تفاصيل اجتماع محلية النواب بشأن تضرر 175 أسرة بالجيزة    الرئيس السيسي يهنئ الملك تشارلز الثالث بذكرى العيد القومي    رئيس الأركان يشهد مشروع مراكز القيادة الاستراتيجى التعبوي بالمنطقة الشمالية    السيسي: ملتزمون بتعزيز التعاون والاستثمارات المشتركة بين القطاع الخاص في مصر وغينيا الاستوائية    بلينكن: اتفاق وقف إطلاق النار في يد حماس    وكيل «صحة الشيوخ»: الرئيس السيسي وجه تحذير للعالم من مغبة ما يحدث في غزة    الزمالك يوضح حقيقة وصول عروض لضم محمد عواد    فينورد الهولندي يعلن خليفة آرني سلوت بعد رحيله لليفربول    الكشف عن حكم مباراة ألمانيا ضد أسكتلندا في افتتاح يورو 2024    أبرزهم راقصي السامبا.. مواعيد مباريات اليوم الأربعاء    التعليم: ضبط 3 حالات غش خلال امتحانات الاقتصاد والإحصاء    أول بيان رسمي بشأن وفاة "أصغر حاج" أثناء أداء مناسك الحج    دعاء رد العين نقلا عن النبي.. يحمي من الحسد والشر    «الصحة» تنظم ورشة عمل لتعزيز قدرات الإتصال المعنية باللوائح الصحية الدولية    الاستخبارات الداخلية الألمانية ترصد تزايدا في عدد المنتمين لليمين المتطرف    وزير الدفاع الألماني يعتزم الكشف عن مقترح للخدمة العسكرية الإلزامية    تدريب وبناء قدرات.. تفاصيل بروتوكول تعاون بين مركز التدريب الإقليمي للري والمعهد العالي للهندسة بالعبور    المصري الديمقراطي: تنسيقية شباب الأحزاب استطاعت تأهيل عدد كبير من الشباب للعمل السياسي    البورصة: مؤشر الشريعة الإسلامية يضم 33 شركة بقطاعات مختلفة    مدبولي يتابع جهود توطين صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات    رئيس إنبي: سنحصل على حقنا في صفقة حمدي فتحي "بالدولار"    "لا أفوت أي مباراة".. تريزيجية يكشف حقيقة مفاوضات الأهلي    البنك التجاري الدولي وجامعة النيل يعلنان تخرج أول دفعة من برنامج التمويل المستدام للشركات الصغيرة وا    «السكة الحديد» تعلن تعديل مواعيد القطارات الإضافية خلال عيد الأضحى    هيئة الدواء تعلن تشكل غرفة عمليات لمتابعة سوق الدواء في عيد الأضحى    الداخلية: ضبط 562 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    احتفالًا بعيد الأضحى.. السيسي يقرر العفو عن باقي العقوبة لهؤلاء -تفاصيل القرار    التعليم تكشف تفاصيل مهمة بشأن مصروفات العام الدراسي المقبل    كيف علق الجمهور على خبر خطوبة شيرين عبدالوهاب؟    عزيز الشافعي: أغاني الهضبة سبب من أسباب نجاحي و"الطعامة" تحد جديد    في ذكرى ميلاد شرارة الكوميديا.. محطات في حياة محمد عوض الفنية والأسرية    عصام السيد يروي ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    عاشور يشارك في اجتماع وزراء التعليم لدول البريكس بروسيا    بيان الأولوية بين شعيرة الأضحية والعقيقة    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل"قصواء الخلالي": موقف الرئيس السيسي تاريخي    5 نصائح من «الصحة» لتقوية مناعة الطلاب خلال فترة امتحانات الثانوية العامة    «متحدث الصحة» يكشف تفاصيل نجاح العمليات الجراحية الأخيرة ضمن «قوائم الانتظار»    كومباني يحدد أول صفقاته في بايرن    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    وزيرة الهجرة تستقبل سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر لبحث التعاون في ملف التدريب من أجل التوظيف    بدء العمل بأحكام اللائحة المالية والإدارية بقطاع صندوق التنمية الثقافية    شبانة: حسام حسن عليه تقديم خطة عمله إلى اتحاد الكرة    حماية العيون من أضرار أشعة الشمس: الضرورة والوقاية    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    المجتمعات العمرانية تحذر من إعلانات عن كمبوند بيوت في المنصورة الجديدة: لم يصدر له قرار تخصيص    إعلام إسرائيلي: صفارات الإنذار تدوي في مناطق مختلفة من شمال إسرائيل    يونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الموت    «الإسكان» تتابع الموقف التنفيذي لمشروعات المرافق والطرق في العبور الجديدة    غدا، النطق بالحكم في قضية قتل تاجر سيارات لشاب بالدقهلية    بطل ولاد رزق 3.. ماذا قال أحمد عز عن الأفلام المتنافسة معه في موسم عيد الأضحى؟    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    وزير الصحة: تقديم كافة سبل الدعم إلى غينيا للتصدي لالتهاب الكبد الفيروسي C    مسئول أمريكي: رد حماس على مقترح وقف إطلاق النار يحمل استفسارات    الأصعب لم يأت بعد.. الأرصاد تحذر من ارتفاع الحرارة اليوم    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



برقيات " أصلان" ورسائل " شلبي".. القصيدة خارج البرواز
نشر في صوت البلد يوم 04 - 02 - 2016

ينقضي "يناير" كل عام، تاركًا ظلالاً بيضاء، فالشِّعر دائمًا ظله على الأرض ناصع، أما أشعته فأجمل ما تتلقاه السماء من هدايا.
في آخر أيام يناير/كانون الثاني وُلِدَ خيري شلبي (31 يناير 1938-9 سبتمبر 2011)، وفي سابع أيامه رحل إبراهيم أصلان (3 مارس 1935-7 يناير 2012)، وكأن قصيدة يناير، المتحررة من أطرها المألوفة، أبت إلا أن يشترك في كتابتها الصديقان.
الشعر، بمفومه الأخصب، ليس حكرًا على ما يكتبه الشعراء. أجمل ما في القصيدة الجديدة أن عاشقها يجدها في أحوال كثيرة خارج البرواز. ربما يندرج النسق الكلي للعمل تحت عنوان "رواية" أو "قصة"، وربما يبدو العمل "عبر نوعي"، بتعبير إدوار الخراط، وربما يكون العمل خارج دائرة الكتابة الحروفية أصلاً، وفي الأحوال جميعًا فالقصيدة لها حق الوجود، والاكتمال، بين ثنيات التفاصيل.
هواء "ديسمبر" كذلك، يحمل أنسامًا لا يمكن تسميتها بغير الشعر، فالعم الأكبر نجيب محفوظ (11 ديسبمر 1911 - 30 أغسطس 2006) "شاعر" وهو يقول على لسان أحد أبطال رواياته: "الحق، أن ما يكتنفه من طنين يمنعه من حسن الاستماع إلى الصمت". هذه قصيدة مكتملة بامتياز، من بين مئات تتفاوت بين القصر والطول، تتوزع في سطور جميع قصصه ورواياته، وتتجلى، ربما، بوضوح أكبر في "الشحاذ" و"الثلاثية" و"الحرافيش" و"أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة".
ومن أنسام "ديسمبر" أيضًا رائحة لا تخطئها القلوب المفتشة عن القصيدة، إذ يطل على المشهد إدوار الخراط (16 مارس 1926-1 ديسمبر 2015)، بقصائد أراد لها أن تكون قصائد، بدأها في الأربعينيات كمراهق في مدرسة "أبولو"، وواصلها في التسعينيات، ونشر بعضها في دواوين قليلة.
كما يطل بقصائد أخرى لم يقصد أن تكون قصائد، احتوتها سردياته الطويلة والقصيرة بين سطورها، إضافة إلى سطوره الشعرية التي جاءت كتعليقات على معارض تشكيلية (لعدلي رزق الله، ولأحمد مرسي مثلاً)، وصدر بعضها في كتب تذكارية.
من بين ما كتبه إدوار الخراط، في مرحلة الأربعينيات، ما أهداه إلى خطيبته (زوجته لاحقًا)، ولعله يعد من بواكير "الشعر المنثور"، حيث لم يلتزم بالتفاعيل الخليلية، ومنه (وفق ما باح به الأديب الراحل لكاتب هذه السطور ذات لقاء):
"إني أبتعد.. أبتعد
ظل لراحل على صفحة الصحراء
يمشي في خطى ثقال
إلى صومعة فيها أصيل السلام
بعيدًا عن الأنوار اللامعة
على ناصية الشوارع
وخلف أستار النوافذ"
أما قصائد الخراط الأخيرة، التي أعاد بها قراءة ذاته مع منتصف التسعينيات، والسنوات التالية، فمن نماذجها ذلك "التأويل الأول" المهدى إلى التشكيلي عدلي رزق الله:
"انطلقت أنقب عن بوارقك
والإسكندرية في عنقي
حدقتْ إليّ وأحدقت بي العيون الرحمية
وخفقت أجنحة الطيور الصخرية
تدق جدرانُ قلبي التي ضُربت نطاقًا حول سماء بيضاء لا أفق لها
شفافيتها عميقة البياض، محاربة
جفت عنها آبادٌ من البحار العتيقة".
ومن أنسام ديسمبر، إلى ظلال يناير الناصعة، حيث برقيات صاحب "مالك الحزين" و"وردية ليل" و"بحيرة المساء" و"عصافير النيل". والبرقيات، مثلما أنها من البرق، فهي من الشعر المضيء أيضًا.
الشعر، في سرديات إبراهيم أصلان، حالة من الرهافة والتلقائية والرشاقة، التقاء روحي بالتفاصيل الإنسانية والحياتية من غير صخب لغوي ولا التواء مجازي. الشعر هنا مقدرة على وزن الأمور، ليس فقط الكلمات، بميزان الذهب، حيث يقول المكتوبُ، ويقول أيضًا المسكوتُ عنه.
الشعر، في سرديات أصلان، هو وجه التجربة اليومية الشاحب، من غير رتوش. هو السمكة الفضية في لحظاتها الأخيرة، تتلوى في الشمس معلقة في صنارة صياد بائس. هو ما يقوله إنسان حزين عن النهر الذي لم يعد نهرًا: "تعاف الآن أن تروي القلب وتبل منه الريق. يرضيك ما في فمك من ملح الدموع، وطعم الخمر، والعطش".
قصيدة أصلان، ببساطة، هي تلك الضحكة البارقة، القادرة على شق سواد الليل وسواد القلوب في آن. قصيدته، هي تلك التي حكى عنها، دون أن يدري أنه يصف قصيدته:
"كيف كانت تعرف، لترسل ضحكتها الفاجرة تهدر هكذا في عز الصمت؟ تختار أوقاتًا يكون فيها الكرب قد سكن واحدة من حجرات البيت أو أكثر وتطلقها قارحة لتزري بالمصائب، وتشحن الخلق بالهيجان والبهجة. كيف كانت تعرف؟ هي الوحيدة داخل حجرتها البعيدة العالية، حيث السطوح الخالية ونجوم الليل والنيل".
وإلى طيف "شيخ الحكائين"، خيري شلبي، حيث نكون دائمًا في ملكوت قصيدة، وليس في رحاب قصة أو سيرة كالمتوقع. فالرجل شاعر، مثلما يرى الشعرُ ذاته، على الرغم من أنه لم يصدر أي ديوان. بدأ قصيدته بقلمه كشاعر حالم، وأتمها بقلبه الذي وسع العالم، واهبًا الوجود للشعراء، والشعراء للوجود.
كتب خيري شلبي الشعر في مرحلة مبكرة، وأطلقه ساخنًا في قصصه ورواياته مع أنين العاديين والمهمّشين، ومارسه إنسانًا في حياته كلها، وتلك ملحمته الأنقى والأبقى. قصائده التي اختطها بحبره قليلة، ختمها باعتزال شفيف، في حين جاءت خطوات عديدة له فوق هذه الأرض فيوضات شعرية، فهو الشاعر فعلاً لا قولاً، يكون الشعر حيث يكون.
وبتوليه الإشراف على تحرير مجلة "الشعر"، سقطت الكلفة تمامًا بينها وبين القارئ، فكأنما الشعر يدير ذاته بذاته على مدار أكثر من خمسة عشر عامًا (1990-2005).
وقد آمن خيري شلبي بأن الشعر "جوهر" قبل أن يكون "نظرية"، وبأن الذائقة النقية لدى المتخصص والقارئ على السواء قادرة على التفرقة بين الأصالة والزيف، فلا يمكن خداع متلقي الشعر بسهولة، فهو يحمل في ضميره حصاد مئات السنوات التي تألق خلالها "فن العربية الأول"، كما أحَب دائمًا أن يسميه.
الشعر اتقاد ودهشة، وحياة تورق حينما تورق الحياة، وحينما يورق ضِدُّها. يقول في قصيدته "عندما يورق الموت" (التي استعان بها في مجموعته القصصية "السنيورة" بعد سنوات من كتابتها):
"انفضَّ الليل
انسحبتْ ظلمته من بطن الكون
وحطت في صحن الدار
والنسوة أشباح
بقعٌ من طين أسود
محفوف بالزرقة
كلمات تتساقط في لوعة
تتناثر
تتكاثر
تتلوى في ذعر
وتصوّت في سمع الصبح".
اعتزل خيري شلبي الشعر ليتفرغ للقصة والرواية وفنون أخرى، لكنه لم يتخل عن شعريته. لقد ظلت الشعرية حساسيته التي يُفعّل بها عمله وَيُصرّف أمور يومه، ويفصل بها بين الأصيل والزائف من المعادن، والأشياء، والبشر، والكائنات جميعًا.
بميزان الشعرية، وحدها الشعرية، كانت صفحات مجلة الشعر تتسع للموهوبين بقدر ثقلهم ونقاء جوهرهم، وإن كانوا مغمورين أو لم ينشروا من قبل. أيضًا "البورتريه"، الذي كان يرسمه أسبوعيًّا في مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، كان تجليًّا لتلك الحساسية الشعرية، فالرجل لم يكن يقف عند ملامح عينية، بقدر ما كان يغوص ويستبطن ويستشفّ ويقرأ جوانيات الشخصية، بأبجدية تتخطى معطياتها التوصيلية، وتحلق في فضاء لا يبلغه إلا الشعراء النابهون.
لقد ظلت الشعرية تراود خيري شلبي في كتاباته، وتراوغه، لكن إطلالتها الأوضح كانت فيما يفعل، لا ما يكتب، فما يفعله الرجل فوق صفحة الحياة هو الشعر، وإن كان ما يكتبه في أوراقه قصة أو رواية أو مقالة.
وبتنامي موسوعيته الثقافية وانغماسه المذهل في القراءة المجدولة والتعمق المعرفي، بقيت الشعرية ألصق بروحه الطلقة الهاوية، المتحررة من الشروط والإطارات، فهو شاعر خارج المراسم والكارنفالات، مثلما أنه يميز الشعر الحقيقي والبشر الحقيقيين ويسمّي الوجوه بأسمائها بفطنة القلب البريء والروح الخضراء. "الشِّعر المعامَلة"، درس من كلمتين، شرحه خيري شلبي بعدد الحصص اليومية التي اتسعت لها حياته الخصبة، فأيّ شعر يكتبه الشاعر بعد ما فعله الرجل؟
في رسائل خيري شلبي، كما في برقيات صديقه إبراهيم أصلان، قليل هو الكلام، كثير هو الشعر.
ينقضي "يناير" كل عام، تاركًا ظلالاً بيضاء، فالشِّعر دائمًا ظله على الأرض ناصع، أما أشعته فأجمل ما تتلقاه السماء من هدايا.
في آخر أيام يناير/كانون الثاني وُلِدَ خيري شلبي (31 يناير 1938-9 سبتمبر 2011)، وفي سابع أيامه رحل إبراهيم أصلان (3 مارس 1935-7 يناير 2012)، وكأن قصيدة يناير، المتحررة من أطرها المألوفة، أبت إلا أن يشترك في كتابتها الصديقان.
الشعر، بمفومه الأخصب، ليس حكرًا على ما يكتبه الشعراء. أجمل ما في القصيدة الجديدة أن عاشقها يجدها في أحوال كثيرة خارج البرواز. ربما يندرج النسق الكلي للعمل تحت عنوان "رواية" أو "قصة"، وربما يبدو العمل "عبر نوعي"، بتعبير إدوار الخراط، وربما يكون العمل خارج دائرة الكتابة الحروفية أصلاً، وفي الأحوال جميعًا فالقصيدة لها حق الوجود، والاكتمال، بين ثنيات التفاصيل.
هواء "ديسمبر" كذلك، يحمل أنسامًا لا يمكن تسميتها بغير الشعر، فالعم الأكبر نجيب محفوظ (11 ديسبمر 1911 - 30 أغسطس 2006) "شاعر" وهو يقول على لسان أحد أبطال رواياته: "الحق، أن ما يكتنفه من طنين يمنعه من حسن الاستماع إلى الصمت". هذه قصيدة مكتملة بامتياز، من بين مئات تتفاوت بين القصر والطول، تتوزع في سطور جميع قصصه ورواياته، وتتجلى، ربما، بوضوح أكبر في "الشحاذ" و"الثلاثية" و"الحرافيش" و"أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة".
ومن أنسام "ديسمبر" أيضًا رائحة لا تخطئها القلوب المفتشة عن القصيدة، إذ يطل على المشهد إدوار الخراط (16 مارس 1926-1 ديسمبر 2015)، بقصائد أراد لها أن تكون قصائد، بدأها في الأربعينيات كمراهق في مدرسة "أبولو"، وواصلها في التسعينيات، ونشر بعضها في دواوين قليلة.
كما يطل بقصائد أخرى لم يقصد أن تكون قصائد، احتوتها سردياته الطويلة والقصيرة بين سطورها، إضافة إلى سطوره الشعرية التي جاءت كتعليقات على معارض تشكيلية (لعدلي رزق الله، ولأحمد مرسي مثلاً)، وصدر بعضها في كتب تذكارية.
من بين ما كتبه إدوار الخراط، في مرحلة الأربعينيات، ما أهداه إلى خطيبته (زوجته لاحقًا)، ولعله يعد من بواكير "الشعر المنثور"، حيث لم يلتزم بالتفاعيل الخليلية، ومنه (وفق ما باح به الأديب الراحل لكاتب هذه السطور ذات لقاء):
"إني أبتعد.. أبتعد
ظل لراحل على صفحة الصحراء
يمشي في خطى ثقال
إلى صومعة فيها أصيل السلام
بعيدًا عن الأنوار اللامعة
على ناصية الشوارع
وخلف أستار النوافذ"
أما قصائد الخراط الأخيرة، التي أعاد بها قراءة ذاته مع منتصف التسعينيات، والسنوات التالية، فمن نماذجها ذلك "التأويل الأول" المهدى إلى التشكيلي عدلي رزق الله:
"انطلقت أنقب عن بوارقك
والإسكندرية في عنقي
حدقتْ إليّ وأحدقت بي العيون الرحمية
وخفقت أجنحة الطيور الصخرية
تدق جدرانُ قلبي التي ضُربت نطاقًا حول سماء بيضاء لا أفق لها
شفافيتها عميقة البياض، محاربة
جفت عنها آبادٌ من البحار العتيقة".
ومن أنسام ديسمبر، إلى ظلال يناير الناصعة، حيث برقيات صاحب "مالك الحزين" و"وردية ليل" و"بحيرة المساء" و"عصافير النيل". والبرقيات، مثلما أنها من البرق، فهي من الشعر المضيء أيضًا.
الشعر، في سرديات إبراهيم أصلان، حالة من الرهافة والتلقائية والرشاقة، التقاء روحي بالتفاصيل الإنسانية والحياتية من غير صخب لغوي ولا التواء مجازي. الشعر هنا مقدرة على وزن الأمور، ليس فقط الكلمات، بميزان الذهب، حيث يقول المكتوبُ، ويقول أيضًا المسكوتُ عنه.
الشعر، في سرديات أصلان، هو وجه التجربة اليومية الشاحب، من غير رتوش. هو السمكة الفضية في لحظاتها الأخيرة، تتلوى في الشمس معلقة في صنارة صياد بائس. هو ما يقوله إنسان حزين عن النهر الذي لم يعد نهرًا: "تعاف الآن أن تروي القلب وتبل منه الريق. يرضيك ما في فمك من ملح الدموع، وطعم الخمر، والعطش".
قصيدة أصلان، ببساطة، هي تلك الضحكة البارقة، القادرة على شق سواد الليل وسواد القلوب في آن. قصيدته، هي تلك التي حكى عنها، دون أن يدري أنه يصف قصيدته:
"كيف كانت تعرف، لترسل ضحكتها الفاجرة تهدر هكذا في عز الصمت؟ تختار أوقاتًا يكون فيها الكرب قد سكن واحدة من حجرات البيت أو أكثر وتطلقها قارحة لتزري بالمصائب، وتشحن الخلق بالهيجان والبهجة. كيف كانت تعرف؟ هي الوحيدة داخل حجرتها البعيدة العالية، حيث السطوح الخالية ونجوم الليل والنيل".
وإلى طيف "شيخ الحكائين"، خيري شلبي، حيث نكون دائمًا في ملكوت قصيدة، وليس في رحاب قصة أو سيرة كالمتوقع. فالرجل شاعر، مثلما يرى الشعرُ ذاته، على الرغم من أنه لم يصدر أي ديوان. بدأ قصيدته بقلمه كشاعر حالم، وأتمها بقلبه الذي وسع العالم، واهبًا الوجود للشعراء، والشعراء للوجود.
كتب خيري شلبي الشعر في مرحلة مبكرة، وأطلقه ساخنًا في قصصه ورواياته مع أنين العاديين والمهمّشين، ومارسه إنسانًا في حياته كلها، وتلك ملحمته الأنقى والأبقى. قصائده التي اختطها بحبره قليلة، ختمها باعتزال شفيف، في حين جاءت خطوات عديدة له فوق هذه الأرض فيوضات شعرية، فهو الشاعر فعلاً لا قولاً، يكون الشعر حيث يكون.
وبتوليه الإشراف على تحرير مجلة "الشعر"، سقطت الكلفة تمامًا بينها وبين القارئ، فكأنما الشعر يدير ذاته بذاته على مدار أكثر من خمسة عشر عامًا (1990-2005).
وقد آمن خيري شلبي بأن الشعر "جوهر" قبل أن يكون "نظرية"، وبأن الذائقة النقية لدى المتخصص والقارئ على السواء قادرة على التفرقة بين الأصالة والزيف، فلا يمكن خداع متلقي الشعر بسهولة، فهو يحمل في ضميره حصاد مئات السنوات التي تألق خلالها "فن العربية الأول"، كما أحَب دائمًا أن يسميه.
الشعر اتقاد ودهشة، وحياة تورق حينما تورق الحياة، وحينما يورق ضِدُّها. يقول في قصيدته "عندما يورق الموت" (التي استعان بها في مجموعته القصصية "السنيورة" بعد سنوات من كتابتها):
"انفضَّ الليل
انسحبتْ ظلمته من بطن الكون
وحطت في صحن الدار
والنسوة أشباح
بقعٌ من طين أسود
محفوف بالزرقة
كلمات تتساقط في لوعة
تتناثر
تتكاثر
تتلوى في ذعر
وتصوّت في سمع الصبح".
اعتزل خيري شلبي الشعر ليتفرغ للقصة والرواية وفنون أخرى، لكنه لم يتخل عن شعريته. لقد ظلت الشعرية حساسيته التي يُفعّل بها عمله وَيُصرّف أمور يومه، ويفصل بها بين الأصيل والزائف من المعادن، والأشياء، والبشر، والكائنات جميعًا.
بميزان الشعرية، وحدها الشعرية، كانت صفحات مجلة الشعر تتسع للموهوبين بقدر ثقلهم ونقاء جوهرهم، وإن كانوا مغمورين أو لم ينشروا من قبل. أيضًا "البورتريه"، الذي كان يرسمه أسبوعيًّا في مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، كان تجليًّا لتلك الحساسية الشعرية، فالرجل لم يكن يقف عند ملامح عينية، بقدر ما كان يغوص ويستبطن ويستشفّ ويقرأ جوانيات الشخصية، بأبجدية تتخطى معطياتها التوصيلية، وتحلق في فضاء لا يبلغه إلا الشعراء النابهون.
لقد ظلت الشعرية تراود خيري شلبي في كتاباته، وتراوغه، لكن إطلالتها الأوضح كانت فيما يفعل، لا ما يكتب، فما يفعله الرجل فوق صفحة الحياة هو الشعر، وإن كان ما يكتبه في أوراقه قصة أو رواية أو مقالة.
وبتنامي موسوعيته الثقافية وانغماسه المذهل في القراءة المجدولة والتعمق المعرفي، بقيت الشعرية ألصق بروحه الطلقة الهاوية، المتحررة من الشروط والإطارات، فهو شاعر خارج المراسم والكارنفالات، مثلما أنه يميز الشعر الحقيقي والبشر الحقيقيين ويسمّي الوجوه بأسمائها بفطنة القلب البريء والروح الخضراء. "الشِّعر المعامَلة"، درس من كلمتين، شرحه خيري شلبي بعدد الحصص اليومية التي اتسعت لها حياته الخصبة، فأيّ شعر يكتبه الشاعر بعد ما فعله الرجل؟
في رسائل خيري شلبي، كما في برقيات صديقه إبراهيم أصلان، قليل هو الكلام، كثير هو الشعر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.