هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني، أطلق عليه لقب "السيد" لأن نسبه يمتد إلى الإمام الحسين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في قريته قلمون بطرابلس الشام ولد الشيخ محمد رشيد، أثناء حكم الدولة العثمانية، وكان ذلك في 27 جماد الأولى 1282ه 18 أكتوبر 1865م، وسط أسرة متدينة. حفظ رشيد القرآن والتحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية ودرس علوم القرآن الكريم والحديث واللغة والفقه على يد علماء سوريا وأدبائها البارزين ومنهم الشيخ حسن الجسر، والشيخ عبدالغني الرافعي. وقد لعب كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي دورا كبيرا في تشكيل شخصية الشيخ رشيد رضا، حسبما يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه "مسلمون ثوار"، فعن طريقه مال إلى الزهد وسلك طريق التصوف وأصبح أحد مريدي "الطريقة النقشبندية"، واشتغل بالوعوظ والإرشاد، واستمر على هذه الحال حتى عامه الثامن والعشرين، الذي شهد تحولا كبيرا في حياته. التحول بدأ ببحثه في محفوظات وأوراق والده التي عثر بداخلها على أعداد من مجلة "العروة الوثقى" التي أصدرها فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق جمال الدين الأفغاني وتلميذه الإمام الشيخ محمد عبده، والتي توقف صدورها بعد 18 عددا منها فقط، فما إن قرأ هذه الأعداد حتى أحدثت ضجة في تفكيره قرر بعدها أن يبحث عن باقي الأعداد التي وجدها كاملة في مكتبة شيخه حسين الجسر، فنسخها وأكب على قراءتها، فتغيرت صورة الإسلام في ذهنه ولم يعد الإسلام هو زهد "إحياء علوم الدين" وإنما أصبح هو الدين الذي يوازن بين الدين والدنيا. عن هذه التجربة يقول الشيخ "ثم إني رأيت في محفوظات والدي بعض نسخ العروة الوثقى فكان كل عدد منها كسلك من الكهرباء اتصل بي فأحدث في نفسي من الهزة والانفعال والحرارة ما قذف بي من طور إلى طور ومن حال إلى حال، ولقد أحدث لي هذا الفهم الجديد للإسلام رأيا فوق الذي كنت أراه في إرشاد المسلمين، فكان همي محصورا في تصحيح عقائد المسلمين ونهيهم عن المحرمات وحثهم على الطاعات، فتعلقت نفسي بوجوب إرشادهم إلى المدنية والمحافظة على ملكهم ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات وجميع مقومات الحياة". لم يفكر الشيخ رشيد رضا في السفر إلى الأستانة للتتلمذ على يد الأفغاني لأنه كان يعلم أن المناخ هناك قاتل للإبداع، فقرر السفر إلى مصر للتعلم على يد الشيخ محمد عبده، وما قوى هذه الفكرة لديه هو رحيل الأفغاني عام 1897، بحيث يكون موقعه منه كموقع محمد عبده من جمال الدين الأفغاني، ليقرر بعدها تجهيز عدته للرحيل إلى القاهرة التي وصلها في الأول من ديسمبر عام 1897، ويكون أول ما خطر بباله حين حط رحاله على أرض مصر هو زيارة الأستاذ الإمام، ويقول عن هذه المرحلة "كنت أعتقد أن استعدادي كله يبقى ضائعا إذا بقيت في سوريا وأنه لا يمكن أن يظهر هذا الاستعداد إلا بالعمل في مصر لما فيها من الحرية المفقودة في البلاد العثمانية". وقرر أن تكون "مجلة المنار" هي "العروة الوثقى" الجديدة، وأن تكون امتدادها الجديد والمعدل، وعرض الأمر على الشيخ محمد عبده فقبله واشترط عليه 3 شروط لإصدارها وهي "ألا تتحيز المجلة لحزب من الأحزاب، وألا تهتم بالرد على ذم أو منتقد، وألا تخدم أحدا مما يسميهم الناس "كبراء" بل تستخدمهم لكنها لا تكون في خدمتهم، وفي 22 شوال 1315ه 17 مارس سنة 1898 صدر العدد الأول من مجلة "المنار". وكعادة أي تجربة تجد دائما من يكون لها مترصدا، فقد كانت منبرا لمعارك الإمام محمد عبده ضد خصومه، فكان من الطبيعي أن ينال الشيخ رشيد رضا نصيبا من الهجوم المضاد الذي كان يشن دائما على الشيخ محمد عبده، وبلغ بهم الأمر أنهم حاولوا زرع الفتن بين الشيخ رشيد رضا والإمام محمد عبده للتفرقة بينهما لكنهم فشلوا، لذلك لجأوا إلى الدولة العثمانية واتهموا "رضا" بالهروب من التجنيد وفشلت محاولاتهم بإثبات أنه تمتع بالإعفاء منها لطلبه العلم ثم لبلوغه مرتبة العلماء المشتغلين بتدريس العلم. وعندما حانت وفاة الإمام محمد عبده عام 1905 كان الشيخ رشيد رضا بمثابة رائد حركة الإصلاح من بعده، حتى إن الأستاذ الإمام أنشد أبياتا عنه جاء فيها فيا رب إن قدرت رجعى قريبة.. إلى عالم الأرواح وانفض خاتم فبارك على الإسلام وارزقه مرشدا.. رشيدا يضيء النهج والليل قائم يماثلني نطقا وعلما وحكمة.. وشبه مني السيف والصيف صارم. بعد وفاة الإمام نهض رضا بالمهمة على أكمل وجه، وتوثقت علاقته بتلاميذ الإمام وبكوكبة من أبرز المفكرين العرب والمسلمين الذي اتخذوا من مصر منبرا في ظل اضطهاد الدولة العثمانية لهم، وواصلت "المنارة" دورها كساحة للفكر التجديدي الإسلامي، لكن طابعه في العمل اختلف عن الإمام في جانبين: الأول أنه غلب عليه الموازنة بين المنقول والمعقول، وظهر ذلك في تفسير بعض أجزاء القرآن الكريم التي أتمها بعد وفاة الإمام محمد عبده، أما العنصر الثاني فهو الميل للانغماس في العمل السياسي، فأثار قضايا عدة مثل قضية "الخلافة"، "علاقة العرب بالأتراك"، "الخطر الصهيوني على فلسطين"، حيث قال عن هذه الفترة "سالمنا السياسة فساورت ووثبت، وأسلسنا لها فجمحت وتقحمت". ظلت مجلة "المنار" أوسع ميادين الإصلاح الإسلامي دينيا وسياسيا في عصرها، حتى حانت ساعة رحيل الشيخ رشيد رضا، وكان ذلك في 23 جمادى الأولى 1365، 25 إبريل 1935، في حاث سيارة عندما كان عائدا من مدينة السويس، ففاضت روحه إلى ربه بعد أن أدى حق الله ورسوله في عملية تجديد الدين.