نشرة «المصري اليوم» من الإسكندرية: التحقيق مع 128 طالبا وطالبة بسبب الغش.. ولجان مفاجئة ب145 مركز شباب لرصد الانضباط    "موان" ينفذ عددًا من المبادرات في قطاع إدارة النفايات بموسم الحج    وزير الإعلام يزور جناح وزارة الداخلية في المعرض المصاحب لأعمال ملتقى إعلام الحج مكة المكرمة    حماس والجهاد الإسلامي: مستعدون للتعامل بإيجابية مع اتفاق ينهي حرب غزة    تصفيات المونديال| ليبيا يخسر من الرأس الأخضر وجزر القمر يفوز على تشاد    يورو 2024| أكبر عدد أهداف في مباراة بتاريخ بطولة الأمم الأوروبية    دي بروين يوجه صدمة مدوية لجماهير الاتحاد    وسط تكتم .. وفاة 4 سجناء داخل قسم شرطة إمبابة في ظروف غامضة    استعدادًا لعيد الأضحى.. حملات مكثفة لمراقبة الأسواق وإنذار 7 مطاعم بالغلق في مطروح    أحمد عز يكشف سبب تقديم ثلاثة أجزاء من "ولاد رزق".. شاهد    عالم أزهرى يكشف لقناة الناس لماذا لا يصوم الحجاج يوم عرفة.. فيديو    أول رد من عريس الشرقية بعد فيديو ضرب عروسه في الفرح: «غصب عني»    كاتبة أردنية: كلمة الرئيس السيسي في قمة اليوم مكاشفة وكلها مدعومة بالحقائق والوثائق    «الأعلى للإعلام»: حجب المنصات غير المرخصة    رسالة جديدة من «الهجرة» للمصريين في دول النزاعات بشأن مبادرة استيراد السيارات    خالد الجندي يعدد 4 مغانم في يوم عرفة: مغفرة ذنوب عامين كاملين    يوافق أول أيام عيد الأضحى.. ما حكم صيام اليوم العاشر من ذي الحجة؟    أمين الفتوى بدار الإفتاء: الأضحية لا تجزئ عن الأسرة كلها في حالة واحدة    نقابة الصيادلة: الدواء المصري هو الأرخص على مستوى العالم.. لازم نخلص من عقدة الخواجة    وكيل «صحة الشرقية» يناقش خطة اعتماد مستشفى الصدر ضمن التأمين الصحي الشامل    «طه»: الاستثمار في العنصر البشري والتعاون الدولي ركيزتان لمواجهة الأزمات الصحية بفعالية    لطلاب الثانوية العامة.. أكلات تحتوي على الأوميجا 3 وتساعد على التركيز    مباشر الآن تويتر HD.. مشاهدة الشوط الأول مباراة السعودية والأردن في تصفيات كأس العالم    مفاجأة.. بيراميدز مهدد بعدم المشاركة في البطولات الإفريقية    مصدر بمكافحة المنشطات: إمكانية رفع الإيقاف عن رمضان صبحى لحين عقد جلسة استماع ثانية    «ناسا» تكشف عن المكان الأكثر حرارة على الأرض.. لن تصدق كم بلغت؟    عبدالقادر علام: التفرد والتميز ضمن معايير اختيار الأعمال فى المعرض العام 44    محافظ كفرالشيخ يتابع أعمال رصف طريق الحصفة بالرياض    5 أعمال ثوابها يعادل أجر الحج والعمرة.. تعرف عليها    بريطانيا: ارتفاع مفاجئ في معدل البطالة يصيب سوق الوظائف بالوهن مجددا    يورو 2024 - الإصابة تحرم ليفاندوفسكي من مواجهة هولندا    «بابا قالي رحمة اتجننت».. ابن سفاح التجمع يكشف تفاصيل خطيرة أمام جهات التحقيق    عيد الأضحى في المغرب.. عادات وتقاليد    حقوق إنسان الشيوخ تتفقد مركز الإدمان والتعاطى بإمبابة    بدائل الثانوية العامة.. شروط الالتحاق بمدرسة الضبعة النووية بعد الإعدادية (رابط مباشر للتقديم)    رئيس الضرائب: المصلحة تذلل العقبات أمام المستثمرين السنغافوريين    مصرع 39 شخصا في غرق مركب تقل مهاجرين قبالة سواحل اليمن    قافلة مجمع البحوث الإسلامية بكفر الشيخ لتصحيح المفاهيم الخاطئة    تطوير وصيانة وإنتاج خرائط.. وزير الري يكشف عن مجهودات توزيع المياه في مصر    بالصور- محافظ القليوبية يستقبل وفدا كنسيا لتقديم التهنئة بعيد الأضحى    حكومة جديدة..بخريطة طريق رئاسية    تطوير مستشفى مطروح العام بتكلفة مليار جنيه وإنشاء أخرى للصحة النفسية    المجلس الوطني الفلسطيني: عمليات القتل والإعدامات بالضفة الغربية امتداد للإبادة الجماعية بغزة    الأمين العام للناتو: لاتفيا تمثل قدوة لدول الحلفاء    مجد القاسم يطرح ألبوم "بشواتي" في عيد الأضحى    تأجيل محاكمة المتهم بإصابة شاب بشلل نصفى لتجاوزه السرعة ل30 يوليو المقبل    إيلون ماسك: سأحظر أجهزة آيفون في شركاتي    الأزهر الشريف يهدي 114 مجلدا لمكتبة مصر العامة بدمنهور    سحب عينات من القمح والدقيق بمطاحن الوادي الجديد للتأكد من صلاحيتها ومطابقة المواصفات    وزير النقل يوجه تعليمات لطوائف التشغيل بالمنطقة الجنوبية للسكك الحديدية    محمد أبو هاشم: العشر الأوائل من ذى الحجة أقسم الله بها في سورة الفجر (فيديو)    بن غفير: صباح صعب مع الإعلان عن مقتل 4 من أبنائنا برفح    الدولار يقترب من أعلى مستوياته في شهر أمام اليورو    طائرته اختفت كأنها سراب.. من هو نائب رئيس مالاوي؟    وفاة المؤلف الموسيقي أمير جادو بعد معاناة مع المرض    عصام السيد: وزير الثقافة في عهد الإخوان لم يكن يعرفه أحد    بعد تصريحاته المثيرة للجدل.. إبراهيم فايق يوجه رسالة ل حسام حسن    فلسطين.. شهداء وجرحى جراء قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في هذا اليوم - وهو يوافق ذكري رحيل أبي الكاتب والمفكر الكبير محمد زكي عبد القادر - اعتدت ان أعود الي أوراق قديمة احتفظت بها وكأنها كنز!«
اليوم يوافق
نشر في الأخبار يوم 07 - 03 - 2010

في هذا اليوم - وهو يوافق ذكري رحيل أبي الكاتب والمفكر الكبير محمد زكي عبد القادر - اعتدت ان أعود الي أوراق قديمة احتفظت بها وكأنها كنز!«
اليوم يوافق ذكري رحيل أبي الكاتب والمفكر الكبير محمد زكي عبد القادر، في هذا اليوم اعتدت ان الوذ في مسائه بأوراقي القديمة وذكرياتي، والانسان بلا ذكريات قديمة، إنسان يعيش في فراغ، إن الذكريات جزء منا، قطعه من حياتنا وأعمارنا، صنعتنا دون أن نعرف أو نحس، لونت حياتنا، غذت أحلامنا، سكبت في أفئدتنا رحيق الحب والخير والجمال، وسكبت في كئووسنا الحزن والمحنة والعذاب، ومن هذا الخليط العجيب المتنافر كنا نحن، وكان طريقنا في الحياة، مملوءة حينا بالحب والخير والجمال، ومملوءة حينا بالحزن والمحنة والعذاب، ولا فرق بينهما ولا تناقض، فكما فعلت معنا ذكرياتنا الماضية، تفعل معنا أيامنا الحاضرة، وتفعل بنا ما تقبل من أيام.
إن ذكرياتنا هي القوائم التي تعتمد عليها خواطرنا وأفئدتنا ، ويرتد اليها نجاحنا واخفاقنا، بهجتنا وأحزاننا، إذا ضحكنا اليوم، لم تكن الضحكة حصاد الساعة فحسب، ولكنها حصاد الماضي مهما يكن بعيداً، إذا حزنا لم يكن حزننا حصاد الساعة فحسب، ولكنه حصاد ايام خلت، وأحزان كانت في قلوبنا ذات يوم، نحسب أنها ذهبت، وهي في الحقيقة بعض وجودنا، وكيف يذهب ما هو بعض الوجود!
في هذا اليوم اعتدت أن أعود الي ذكريات مضت، أنها أوراق قديمة احتفظت بها وكأنها كنز، مع أنها لا تعدو أن تكون بعض الرسائل والخواطر التي خطها أبي بقلمه، وبثها أحاسيسه واحزانه وتجاربه، هي خلجات نفس صادقة، ومشاعر نابعة من القلب والوجدان، إنها أوراق عزيزة علي، أشعر وأنا أقرأها أنها تتغلغل في كل ذرة في كياني، وتهز اعماقي، وتدفع الدموع الي عيني.. إنها قطعة مني ومن حياتي.
إبني.. نعمتي ونعيمي
هذه السطور كتبها أبي بعد ولادتي.. كان لا يحب قبل زواجه الاطفال، ويتعجب في نفسه كيف يحب الناس الاطفال، ان فيها تصويرا صادقا لعاطفته التي تحولت بعد أن رزق بطفل..
أي بني.. أيها الغارق في أحلام النور، والشادي في سموات العلا، ايتها الزهرة الأولي التي اهدتها لي اطباق المجهول.. وجعلت فيها نعمتي ونعيمي.
إنك تنام اليوم تحملك أيد تحنو عليك، وتسهر حولك عيون تحبك وترعاك، لا تعرف من هذه الدنيا الكرامة المجروحة، ولا الأمل الضائع، لا تفهم منها اكثر مما يتراءي لك.. أحلام ونور!!
اتعرف يابني ماذا يطوف بقلب ابيك الذي يبتسم في وجهك ويضحك، افتعرف بماذا تزخر نفسه كل يوم وهو يطالع عينيك اللامعتين، ويقبل فمك الصغير.
افتعرف انه ينظر اليك ساعات وساعات، ووجهه المنير يقتم رويداً رويدا، وعيناه الفرحتان تثقلان وتثقلان لأن دمعة كبيرة تترق فيهما.
أفتعرف أن هذه الدمعة الكبيرة ساعة تنحدر، يضمك الي صدره ويقبلك مرات ومرات، ودمعات كبيرة اخري تتسابق الي مآقيه المجروحة، ونفسه الحزينة.
آه يا بني لو عرفت كل هذه الحقائق لعدت من حيث اتيت، ولرجعت الي استار المجهول، ولكنك اليوم لا تعرف شيئا، ومن أجل ذلك، فأنت في بسمة ونور.
إني لاشفق عليك أن تحتمل ما احتمل ابوك، وأن تكون قسمتك في هذه الحياة مثل قسمته، شمعة تحترق لتنير.. أجل أنني اخشي عليك ألا تنعم في الحياة ببهجة الشباب، فتدرك متاعبها في أولي الخطوات.
أشفق علي نضرتك أن تذبل، ونور عينيك أن يخبو، واحلامك العذبة ان يدركها القتام.. ها هي اعصاب الليل تتراخي، ونجوم السماء تسقط الواحدة تلو الاخري ونور النهار ينسل رويداً رويداً، فيبسط علي العالم النائم اجمل الاحلام، وأعذب الرؤي، وأنت.. أنت يا طفلي العزيز، تناغي بصوتك الملائكي كل ما تفيض به الطبيعة من سحر وفتنة، فيكمل بك جمالها وطهرها، وأومن حقا في هذه الساعة وحدها ان اسعد ما في الحياة »وجه طفل«.
وأحملك بين ذراعي وأجعل عينيك إلي السماء.. إلي النجوم المتلاشية.. إلي النور الذي يشع في صفحتها رويداً رويداً، وأرقب تقاسيم وجهك في هذا الهدوء الشامل، فأحسبك فيلسوفا تقيس الاخيلة والأحلام! حقا إن أروع ما في العالم من فتنة وسحر، وجه الطبيعة ووجه الطفل.. إني لاعرف مصير هذه النجوم المتلاشية، أعرف مصير هذا النور الذي يبسط علي العالم جناحيه، أعرف أن ظلمة الليل تنجلي ليطلع النهار.. أعرف كثيرا من حقائق الحياة ودروسها، أعرف الامها وأحزانها، مرنت علي بأسها ونعيمها ، ولكني في كل ما عرفت وجربت لا استطيع ان اتبين القدر الذي يتلقاك غدا، وكل ما أعرفه الان انك وكل طفل في العالم جئتم اليه كي تبسطوا علي عذابه رحمة، وعلي ظلمته نوراً.
كم أخشي عليك يا بني هزة القدر، وعصف الايام، أخشي أن تحمل اليك العذاب والمحنة فتجعل حياتك كما جعلت حياة ابيك، شقوة وعناء.
كم أنظر إلي عينيك اللتين لا تبسمان الا بالنور والامل، وأفكر يوم تؤودك الايام، فتفيضان حزناً ودموعاً، فأحس في أعماق صدري بالظلم الذي يطوف بالبائسين، بالمتاعب التي تدخل علي الامنين، وتبدل من أفراحهم، اتراحا ومن أمالهم الاماً.
يوم زفت لي أمك أن في بطنها جنيناً يختلج، كنت قاسيا عليك وعليها، لابل مشفقاً عليكما إلي أبعد ما يتصور مشفق رحيم، كنت قاسيا لاني تجهمت في وجهها، وفي وجهك انت، أنت الذي كنت حينئذ نطفة لا تحس ولا تري، فكرت يا بني فيك، وقد استكملت شهور حملك، وبزغ نورك إلي الحياة، وأبوك لا يستطيع أن يقدم لك، وأنت عزيز عليه عزة الحياة نفسها، كل ما تحتاج إليه طفولتك، وكم فيها من حاجات.
اما اليوم وقد انار مقدمك ظلمة الحياة كلها، وجعل منها فردوساً لم أكن احلم به من قبل.. ها أنا ذا استغفر اليك يا بني عما بدر مني، استغفر إليك عما تجهمت في وجهك، وإن لم يكن لك حينئذ وجه ولاعين.
إنني عندما كنت اعود الي المنزل في منتصف الليل وقد اتممت عملي المضني، أري في بسمة واحدة من بسماتك ما يبدد عني العناء والضني، فلك مني كل حمد وشكر، فأنا كافر لو لم اسجل لك هذه النعمة وهذا النعيم. مباركة كل أنثي الف مرة، ومبارك الله الف مرة، حين يخلق الي العالم طفلا صغيرا، فيضيف إلي ملائكته ملاكاً جديداً، حين ينزل بهذا النور فيبدد به كثيراً من مظالم الحياة وبأسها.
والآن يا بني لادعك غارقا في أحلامك ونورك، ولأعد الي شقوتي وعنائي، لأعد إلي حقائق الحياة القاسية، ولادعك في نعومة الخيال وعذوبة المجهول، ملكا مع ملائكة، ونوراً مع أنوار، وطيفاً من طيوف.. خذ يا بني ما استطعت من هذه السعادة، والتهم منها ما شئت، ففي افق الحياة شفق تطلع بعده آلامها وأحزانها، اجتازه ابوك منذ زمن بعيد، ومازال بينك وبينه أمد بعيد.. أدعو الله أن يطيل فيه نورك وأحلامك!!
وداعاً وإلي الملتقي!
هذه الكلمات كتبها أبي بعد رحيل أمي.. كانت مصابة بداء الصدر، لم يكن له علاج في ذاك الوقت، اختطفها الموت وهي في ريعان شبابها، كانت زهرة نضرة في الثانية والعشرين من عمرها.. وكان أبي في السادسة والعشرين.. هكذا استقبل هذه المأساة القاسية وهو مايزال شابا طري العود، لم يطرق ابواب الحياة بعد..
لم اشهد موتك - يا عزيزتي - ولم أقف الي سريرك حين لفظت انفاسك الاخيرة، فلم أعرف كيف جازت روحك الي ربها، ولكنني حين كشفت الغطاء وجدت علي وجهك هذا النور الراضي. وهذه البسمة الامنة، فأيقنت انك ارتفعت الي السماء، كما يرتفع الملاكمة الابرار.
» والان يالعمق المي - يا عزيزتي - إني لاحس بالسخرية حين أزعم أني أعبر عنه بالقلم، انه لاسمي من القلم، وأسمي من الكلام، وأسمي من الدموع، واسمي من كل شئ في الوجود، هذا الوجود الذي كرهته، ولولا بسمة طفلي العزيز تنير ظلام نفسي، وتضفي علي قلبي الاسيف نور الأمل والرجاء، ما بقيت حريصاً علي الدنيا لحظة واحدة.
واني لاجلس الان وخاطري وخيالي وذكرياتي ونفسي، تذهب جميعاً إلي الماضي، هذا الماضي العزيز الذي نسجنا خيوطه سويا، فألف بين قلبينا، ومنح روحينا الخلود، هذه الساعات السعيدة، هذه الايام المقدسة، هذه السنوات الخمس الطويلة التي شاركتني فيها الحياة بكل ما تحمل الي الاحياء من خير وشر، فكنت شريكة كريمة نبيلة عزيزة علي وعلي من عرفك من الناس اجمعين، هذه السنوات والشهور والساعات بكل ما حفلت من ذكريات تجتمع اليوم في خاطري بعد أن اودعتك الثري، واصبحت الي جوار الله في جنات الخالدين، تجتمع هذه الذكريات كلها في خاطري، فترفعك في نفسي إلي مكانة التقديس، وستبقي ابداً تراثي العزيز، أحرص عليه حرصي علي الحياة الي أن يأذن الله، فيكون ملتقانا القريب أو البعيد.
اما وديعتك، ووديعة الله لنا، هذا الطفل الحبيب العزيز، فسيبقي في رعاية الله، يمنحه الهدوء والسعادة، ويشمله ابداً بالعطف والنور والحب الي ان يشتد عوده، فأدعه يعرف أن كانت له أم من خير الامهات، وعلي قبرك سأنثر وإياه ازهار الذكري التي لا تبيد..«
أما انت.. فليكن مضجعك راضياً.. ولتقر نفسك في سماء الله العلي، فتمرحي في جناته، فأنت جديرة بهذا التكريم.
وداعا.. ولتغفري لي كل ما قدمت إليك من اساءة اذا كنت قد فعلت، ولتجففي بنفسك الراضي دموع عيني التي لاتتوقف، ولتشملي بنور قلبك الوفي نيران قلبي الحزين.
أشعر أني لا أستطيع متابعة الكتابة، إن الألم يضغط علي ضغطا شديدا، إن الذكريات تتزاحم في خاطري، فتملأ عيني دموعا، ونفسي أسي وحسرات«.
كنت لك اباً وأماً
وهذه إحدي الرسائل التي كتبها لي أبي خلال وجودي في الريف أثناء الاجازة الصيفية.. وكنت في الثالثة عشرة من عمري.
لقد بذلت جهد استطاعتي ان اكون لك أبا وأما، وأن أملأ الفراغ الذي خلقته تلك التي عاشت لك، وكانت في حياتها زهرة عطرة فيها رقة الزهور وجمالها.. وأسفاه وكان لها عمرها، لم أحدثك عنها قط، آثرت أن تنساها وأنت في طفولتك العذبة، آثرت الا اكسر قلبك، ولكنني أصبحت احس بواجبي في أن احدثك عنها كي تحبها وتتذكرها ابداً، ولم أكن استطيع ألا أن افعل ذلك، فإن لها في عنقي وعنقك دينا لابد أن نفيا به، ولست أحب ان نذكرها بالدموع، ولكنني أحب أن نذكرها بأن تصبح في مقتبل ايامك جديراً بها وبأمومتها، ولعلك لا تعرف يابني أنها لفظت انفاسها الاخيرة بعيدة عنك وعني، ولعلك لا تعرف أن إسمك ورسمك كانا آخر ما دار في خيالها، أغمضت عينيها لست اعرف كيف، ولكنني أتصورها - وقد كانت تعبدك - تسأل ربك وربي أن يرعاك ويحرسك«..
ان قصتي معك طويلة يا بني، فكم ليلة بت فيها مسهدا أبكي وأ نت غارق في أحلامك، أسأل ربي: ماذا أنت وما ستكون، وكيف أستطيع أن افضي إليك حينما تكبر، بقصة أمك التي ذهبت الي ربها وتركتك في كفالته، وقد رعاك ربي كما رعاني، افاض علي من نعمته لانني احببتك، ووفيت لأمك وذكراها، لم أدعك قط تحزن، لم أدعك تشعر أنك فقدت أعز مخلوق عليك، كانت الدمعة في عينيك ترعبني يا بني، كنت احسبها لا تجيء من مخلوق، ولكن من ملاك.. لقد زادتني ظروفك حبا للناس واشفاقا عليهم، لم أحبك أنت فقط، ولكنني احببت كل طفل، أحببت الناس جميعاً.
كم أرجو يا بني ان يتسع قلبك انت ايضا فتحب كل الناس، اياك أن تحقد علي أحد، ان البشر ضعاف مساكين، لا تكره الحاقد يحقد عليك، ولا المذنب يسئ اليك، ولا اللص يسرق مالك، بل أرث لهم يا بني، حاول أن ترفع عنهم ذنوبهم ما استطعت، كن في حياتك بلسماً ونورا، رحمة وسلاماً، إجعل المكان الذي توجد فيه يرفرف عليه الحب والنعمة والرضا، فأنت لا تعرف ماذا يخبئ القدر، لا تكن مغرورا.. إن المال والجاه والصحة، إنها كلها عارية لك اليوم، وغدا قد لا تكون، ان الله يعطي والله يمنع، لا تحسب أنك تملي علي القدر، ولكن القدر هو الذي يملي علينا.
لقد فقدت عطف امك منذ طفولتك، فنثر هذا علي وجهك نوعاً من السكون والحزن الكظيم، وأني لاعرفه يا بني وان حاولت اخفاءه، ولكنك تستطيع ان تحول هذا الحزن الي مسرة عظمي، إذا عرفت كيف تحب الناس جميعاً.
فقدت طعم الحياة!!
وهذه ايضا رسالة اخري تلقيتها من أبي خلال العطلة الصيفية، وكنت في ذاك الوقت في المرحلة الثانوية، واقضي جزءا من الاجازة في قريتنا بالشرقية.
لست ادري يا بني لماذا فقدت كل طعم للحياة، أضحيت فيها كالآلة التي تعمل ليل نهار، ولكنها لا تحس بالعمل، ويلوح لي أنها ستظل كذلك الي ان تتوقف عن العمل، كنت من قبل احب الطبيعة وأعشق جمالها.. كنت أحب أن أسكن اليها، وأهرب من الناس، أما الان فأصبحت اهرب من الطبيعة الي الناس، لا كرهاً في الطبيعة، ولكن لانها لم تعد تحرك الأحاسيس التي كانت تحركها من قبل في نفسي، وهذه امارة سيئة، أنا الذي نشأت في ظلال الريف العزيز، احببته وأحبني، ماذا دهاني وماذا دهاه، أما هو فمايزال كالعهد به، كل يوم في خلق جديد، نبت صغير، وشجر كبير، غدير هدار، ومجري عذب سلسبيل، ناعورة ونافورة، سنابل القمح الذهبية، ابراج القطن الفضية، كل امارات الريف ماتزال كما هي، اما انا فيلوح لي أن كل احساس قد اوشك ان يتغير، وكل تصور قد اوشك ان يتحول.
كان الحب والصفاء والهدوء، وعذوبة النفس ملاذي كلما آذتني الحوادث، وأثقلتني الكروب، وكانت طفولتك يا بني تمنحني رقة لم يمنحها لي شئ في الوجود، وكان ابي يسبغ علي عطفا ما أشد حاجتي اليه، وكنت أحس في نظراته انه قدر من الحب لا أحسه في الوجود كله.
اما انت يابني فقد كبرت، لم تعد طفلا، درجت من الطفولة الي مدارج الفتوة، واني لمغتبط ان أراك تنمو في ازدهار، ولكن احساساً مؤلماً ينتابني هو أحساس الزارع الساقي الذي يحنو علي نباته وهو رطب، تربط بينهما روابط عديدة دقيقة ، فإذا نما الزرع واشتد ساعده، لم يعد في حاجة إلي الرعاية، أو أضحت حاجته اليها قليلة، وفي فترات متفاوته..
لعلك لا تذكر شيئا مما كان يا بني، لم تكن تخطئني لحظة واحدة في الليل والنهار، كنت تفتقدني في كل وقت، فإذا كنت إلي جانبك، فأنت مغتبط سعيد، أما الان يا بني فقد نشآت لك صداقات مع أقرانك أصبحت أنا نجماً يميل إلي الانحدار في افقك.
لكم أحب ان أعيش لحظات في الماضي يا بني، حينما كان ابي يغمرني بعطفه وحبه، فأحس أنني مهما تقسو الدنيا علي، ومهما أجد من الجحود والنكران، فإن رحابه تسع ألمي، وصدره الحنون يذهب عني الحزن والخوف والجزع واليأس.
ما أمر الكأس التي شربتها بفقده أتذكر يابني الكأس التي شربتها بفقده أتذكر يابني تلك الامسيات العذبة التي كان يجتمع فيها شملنا أنت بطلعتك الحلوة وهدوئك الذي لم يفارقك منذ طفولتك وهو بوقاره وهيبته وطيبة قلبه وأعمامك وأعمامي واخوتي.. نحن جميعا في عقد مجتمع تحت تلك »التكعيبة« التي أراها اليوم مكتئبة حزينة وكانت بالأمس في أنضر أثواب الشباب.. أتراها هي الاخري شعرت ان الجمع قد انتثر الي غير التئام.. وآسفاه يا بني.. لا تزال الارض هي الارض والزرع هو الزرع، والماء هو الماء، والقمر هو القمر والليل هو الليل، ولكن لماذا لا أحس لها الجمال الذي كنت احسه؟.. أذكريا بني ابدا ان طفولتك التي قضيتها في أحضاني، فكنت لك أباً وأماً هي التي كونتني وصهرتني وعذبتني واسعدتني، واذكر انني اعيش اليوم علي خيالها بكل ما كان فيه من قسوة وألم وحرمان، إنها تثير اليوم في عيني الدموع، وما اسعدني إذ ابكي الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، لقد حسبت أن عيني جفتا، وأن كل إحساسي قد خمد في نفسي الي الابد.
ولست أدري يا بني لماذا اكتب لك هكذا، ولكنني نذرت حينما بدأت اكتب لك هذه الرسائل ان اسجل فيها خلجات نفسي جميعاً، فأقبل الخير منها كما تقبل الشر، واقبل ما فيها من بهجة، وما قد تثيره من دمع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.