"رائع!" هي الكلمة الأولى التي عَبَّرت فيها سفيتلانا أليكسييفيتش عن فوزها بجائزة نوبل. كانت منهمكة في كَيّ ثياب عائلتها حين تلقّت اتّصالاً من الأكاديمية السويدية، لتنقل لها خبر الفوز، قبل إعلان الجائزة بساعتين. سفيتلانا أليكسيفيتش، اسم جديد يحلّ على المكتبة العربية، صعب النطق قليلاً، لكنه يحمل سحراً في إيقاعه الذي يستدعي تاريخاً أدبياً روسياً يفرض حضوره على الذاكرة. في معظم صورها، تبدو سفيتلانا أليكسيفتش امرأة ذات ملامح ريفية، بوجه مستدير، ودود، مشبع بحمرة طفيفة،وعينين خضراوين نافذتَي البصيرة، وشعر كستنائي، وابتسامة جذّابة غير مبالية بالسنين. في عامها السابع والستّين تنال هذه الكاتبة البيلاروسية هبة الفوز بأكبر جائزة أدبية في العالم، لتشقّ طريقها بين أسماء عمالقة في الأدب، تتردَّد- في كلّ عام- توقُّعات وشائعات عن احتمال نيلهم الجائزة. تركت سفيتلانا الياباني موراكامي، والأميركي فيليب روث، والكيني نجوجي واثيونج، والصومالي نور الدين فرح..وغيرهم، في قائمة الاحتمالات المؤجَّلة للأعوام القادمة، لتصير سيّدة الأدب الرفيع لهذا العام. خلفت سفيتلانا باتريك موديانو، وصارت المرأة الرابعة عشرة في قائمة نساء نوبل.. ربَّما، من حسن حظّها أن وصلتها الجائزة مبكِّرةً عن العمر الذي وصلت فيه للكندية أليس مونرو التي نالت الجائزة وهي في الثانية والثمانين من عمرها، أو الإنكليزية دوريس ليسينغ التي نالتها في عامها الواحد والثمانين، وكانت لها ردّة فعل ساخرة على الجائزة، حين قالت : «ماذا سأفعل بها الآن، في هذا السن، لقد نلت كلّ الجوائز الأدبية الرفيعة». في حين أن سفيتلانا- كما يبدو- ستستفيد من المبلغ المالي الضخم في نيل حرّيتها قائلة: «سأشتري حرّيتي بقيمتها وأكتب كتبي، فكتابة كلّ كتاب، سابقاً، استغرقت من 10 إلى 15 سنة، والآن، لدي فكرتان جديدتان، أنا سعيدة بحرّيّة العمل عليهما." * * * في تاريخها الأدبي ستّة كتب، خلال ثلاثين عاماً. يبدو من خلال الموضوعات التي تتناولها مدى تأثرها بصوت الضعفاء الذين لا تُسمع أصواتهم. في كتابها الأول «الحرب ليس لها وجه امرأة» الذي نُشر عام 1985، تحدّثت عن الحرب العالمية الثانية، من منظور مجموعة من النساء، تَمّ تجاهل دورهنّ بعد انتهاء الحرب، تصف هذا الكتاب بقولها : «كانت النساء يحدِّثنني عن الأشجار المحروقة والعصافير المقتولة بعد القصف، كما عن الضحايا من الناس". روايتها «أطفال الزنك» التي صدرت عام 1989، أدانت فيها ما فعله الجيش الأحمر في أفغانستان، وتعرّضت، بسبب هذا الكتاب، للمحاكمة، لكنه سَبَّبَ لها شهرة في أوروبا. هذا الكتاب ألَّفته بعد أن ذهبت لزيارة والدها في الريف، وهناك، شاهدت جنديّاً أصيب بالجنون، يصرخ، يهذي، يشتم. هكذا، بدأت الكاتبة بجمع شهادات لأشخاص أحياء، حتى تمكَّنت من السفر إلى أفغانستان، لتمضي هناك ثلاثة أسابيع، وترى الجنود السوفييت القادمين من الريف، صبية صغار، بعضهم ينتمي إلى عائلات متعلِّمة، لكن الحرب حوَّلتهم- رغماً عنهم- إلى وحوش. حين أصدرت كتابها «الاستجداء: تشرنوبيل، حوليّات العالم بعد القيامة»، روت فيه معاناة رجال ونساء بعد حادث تشيرنوبيل النووي. هذا الكتاب متعدِّد الأصوات أيضاً، كما أنه لا يزال ممنوعاً في روسيا البيضاء حتى اليوم. تقول: «بعد هذه الكارثة النووية، شعرت بأن الصرح السوفييتي على وشك الانهيار، وأننا وصلنا إلى نهاية تاريخ هذه اليوتوبيا. مع تشيرنوبيل أدركت أن الإنسان لا يحارب أخاه الإنسان فقط، وإنما يحارب كل ما هو حَيّ على الأرض، من نبات وحيوان، وأيّ كائنات أخرى.». في عام 2013، أصدرت الكاتبة روايتها «نهاية الرجل الأحمر»، بعد مرور خمس وعشرين عاماً على تفكُّك الاتّحاد السوفيتي. رأى بعض النقّاد في هذا الكتاب نوعاً من الحنين، أرادت الكاتبة، من خلاله، أن تستدعي ما بقي من الإنسان السوفيتي،وما بقي في داخله، بعد كل هذه التحوُّلات السياسية والاقتصادية، من الشيوعية إلى الرأسمالية. تحكي سفيتلانا عن الشيوعي في جوهره وتحوُّلاته، وعن التاريخ- أيضاً- من وجهة نظر تقليب التربة ورؤية ما فيها من جديد. وعن الجانب الشخصي الذي يتماسّ مع الكاتبة، فإن والدها فَقَد صوابه مع انهيار الشيوعية، كان يرى أن النظام الشيوعي يحتاج إلى إصلاح، لكن، لا ينبغي أن ينهار. فازت، عن هذا الكتاب، بجائزة السلام التي تمنحها «الرابطة الألمانية لتجارة الكتب» (2013)، وعلى وسام الفنون والآداب الفرنسي، من رتبة ضابط (2014). * * * تبنّت سفيتلانا الكتابة عن أصوات الآخرين، الذين ترى ضرورة للكتابة عنهم، هذا المنهج في كتابتها سوف تعتمده، دائماً، بحسب قولها : «إن رواية الأصوات هي النوع الذي اخترته، وسأتابع من خلاله عملي". كتبت بأصوات المعذَّبين والضعفاء والمقهورين والمنفيّين، عن ضحايا ستالين، عن الحرب العالمية الثانية، عن الحرب في أفغانستان وتشرنوبيل، غاصت عميقاً في كشف وجوه الحرب البشعة، وما تفعله من كوارث، وكيف تترك أشخاصاً معوّقين ومشرَّدين بلا مأوى. ولعلّ إحساس الكاتبة بمسؤوليتها عن حفظ التاريخ جعلها تكتب عن جميع هذه المراحل، لم تذهب إلى الأرشيف، بل قابلت أناساً حقيقيّين، دَوَّنت حكاياتهم المخيفة في دفترها لتعيد سردها في نسيج روائي، يحكي عن جرائم الحرب، وعن المعتقلات، وعن الأطراف المبتورة، والوجوه المشوَّهة، واستمعت إلى نساء انضممن إلى صفوف الشيوعية، حكين لها عذاباتهن التي فاقت الوصف. تركت نصوصها مشرَّعة على كلّ هذه الآلام، وكأنها- بذلك- تريد توثيقاً للذاكرة، وللهوية، وللانتماء المُعذّب. كتبت كل هذا من غير إدّعاء للبطولة، بل باعتراف مباشر بأنها كانت ملاحقة بكل تلك الأصوات. ولعلّ السرّ في كتابة سفيتلانا هو قدرتها على استحضار الكارثة والجاني في وقت واحد. لا يوجد تخابث لفظي للمواربة في قول الحقيقة في رواياتها، بل مواجهات مباشرة حيث نصادف مجموعة من الناس المعذَّبين بسبب الحرب أو القهر البشري الذي وقع عليهم. تقول واصفةً أبطالها : «منذ صغري، استرعى انتباهي أولئك الذين لم يلتفت إليهم التاريخ؛ الناس الذين يتلاشون في عتمة الزمن، تُمحى خطواتهم من دون أي أثر يدلّ على وجودهم، أو أنهم كانوا هنا، في وقت ما. لقد روى لي أبي، كما جدّتي، العديد من هذه الأقاصيص، وهي أكثر رعباً من تلك التي سجَّلتها في كتابي. لقد شكَّلَ لي ذاك الأمر صدمة في طفولتي، وقد وسم ذلك ذاكرتي إلى الأبد». لا تكتب سفيتلانا بنبرة سوداوية، بل بصوت واعٍ وحقيقي، يشرح ما حدث، وكأنها، عبر تعدُّد الأصوات في نصوصها، تكتب نيابةً عن الإنسان المعذَّب عموماً. ولأن سفيتلانا عملت في الصحافة فإن النقّاد وصفوا لغتها الكتابية بأنها تمضي بين الفنّ والصحافة، لكن هذا لا يعني أن رواياتها هي توثيقية تماماً، بل أنها تمضي على تخوم الواقع والخيال، في آن واحد. في روايات سفيتلانا تعبير واضح عن التناقضات الإنسانية، وكشف لاحتياج الإنسان إلى إعادة تأهيل دائم، بعد تشوُّهات مصيرية، بسبب الحروب والعنف والقدرة على القيام ببتر الجزء الإنساني والروحي، والقيام بسلوك وحشي. هل تحتاج الكتابة عن هذه العوالم (فنّيّاً) إلى امتلاك وعي يقظ لأهدافه العريضة، سواء بالنسبة للفنّ أو من أجل إماطة اللثام عن الحقائق؟ يمكن القول إن هذه الكاتبة تمكّنت، عبر الفنّ، بشكله المكتوب وبكيانه الغرائبي، أن تخوض مراحل عديدة من أجل إزالة الغموض، والحديث- بجرأة- عمّا تؤمن به، مستسلمةً (طواعيةً) لأهداف فنّية قديمة تهاجمها حتى تخرج إلى سطح الوجود، ليتكوَّن وعي جديد، وكتابة حقيقية، في نهاية الأمر، تصل إلى العالم كلّه.