ذم الله بنى إسرائيل فى كتابه العزيز بقوله "لا يقاتلونكم جميعا إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، ذلك بأنهم قوم لايعقلون". ليس من أهداف هذا المقال ذم اليهود أو تفنيد طباعهم التى أصبحت من المعلوم بالضرورة فى التاريخ القريب والبعيد، ولكن ما أقصده فى هذا المقال تحرير واقعنا نحن العرب والمسلمون المعنيون بخطاب الله تعالى ومعانيه، وآداب القرآن التى كان ينبغى أن نتخلق بها حتى لا نقع تحت طائلة الذم والوعيد القرآنى كبني إسرائيل. ما يلفت نظري فى واقعنا اليوم أن أصبح بأسنا بيننا شديدا تماما كبني إسرئيل، من ذمهم الله بذلك لكنهم حين يقاتلون فإن عدوهم يحسبهم جميعا، لنجاحهم فى إخفاء الخلاف فيما بينهم، لم نصل إليهم فى ذلك الطبع بل إخترنا أسوأ طباعهم، وهى الشدة فى الخلاف حول الأفكار والآراء التى تحتمل واحتملت عبر تاريخنا الكثير من التنوع، لكنها لم تصل أبدا فى واقع السلف والتابعين إلى التلاسن والطعن فى الأشخاص أو مروءتهم وشرفهم أو علمهم وعقلهم. وسع الأقدمون الخلاف حول مسائل علمية وفقهية، وظلوا يحفظون لكل منهم مكانته فى العلم والفقه مهما بالغ أشياعهم فى الإتباع، فنجد الإمام أحمد بن حنبل وهو يختلف مع إسحاق يقول "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا فى أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا". أما يونس الصدفى فيقول وهو يختلف مع الإمام الشافعى "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما فى مسألة ثم افترقنا، ولقينى فأخذ بيدى ثم قال يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق فى مسألة". ورغم الخلاف الشهير والراسخ بين أهل الرأي وأهل الحديث، يقول شعبة عند وفاة أبى حنيفة "لقد ذهب مع فقه الكوفة، تفضل الله عليه وعلينا برحمته" ويقول الشافعى وهو صاحب مذهب مخالف لأى حنيفة، عارفا بقدره "الناس فى الفقه عيال على أبي حنيفة"، ليس هذا فقط بل صلى الإمام الشافعي الصبح فى مسجد أبى حنيفة، فلم يقنت ولم يجهر بالبسملة تأدبا مع أبى حنيفة رحمهما الله تعالى. يروى القرطبى أن أبو حنيفة وأصحابه والشافعى وغيرهم يصلون خلف أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرأون البسملة لا سرا ولا جهرا، وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد"، ويروى الذهبي فى ترجمة قتادة، أنه كان يرى القدر نسأل الله العفو، يقصد أنه يخالفه فى معتقده، ومع هذا فما توقف أحد فى صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم البارى وتنزيهه وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده لا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له الله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، ثم يقول "ولو أنا كلما أخطأ إمام فى اجتهاده فى آحاد المسائل خطأ مغفورا قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادى الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى ومن الفظاظة". هكذا كان سلف الأمة بعد رسول الله المؤيد بالوحي، الذى كان القدوة وصحابته رضوان الله عليهم فى أدب الخلاف لحيازتهم العلم والفقه والورع، أما نحن إلا ما رحم ربك نقص رصيدنا من العلم والفقه والورع، فى مقابل الجهل والجهالة والكبر وهو ما أورثنا طباع بنى إسرائيل، فتراشقت أمتنا واستحالت فرقا يشتم بعضها بعضها، ويكفر بعضها بعضا أو يبدع بعضها بعضا، وتحت راية الخلاف السياسى نشبت الصراعات فلا تكاد تخمد جذوتها فى النفوس، حتى تهيجها مقالة هنا أو دعوة هناك، فإن اشتعل أوار المعارك لم نر خُلقا ولا دينا، بل انخلع كل فريق من خلقه ودينه، وبدت ساعتها الحقيقة التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الناس معادن خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا، وهو ما طبع فى ذهنى مقولة ظلت الأيام والأحوال تؤكدها بين حين وآخر، أن الجين غالبا يغلب الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا وأزل الكبر والحقد من نفوسنا، وجردنا لك ووجهنا للحق ولما يرضيك أمين، وأزل هذا الداء عن أمتنا لتعرف ربها فتخشاه وتعرف عدوها فتحاربه وتنتزع حقوقها من يد كل غاصب.