمال عدوانية ضد إسرائيل أو جنود الجيش الإسرائيلى أو المستوطنين، والامتناع عن حفر أى انفاق جديدة، وتجريد كل منظمات غزة من السلاح تحت إشراف الأممالمتحدة، مقابل السماح بإعادة إعمار غزة، بينما تطالب حماس برفع الحصار عن القطاع، وإعادة العمل بالترتيبات التى وافق عليها الطرفان فى اتفاق التهدئة عام 2012، وتسمح بدخول المواد الغذائية كما تسمح بإعادة إعمار قطاع غزة، كما تصر حماس على أنه ما لم تلتزم إسرائيل بالموافقة من حيث المبدأ على إنهاء الحصار والسماح بإعادة تعمير قطاع غزة، فإن حماس لن توافق على أى وقف جديد لإطلاق النار، وربما تطلب من وفدها مغادرة القاهرة والعودة إلى ساحة القتال، لأن حماس لم يعد لديها ما يمكن أن تخسره، وبالفعل أعلنت حماس رفضها الاستمرار فى وقف إطلاق النار ما لم تتم الاستجابة لمطالبها، وبادرت بإطلاق 35 صاروخاً جديداً لم تحدث مع الأسف آثاراً تذكر. وما من شك أن توحد الموقف الفلسطينى (فتح وحماس والجهاد وغالبية الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة) حول ضرورة رفع الحصار، يعنى بالضرورة استحالة قبول الفلسطينيين بأى اتفاق تهدئة جديد لا ينطوى على أفق سياسى يضمن حماية الشعب الفلسطينى من عدوان إسرائيل المستمر، ويضمن التزاماً دولياً بعدم المساس بالمدنيين على الجانبين، كما يضمن أن يكون اتفاق التهدئة الجديد جزءاً من حل شامل للقضية الفلسطينية التى تثبت كل يوم أنها لا تزال حية تؤرق أمن الشرق الأوسط واستقراره، وتحرم إسرائيل، رغم كل أدوات القوة والتدمير التى تملكها، من أن تنعم بأمن حقيقى، وتستنزف جهد المجتمع الدولى فى متاهة بلا مخرج تعيد الوضع مرة أخرى إلى ساقية الحرب التى تتكرر مرة كل عامين! لكن السؤال المهم عن معنى وجود وفد فلسطينى موحد! ومن المسئول عن قرار الانسحاب من التفاوض حماس والجهاد أم رئيس الوفد الفلسطينى الموحد؟ لا يزال قائماً دون جواب! وبرغم أن حماس أعلنت أنها ترفض تجديد وقف إطلاق النار، لا تزال القاهرة تراهن على هذا الخيار، لإدراكها أن حماس وإسرائيل لم يعد أمامهما من بديل سوى قبول حل وسط، لا يعيد الموقف مرة أخرى إلى سابق عهده بحيث تتكرر الحرب مرة كل عامين ليسقط فيها المزيد من الضحايا، خاصة أن إسرائيل بعد طول تمنع هى التى اتخذت قراراً أحادى الجانب بانسحاب جنودها من غزة، وإرسال وفدها إلى القاهرة للتفاوض، بحجة أن الجيش الإسرائيلى أكمل مهمته، وكذلك فعلت حماس التى امتنعت فى البداية عن قبول المبادرة المصرية، ثم عادت لتقبلها دون شروط مسبقة، وتشارك فى مفاوضات القاهرة غير المباشرة، من خلال وفد فلسطينى موحد يترأسه عزام الأحمد ممثل السلطة الوطنية الفلسطينية. ولا أظن أن معبر رفح يشكل أى عقبة فى طريق رفع الحصار عن قطاع غزة، لأن مصر تؤكد على نحو مستمر حرصها على الإبقاء على معبر رفح مفتوحاً، طالما أن هناك حكومة فلسطينية موحدة تتبع السلطة الوطنية هى التى تتولى الإشراف على المعبر الفلسطينى، وطالما التزمت حماس بعدم حفر أى انفاق جديدة تخرق سيادة مصر على أراضيها. وما يزيد من إمكانية الوصول إلى اتفاق جديد للتهدئة ينطوى على أفق سياسى، يربط بين التهدئة فى قطاع غزة وإقرار التسوية الشاملة، ضيق الخيارات الأخرى أمام الطرفين، حماس وإسرائيل، لأن إسرائيل التى مارست عملاً محاولة إبادة الشعب الفلسطينى فى غزة، ويكاد العالم يمسك بتلابيبها فى جرائم حرب يصعب شطبها أو إهمالها، تعرف جيداً أن العالم ضاق ذرعاً بجرائمها العنصرية، وأن واشنطن أهم حلفائها سوف تجد نفسها مضطرة لأن تتنصل من هذه الجرائم التى تشكل عاراً للإسرائيليين والصهيونية العالمية، وتضع عشرات الأسئلة المحرجة أمام الجدوى الأخلاقية لقيم الدين اليهودى، وكذلك الأمر مع حماس التى تلزمها نتائج الحرب الأخيرة حسن المفاضلة بين أساليب المقاومة الصحيحة التى توازن بين ضحايا شعبها وضحايا العدو الإسرائيلى، لأن الفارق ضخم وكبير بين 64 قتيلاً إسرائيلياً وألف و900 شهيد فلسطينى، وبين ثلاثة قتلى من المدنيين الإسرائيليين وأقل من خمسة جرحى، وبين أكثر من عشرة آلاف جريح فلسطينى، يؤكد خلل معادلة المقاومة المسلحة التى تحتاج إلى إعادة نظر شاملة، لأن أولى مهام المقاومة الوطنية هى حماية شعبها، باعتبار ذلك هدفاً يسبق كل الأهداف، ويتقدم على هدف الإضرار بمصالح العدو الإسرائيلى، وأظن أن نتائج حروب غزة الثلاث التى تمت على امتداد السنوات الست الأخيرة تؤكد للطرفين، حماس وإسرائيل، استحالة أن يتمكن طرف من كسر إرادة الطرف الآخر من خلال حرب يصعب حسمها لصالح أى من الطرفين، إلا أن يبيد أحدهما الآخر. ولهذه الأسباب سوف تجابه المفاوضات الفلسطينية غير المباشرة التى تجرى فى القاهرة مصاعب ضخمة، وسوف تشهد انسحابات واعتراضات عديدة، لكن الطرفين سوف يعودان إلى مائدة التفاوض مضطرين، بحثاً عن تسوية متوازنة يزيد من احتمالات وقوعها حرص المجتمع الدولى المتزايد على ضرورة إنهاء هذه الحلقة المفرغة التى يدور فيها الصراع الفلسطينى الإسرائيلى لأكثر من مائة عام بحثاً عن تسوية سلمية توازن بين مصالح الجانبين.