مَن وراء تفجيري موسكو الأخيرين الذين خلفا قرابة 40 قتيلاً و100 جريح؟ وما هي أهداف السيدتين اللتين نفذتا الهجومين؟ أسئلة حائرة لا تزال تبحث عن إجابات لها خاصة في ظل عدم إعلان أي جهة مسئوليتها تجاه الحادث، وعن دوافعها لتنفيذه. لكن من المؤكد أن هذا الحادث ليس هو الأول، ولن يكون الأخير في سلسلة التفجيرات التي تشهدها العاصمة موسكو وتحديداً محطات مترو الأنفاق والقطار المزدحمة بالركاب، والتي يصعب -مهما بلغت الترتيبات الأمنية- السيطرة عليها بسبب عشرات الآلاف من الركاب الذين يستخدمونها يوميا، وفي حالة تطبيق التدابير الأمنية المشددة سيؤدي الأمر إلى تعطيل مصالح البشر.. اختيار دقيق المُتأمل لموقعي الحادثين سيجد أن اختيارهما لم يكن عشوائيا، وإنما كان بتدبير واختيار محكم.. فاختيار المهاجمين لمحطة ليوبانكا التي وقع بها أحد الانفجارين يرجع لوقوعها في نفس المربع الذي تقع فيه بنايات جهاز الاستخبارات الروسي السابق الكي.جي.بي، وأجهزة المخابرات التابعة للاتحاد السوفيتي السابق.. أما الآن فإن هذا المقر تابع لجهاز الأمن الداخلي إف إس بي (أشبه بجهاز أمن الدولة)، والذي يمتلك مقراً أكبر وأحدث خارج العاصمة موسكو، ومعني هذا أن الهدف من الانفجار توجيه رسالة إلى القيادة الروسية بأن أسلوب التعامل الأمني لن يجدي نفعاً في تسوية الأزمات الداخلية، وأن الأشخاص الذين يتم استخدام العنف ضدهم قادرون على الوصول إلى المقرات الأمنية الرئيسية في البلاد. مَن فَعَلَها؟ ولعل ما سبق يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: مَن وراء هذه التفجيرات؟ هل هم مجاهدو الشيشان الذين ذاقوا الأمرّين في عهد النظم الروسية المتعاقبة حتى قبل انهيار الاتحاد السوفيتي؟ أم إن هؤلاء بريئون من هذه التفجيرات، وأن هناك طرفاً ما هو الذي نفّذها من أجل الوقيعة بين الحكومة ومجاهدي الشيشان، وبالتالي إمكانية حدوث الوقيعة بين روسيا والدول العربية والإسلامية التي لم ترضَ عن التصرفات الروسية في السابق. السلطات الروسية استبقت التحقيقات، وسارعت إلى توجيه أصابع الاتهام إلى مقاتلي الشيشان الذين يطالبون بالاستقلال عن روسيا، أو الحصول على المزيد من الحريات خاصة في ظل وجود عميل روسي على رأس جمهورية الشيشان وهو رمضان قديروف نجل الرئيس الراحل أحمد قديروف. سبب توجيه هذه الاتهامات هو قيام هؤلاء بعدة تفجيرات مماثلة خلال العِقد الماضي.. كما يربط البعض بين التفجيرات الأخيرة والتهديدات التي أطلقها دوكو عمروف أمير الجهاد في منطقة القوقاز، والتي تضم الشيشان أيضا أوائل هذا العام بسبب سياسة القبضة الحديدية التي تتبعها السلطات الروسية في الشيشان، والتي جعلتها منعزلة عن باقي المناطق الروسية، فضلا عن وجود عدد كبير من قوات الجيش والمخابرات بها.. ومما زاد من هذا الاحتمال ما تردد مؤخرا عن عودة بعض مجاهدي الشيشان من الجهاد في باكستان بسبب تضييق الجيش الباكستاني عليهم، وكذلك ما قيل أيضا عن مقتل عمروف قبل عدة أيام على أيدي السلطات الروسية.. وبالرغم من أن هذا هو التفسير المقبول حتى الآن.. إلا أن الذي يؤكده أو ينفيه هو صدور بيان من مجاهدي الشيشان يعلنون فيه مسئوليتهم عن هذا التفجير، والدافع من ورائه.. لكن ماذا لو لم يحدث هذا؟ هنا نكون أمام التفسير الثاني، والذي يشير إلى إمكانية تورط طرف آخر في هذا الانفجار. هذا الطرف إما على خلاف مع القيادة الروسية، أو أنه يكون راغبا في حدوث مزيد من التباعد بين روسيا والدول العربية والإسلامية التي لن يروقها بالطبع قيام السلطات الروسية بشن حرب جديدة ضد الشيشان على غرار حربي 1994، 1999. هناك شبه اتفاق على أن هذه التفجيرات ستؤدي إلى تشديد قبضة روسيا على الشيشان وبالرغم من أن هذا التفسير قد يكون من الصعب قبوله حتى الآن، إلا أن هناك بعض التحليلات لا تستبعد قيام المحافظين الجدد في موسكو (على غرار المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة) بتدبير مثل هذه التفجيرات من أجل الوقيعة بين روسيا من ناحية والدول العربية والإسلامية من ناحية ثانية، تماما كما استغل هؤلاء المحافظون الجدد في واشنطن أحداث سبتمبر "المشكوك في منفذها" من أجل شن الولاياتالمتحدة حرباً صليبية -حسب تعبيرهم وتعبير الرئيس بوش- ضد الدول العربية والإسلامية، وبالفعل كان البدء بأفغانستان ثم العراق.. وهكذا يحاول المحافظون الجدد في روسيا إحداث مزيد من الوقيعة بين روسيا والعالمين العربي والإسلامي.. صحيح أن روسيا لن تغزو دولة عربية أو إسلامية، وإنما سيكون البديل إمكانية شن حرب جديدة ضد الشيشان، وهو أمر لن يروق لكثير من الدول العربية والإسلامية. وهناك اتجاه ثالث يرى أن الحادث من تدبير أجهزة السلطة ذاتها من أجل التبرير لهجوم جديد ضد مجاهدي الشيشان، ويدلل هؤلاء على وجهة نظرهم بما حدث في سبتمبر عام 1999، أي قبل الحرب الروسية الثانية ضد الشيشان، حيث سبقها تعرض عدة مبانٍ في موسكو لهجوم، وتم توجيه أصابع الاتهام إلى مجاهدي الشيشان، لكن صحيفة الإندبندنت البريطانية في حينها كشفت هذا المخطط، حيث أعلنت امتلاكها شريط فيديو يعترف فيه ضابط روسي أسره الشيشانيون بأن الروس هم المسئولون عن هذه الاعتداءات لتبرير غزو الشيشان من جديد. على أية حال، فإن التحليلات ووجهات النظر السابقة تختلف فيما بينها بشأن منفذ الهجوم (مجاهدو الشيشان، المحافظون الجدد، السلطات الروسية)، لكن هناك في المقابل شبه اتفاق على أن هذه التفجيرات ستؤدي إلى تشديد قبضة السلطات الروسية على الشيشان، والتصعيد العسكري ضد الشيشانيين.