في عصر طغت عليه الإيقاعات الطربية، أصبح من العسير الحديث عن الآلات الموسيقية الوترية بعد أن أصبحت تعاني من الإهمال و«سوء المعاملة».. فالفن الغنائي اليوم طغت عليه النغمات الغربية بحيث إن التخت الشرقي بآلاته المعروفة (العود، الكمنجة، القانون، الناي، والدف..)، بدأ بالانكماش وربما يعيش حاليا، وضعية احتضار في عديد من البلدان العربية.. إلا أن ردة فعل قوية تعيشها صناعة الآلات الموسيقية الوترية في تونس، مما أعطى جرعة أوكسجين نظيفة على هذه الصناعة وعلى مزاولة هذا العمل اليدوي الذي يرقى إلى حدود الصناعة الفنية المميزة. فبعد موجة «تغريب» الألحان والإيقاعات والنغمات التي تعرفها الساحة الغنائية العربية ككل، تعيش الساحة الفنية التونسية زحفا في الاتجاه المعاكس، فالعائلات التونسية أصبحت على يقين من ضرورة الاعتناء بأبنائها الصغار، وهي مقتنعة تمام الاقتناع بضرورة تعليمهم أصول الموسيقى إلى جانب التعليم بالمؤسسات التربوية، وهذه موجة عامة أفرزها الوضع الاجتماعي المحلي، إذ ان التعليم لوحده، لم يعد الطريق الوحيد للنجاح الاجتماعي، بل إن النجاح قد يأتي من مصادر أخرى مثل الموسيقى والرياضة بأنواعها. في هذا الإطار، بحثنا عن أسماء المتعاطين لصناعة الآلات الموسيقية في تونس، وحاورناهم حول وضع هذه الصناعة والمشاكل التي تعترضها، وإمكانات تطويرها ودرجة إقبال العائلات التونسية على الآلات الموسيقية الأساسية (العود والكمنجة والناي بالأساس). البداية كانت مع هشام بوعلا، الواقع محله في شارع الحرية على بعد أمتار من مبنى الإذاعة والتلفزة التونسية، محل صغير معلقة به عديد الآلات الموسيقية، الترحاب كان كبيرا والحفاوة كانت بالغة. حدثنا هشام بوعلا، الاختصاصي في صنع آلة العود وتصليح جميع الآلات الموسيقية، عن أنواع العود من الشرقي والعراقي والتركي إلى العود التونسي، وهذه الأصناف تنتج نغمات مميزة وتؤدي مقامات بعينها. فالعود التونسي على سبيل المثال المكون من أربعة أوتار يستعمل أساسا لعزف المقامات والموسيقى التقليدية العربية، وقد كان الفنان خميس الترنان، والفنان الطاهر غرسة وابنه زياد غرسة، من بين أمهر العازفين على العود التونسي، وذلك في تأدية الموسيقى الأندلسية المعروفة ب «المالوف». أما أنواع العود الأخرى، فهي مخصصة لتأدية مقامات أخرى. أما بخصوص صناعة الآلات الموسيقية في تونس، فإن هشام بوعلا، يؤكد وجود إشكالية في الحصول على الخشب من نوع «أكاجو»، الذي تورده تونس من افريقيا وتحديدا من الكاميرون وساحل العاج. أما الخشب الأبيض، فإنه يصلنا من روسيا. ولا يحصل صناع الآلات الموسيقية على النوعية الجيدة إلا بصعوبة. وبالرغم من وجود بعض المصاعب، فإن الإقبال على اقتناء تلك الآلات هو الذي يخفف عليهم تلك المعاناة. ولئن كانت عمليات الإصلاح قليلة، فإن الصناعة تعرف انتعاشة ملحوظة من قبل التلاميذ. ويتراوح سعر العود على سبيل المثال بين 120 و250 دينارا تونسيا (أي ما يعادل 100 $ إلى 208 $)، أما متوسط سعر الكمنجة فهو في حدود 90 دينارا تونسيا (حوالي 75$). ويرى محدثنا أن موضة الآلات الإيقاعية ذات النغمات الغربية، لا تعدو أن تكون موجة عابرة سرعان ما ستسترجع بعدها الآلات الموسيقية الأساسية المكونة للتخت العربي، أنفاسها من جديد. واغتنمنا وجود محمد صالح الجابري، لإصلاح بعض الآلات الوترية، فأكد لنا تعلقه بهذه الآلات وتشجيع أبنائه على الإقبال على الآلات التي تعلم الموسيقى وتهذب الذوق وتشغل البال. فابنته تتعلم العزف على الكمنجة، أما ابنه فقد أقبل على آلة العود، ويضيف «لئن لم أحقق رغبة الطفولة في تعلم العزف على الآلات الموسيقية، فقد نقلت تلك الرغبة إلى أبنائي». كلماته كانت مزيجا من حسرة الشيخوخة وتفاؤل الشباب. ويؤكد أن صناعة العود والكمنجة لدى هشام بوعلا، هي بمثابة الفن الأصيل، والصناعة غير القابلة للتقليد، فكل آلة تأخذ من روحه ولا يوجد لها مثيل لدى الغير، يقول: «لقد اقتنيت منذ ست سنوات آلة عود بحوالي 250 دينارا (قرابة 208 $)، وبمرور الوقت أصبحت بمثابة التحفة الفنية، وقد أغراني بعض المهتمين بالآلات الوترية بما لا يقل عن 500 دينار تونسي (حوالي 416$)، ولم أستطع التفريط فيها، وهو ما يؤكد أهمية الحرفة ودقة الصناعة». وانتقلنا في جولتنا إلى منطقة باب سويقة بالمدينة العتيقة، حيث التقينا بماهر الشريف، المتخصص في بيع وإصلاح الآلات الموسيقية منذ سنة 1980. الحديث كان شيقا، فقد مزج من خلاله محدثنا بين الثقافة الموسيقية والدفاع عن الروح الشرقية، يقول: «تعلمت هذه الصناعة على يد أستاذي عبد العزيز الجميل، وهو من أوائل مَن صنعوا الآلات في تونس بنهج سيدي المفرج، ولم أنتقل لهذا المحل إلا سنة 1992، وقد أصبح المحل الأصلي بمثابة المعلم التاريخي المهم». إلا أن ماهر الشريف لم يكتف بهذا التكوين، بل توجه إلى أسطمبول (تركيا)، على نفقته الخاصة، لتعلم أنواع العود، ومقاييس تعديله، وذلك بهدف المزيد من إتقان الصنعة والتعرف على أنواع القوالب، ودراسة الموسيقى والتعرف على الأصوات التي يصدرها العود، يقول: «نحن نتعلم أصول صناعة العود، وننقل الصنعة من شخص إلى آخر، لكن هذا التعليم يفتقر للمقاييس العلمية، وهو ما دعاني إلى هذا التكوين التكميلي في تركيا». ولا يخفي محدثنا طغيان النزعة الغربية على الشباب التونسي وهو ما جعله يعوض إقبال الآباء والأجداد على الآلات الوترية بطلب تعلم آلة القيثارة على سبيل المثال ليذهب إلى ظنه أن تلك الآلة هي دليل تطور ومواكبة للعصر، وقد فتحت للغرض معاهد خاصة لتعليم الموسيقى، إلا أن الشباب لا يتلقى التأطير الجيد والسليم، حتى ان تلك المدارس كادت تهمش الموسيقى بأكملها. لكن هذه الموجة كانت عابرة ولم تترك أثرا بالغا في الأجيال الجديدة، إذ سرعان ما تم الرجوع إلى سلطان الآلات الموسيقية، ونعني به العود، فمعرفتنا الكاملة والتفصيلية بموسيقانا وآلاتنا الموسيقية تبقى ضرورية وإجبارية قبل التعرف على الموسيقى الغربية. كان ماهر الشريف يتحدث بنغمة الأسف على ضياع شيء ثمين وهو اليوم مبتهج لرجوعه، يقول: «الأجانب ألمان وأسبان وروس وغيرهم يشترون العود والقانون والدربوكة والزكرة (آلة نفخية وترية)، وذلك في محاولة للاطلاع عليها ومعرفتها، أما نحن فنميل إلى الأرغن والقيثارة. وهذا ما سيجعل موسيقانا وآلاتنا تندثر إذا لم نجد من يحفظها ويحافظ عليها». يواصل ماهر الشريف حديثه قائلا: «نحن نريد أن نتعلم أصول الموسيقى، وأنا أتساءل: كيف يمكن لعازف على آلة من الآلات الموسيقية أن يعزف عليها وهو لا يعرف أسرارها: مكوناتها، أصواتها، طريقة صنعها، تعديلها؟» ويتذكر محدثنا الصعوبات العديدة التي عرفتها صناعة الآلات الموسيقية الوترية خلال سنوات الثمانينات من القرن الماضي التي دخلت خانة الذكريات. وبداية من أوائل التسعينات، تغيرت الأحوال بتغير العقليات والإغراء الكبير الذي أصبحت تمثله الموسيقى والغناء وارتباطهما بحلم الشهرة والثروة في أوقات قياسية. وانقلبت الآية فأصبح الإقبال على آلاتنا أكثر من الآلات الغربية، وهذا لعمري مصدر سعادة بالنسبة لنا، حتى وإن شهدنا تباينا كبيرا على مستوى الغايات، لكن ما يقلقنا كذلك هو تلك الآلات الوترية القادمة علينا من كل حدب وصوب وهي زهيدة الثمن، لكنها لا تقدم للمتعلمين إلا القليل مما يجب أن يتعلموه، فهي في حالات عديدة صعبة التعديل وقابلة للتلف بسهولة، وهي تبعا لذلك لا ترقى إلى مستوى صناعتنا اليدوية. ماهر الشريف أصر في نهاية المطاف على ارتداء زي العمل، وهو يصر على أنه مر بكل المراحل اللازمة لصناعة العود، وهو يحاول اليوم تمرير هذه الصناعة إلى الأجيال القادمة أولا، بتمكينهم من آلة موسيقية سليمة، وثانيا بإصلاحها عند الضرورة بحرفية وإتقان، وهذا ما يمكن أن يقدمه للشباب المقبل على هذه المهنة الراقية، يختم: «لقد عرض البعض عليّ السفر إلى الخارج (السعودية، اسبانيا)، وفتح ورشات هناك لتعليم الصغار هذه الصناعة والتعرف على أسرارها، لكنني اعتذرت بكل لطف لأنني أدين بهذه الصناعة لمعلمي الذي تدربت لديه في المدينة العتيقة، وأنا لا أستطيع العيش خارج أزقتها وممراتها الضيقة». نترك الحرفي بين آلاته المتعددة الوضعيات: بعضها مكتمل منتصب في انتظار صاحبه، وبعضها نصف مكتمل يطلب من صانعه الالتفات إليه، والبعض الآخر ما زال مادة سيفصلها حسب الطلب القادم عليه كل يوم.