من الأشياء التي تستوقفني حين أفكر في الذات الإلهية وصفه سبحانه وتعالي لنفسه بأنه نور. يقول جل وعلا في سورة النور : « اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ «، وقد شغلت هذه الآية المفسرين فراحوا يجتهدون في تفسيرها، وحاول أغلبهم تأويل كلمة « نور»، بحيث ينفي عن الله صفة النور الذي نعرفه، منعاً للتشبيه أو التجسيم. وجمع الماوردي في تفسيره عدداً من التأويلات فقال : « قوله تعالي : « اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ » فيه أربعة أقاويل : أحدها : معناه الله هادي السموات والأرض، قاله ابن عباس، وأنس. الثاني : الله مدبر السموات والأرض، قاله مجاهد. الثالث : الله ضياء السموات والأرض، قاله أُبي. الرابع : منوِّر السموات والأرض. ويتحدث عن الشيء الذي نور به السموات والأرض فيقول إن فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : الله نور السموات بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء. الثاني : أنه نور السموات بالهيبة ونور الأرض بالقدرة. الثالث : نورهما بشمسها وقمرها ونجومها، قاله الحسن، وأبو العالية. هذا ماقاله الماوردي. لكن هناك المزيد من الاجتهادات. جاء في تفسير البحر : « النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر، فإسناده إلي الله تعالي مجاز كما تقول زيد كَرَمٌ وَجودٌ، وإسناده علي اعتبارين، إما علي أنه بمعني اسم الفاعل أي منوّر السموات والأرض.... وإما علي حذف ( ذو)، أي ذو نور، ويؤيده قوله « مثل نوره »، ويحتمل أن يَجعل نوراً علي سبيل المدح، كما قالوا فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها».. لكن رغم محاولات التحفظ الكثيرة من المفسرين فإن بعضهم تجاسروا فقالوا إن الله نور بمعني الكلمة، ومنهم السعدي : « اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ» الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالي بذاته نور، وحجابه -الذي لولا لطفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه - نُور، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والنور، وبه استنارت الجنة. وكذلك النور المعنوي يرجع إلي الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور. فلولا نوره تعالي، لتراكمت الظلمات « واختلاف المفسرين وتعدد الاجتهادات ثراء فكري، فليجتهد كل منا في فهم النور حسبما يفتح الله عليه مسترشدا بالتفاسير المعتبرة وبقلبه. ومن الجميل أنه سبحانه يقول عن الكتب المقدسة إن بها نوراً، ففي سورة المائدة يقول عن التوراة « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ « ويقول عن الإنجيل « وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًي وَنُورٌ « كما يقول عن القرآن في سورة الشوري « مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا « ويقول سبحانه عن النبي صلي الله عليه وسلم إنه نور « قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ». فالنور في هذه الآية يقصد به النبي صلي الله عليه وسلم. ويصف سبحانه وتعالي الإيمان بأنه نور. جاء في سورة المائدة « وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ « والظلمات هنا هي الكفر والنور هو الإيمان، كما جاء في تفسير الجلالين». وفي يوم القيامة تتجسد نتيجة أعمال ابن آدم في الدنيا في صورة نور. يقول تعالي في سورة الحديد : « يَوْمَ تَرَي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَي نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ « نخرج مما سبق بأن الله نور، والنبي نور، والأديان نور، والإيمان نور، وأننا من الناحية الروحية فينا قبسات نورانية، وحين نؤمن نعيش في بحار من الأنوار، ونبعث يوم القيامة ومعنا النور. اللهم زدنا نوراً.