سألت عالم النفس الكبير الدكتور أحمد عكاشة:متي تقتل الأم ابنها؟ كنت أسأل وفي ذهني الخبر الذي نشرته الصحف منذ أيام عن قتل أم لابنها وعمره تسع سنوات..بعد أن أعياها الفقر والحاجة ولم تجد أمامها إلا قتله رحمة به ثم محاولتها الانتحار..ما الذي يدفع الأم إلي مثل تلك الحالة الجنونية.. وكيف كان شعورها وهي تخنق بيديها فلذة كبدها..ثم أين غريزة الأمومة التي تعلو كل غريزة أخري؟ ألقيت أسئلتي دفعة واحدة علي الدكتور عكاشة في محاولة مني للفهم. يري الدكتور عكاشة أن هذه الأم قد وصلت إلي حالة نفسية سوداء وعدمية بعد أن تساوت أمام ناظريها وعقلها كل الأشياء، ولم يعد هناك فرق بين الحياة والموت، وتلك اللحظة السوداء يمر بها الإنسان عندما يبلغ به الاكتئاب مداه، فيحدث تغيير كبير في كيمياء المخ البشري، مما يحمل معه آلامًا نفسيًا حادة لا يمكن لنا تصورها.. سكت د.عكاشة لحظة كأنه يبحث عن كلمة موجزة تنقل وتلخص ما يريده، فقال: الاكتئاب هو الكفر، فعندما يبلغ الإنسان أقصي-وأقسي- درجات الاكتئاب النفسي فإنه يكفر بكل شيء وأي شيء وتتوه عنده المعايير وتختلط لديه الصورة فلا يستطيع التمييز بين الصواب والخطأ أو الأبيض والأسود..لكن المؤسف أنه في منطقتنا العربية لا نلق بالاً إلي الأمراض النفسية التي تصيب غالبية المواطنين، وظني -والكلام لعكاشة-أن جميع أمراض القلب سببها الضغوط النفسية. ويكمل عكاشة. إذا عدنا إلي سؤالك عن الحالة التي كانت عليها الأم لحظة قتل وليدها..فالمؤكد أنها كانت أبلغ وأقسي مما ذكرت. لم يتفق معي الدكتور عكاشة عندما قلت له إن الأمومة هي الغريزة الأقوي، حيث يري وجود غريزة أخري تعلو غزيزة الأمومة، وهي غريزة السلطة، فالحاكم أو المسئول الذي يستمر فترة طويلة ممارسًا السلطة تحدث لديه حالة من التوحد مع السلطة والمنصب ويصبح من المستحيل أن يترك تلك القوة المسماة السلطة، بل تصبح لديه أقوي من غريزة الأبوة بعد أن أصبحت هي كل كيانه..لذا فمن المستبعد أن يترك أي مسئول في السلطة كرسيه لأحد، خاصة إذا مكث فيه فترة طويلة. يمتعك الدكتور عكاشة وهو يتحدث عن أسرار النفس البشرية وأغوارها، ثم ينتقل بحديثه إلي الفن وكيف تقمص الفنان الراحل أحمد زكي شخصية صاحب السلطة (ضابط أمن الدولة) في رائعته «زوجة رجل مهم»..وعندما خرج من السلطة لم يكن أمامه سوي الانتحار حلاً لمعاناته النفسية. دفعني انتقاله للحوار في الفن أن أسأله عن التقمص في التمثيل وتقمص الفنان الشخصية وأشهر الحالات التي مرت عليه، فحكي لي كيف أن أحمد زكي بعد أن تقمص شخصية طه حسين في مسلسله الشهير (الأيام)، ولأنه كان كفيفًا طوال المسلسل، فإنه وبعد انتهاء تصوير المسلسل بدأ يشعر بضعف في الإبصار استمر تسعة أشهر، ورغم أن الفحوصات الطبية قد أثبتت سلامة عينيه لكن أحمد زكي ظل متأثرًا بتقمصه شخصية الكفيف، ويري عكاشة أن غالبية المبدعين في جميع المجالات يصابون بدرجة ما من درجات الاكتئاب..فهناك حالة من الاقتران بين الإبداع والاكتئاب، وعندما سألته عن عدد تقريبي للشخصيات التي جلست في عيادته النفسية، قال إنه بدأ منذ فترة زمنية قليلة في كتابة مذكراته وقد استغرق فترة تجاوزت الشهور الستة حتي تتمكن ذاكرته من حصر آلاف الشخصيات التي التقاها كمعالج، لكن القسم الطبي والحفاظ علي أسرار مرضاه يمنعانه من كشف الأسماء. أنهيت حديثي معه متمنيًا أن تخرج مذكراته قريبًا إلي النور.