يصل صاحب العمل إلى مكتبه، فيجد سكرتيرته فتاة حسناء، ترتدي ثيابا على الموضه، وتضع الماكياج على وجهها، وتعتني بتسريحة شعرها حرصا على مظهرها اللائق، فهل هذه الصفات تكون مدعاة لإثارة الارتياب بعلاقتها بالمدير، أم أن الحالات تختلف بين شخص وآخر؟. كثيرا ما نقرأ :"مطلوب سكرتيرة شابة، حسنة المظهر، تجيد التعامل بلباقة مع العملاء ، لا يشترط وجود خبرات، وفي حال توافر الشروط يرجى الاتصال على الرقم (...)". إعلان متكرر على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية يرسخ صورة نمطية وسلبية عن هذه المهنة ، رغم الأهمية الكبيرة لهذه المهنة حاليا ، فقد بات ينظر للسكرتيرة على أنها أول كلمة في قصة نجاح أي مسؤول، لكن هناك علامات استفهام عديدة حول وظيفتها، خاصة وان هذه المهنة ارتبطت دائما بالمرأة المنحرفة أخلاقيا، التي تحاول دائما أن توقع المدير في براثنها أو العكس. اختزلت السينما والدراما العربية مهنة السكرتيرة في بعض المشاهد المتبذلة، بتنوعات متعددة واختلافات بسيطة في الشكل، فهي تلك السيدة اللعوب التي لا يشغلها سوى تقليم الأظافر، ووضع الماكياج،والنظر إلى المرآة، والحديث في التليفون، فضلا عن أن علاقتها بمديرها تتعدى حدود العمل بكثير ، وهو مشهد يرسم صورة مشوهة إلى حد كبير عن طبيعة مهنة السكرتيرة في المجتمع العربي .فهل السكرتيرة جاني أم مجني عليها؟. وعن مواصفات السكرتيرة التي يقبل عليها رجال الأعمال، يقول أحمد حمدي صاحب شركة تجارية: السكرتيرة لابد أن تتميز بمواصفات جمالية معينة، ولا مانع من أن تكون متحررة في ملابسها أو سلوكها، فذلك قد يكون متناسبًا لحد ما مع طبيعة العمل الذي تقوم به من مقابلة العملاء والتعامل معهم ،و تقول نجلاء عبد العزيز: قرأت إعلانًا بإحدى الجرائد لتعيين سكرتيرة، وتقدمت بالفعل ، وأثناء المقابلة كان صاحب الشركة يسأل عن أشياء غريبة ومحرجة ، مما سبب لي بعض الضيق وأدركت وقتها أن المواصفات التي يطلبها في وظيفة السكرتيرة لا تنطبق إطلاقًا على، "أقصد المواصفات الجمالية البحتة". نظرة دونية قد يكون ارتباط مهنة السكرتيرة بنظرة اجتماعية دونية أو منفرة أحيانا بسبب تطفل البعض على هذه الوظيفة المهمة والضرورية في أية مؤسسة، إضافة إلى ممارسات غير رزينة تتعارض مع العرف الاجتماعي"، وهي صورة نمطية تغذيها الأفلام والمسلسلات. وأرجعت وسام عبد الله "سكرتيرة في مكتب محاسبة" تلك النظرة السيئة لبعض الفتيات العاملات في المهنة سوء سلوك بعضهن، وقالت عرض على أحد أقاربي العمل كسكرتيرة في إحدى الشركات الخاصة، بشرط أن أرتدي ملابس على "الموضة"، لأن السكرتيرة السابقة توفي والدها فارتدت ملابس الحداد فطلب منها صاحب الشركة ترك العمل ، فهو يريد سكرتيرة جميلة تستطيع أن تتعامل مع العملاء وتجذبهم للتعامل مع الشركة، فلماذا يرفضون السكرتيرة الملتزمة والتي تؤدي عملها بكفاءة، وقال "بصراحة السكرتيرة أصبحت في مأزق". وتقول سيدة في العقد الخامس من عمرها، "فوجئت في أحد الأيام بمن يبلغني بأن زوجي البالغ من العمر 50 عامًا متزوج من أخرى فأظلمت الدنيا في وجهي، وتساءلت ما الذي دفعه للزواج بأخرى بعد رحله استمرت ثلاثين عامًا، وكللت بشباب وبنات معظمهم متزوج ؟ وعرفت أن الفتاة التي تزوجها هي سكرتيرته الخاصة التي كانت تعمل لديه في المصنع وتصغره بعشرين عامًا، وأنه خصص لها شقة لكي يعيشا فيها وأنجبا طفلين فأصبت بصدمة نفسية، وما كان أمامي لكي أرد اعتباري إلا أن أصمم على أن يكتب مسكن الذي نعيش فيه باسمي. وذكرت سيدة أخرى بأن زوجها المحامي، هانت عليه سنوات العشرة وتزوج سكرتيرته رغم فارق السن بينهما، فالسكرتيرة تكون أقرب للرجل من زوجته معظم الوقت، وهنا تحدث الكوارث. وأوضحت د.نجية إسحاق أستاذة علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس: أن التبرج المبالغ فيه، واللباس الذي لا يتناسب مع سياسة المؤسسة، إضافة إلى ممارسات أخرى، كلها عوامل ساهمت في تشويه صورة السكرتيرة في المجتمع، أو على الأقل لدى شرائح اجتماعية معينة. وقالت هناك قيم ومعايير تحكم المجتمع، والخروج عنها يؤدي إلى نظرة سيئة ومتدينة للذين لا يلتزمون بها، وهناك أفكارًا راسخة في الأذهان تحتاج إلى تغيير قوي لإقناع من يفكرون بهذه الطريقة، وقد تكون النظرة السلبية من جانب المجتمع عن بعض المهن أو المواقف موضوعية بقدر كبير، ويتم اختزانها عبر فترات تاريخية طويلة، ولكننا لا نستطيع تعممها ، ففي مهنة السكرتيرة هناك السيئ والحسن، وكذلك مهنة التمريض وما شابه ذلك . أبيض .. وأسود لاشك في أن الاعلام أساء تجسيد مهنة السكرتيرة فالجميع يتفق أن في كل مهنة هناك السيئ والجيد وعن السبب في هذه الصورة السلبية، يقول الناقد السينمائي طارق الشناوي : من الملاحظ أن الدراما السينمائية والتليفزيونية بالغت في تقديم تصرفات وسلوكيات بعض أصحاب المهن المختلفة، مثل رجال الأعمال والفساد الذي يحدث في مجال أنشطتهم، وكذلك السكرتيرات والممرضات وغيرهن من خلال انعكاسها من مرآة مقعرة أكثر من صافية. وهناك نماذج سيئة في كل المهن، لكن هناك قدرًا من المبالغة في نقل ملامح صورة السكرتيرة، فالكتاب أصبحوا يركزون على الجوانب السيئة كصورة رجل الأعمال والسكرتيرة الخاصة، وهي تلك الفتاة الجميلة التي يكون هدفها الأساسي الاستيلاء على صاحب العمل، وإقامة علاقة معه، حتى ولو كانت غير شرعية، مما خلق صورة سيئة عن تلك المهنة وغيرها في ذهن المشاهد.ولكي نحسن هذه الصورة الراسخة في أذهان العديد من الناس، لابد أن تحمل الصورة في طياتها اللون الأبيض كما تحمل الأسود. ويلتقط خيط الحديث د. شعبان عبد الصمد أستاذ علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس، ويقول: هناك نظرة نمطية تصنف الناس لمجموعات دنيا ومجموعات عليا، وهذه التصنيفات موجودة في كل المجتمعات والطبقات، فهي غير مرتبطة بطبقة أو ثقافة أو مجتمع معين، ولكن بشخصية لها طابع خاص، فهذه الشخصية تكون صورة ذهنية ونظرة دونية عن بعض المهن مثل السكرتيرة والممرضة والمضيفة وما شابه ذلك، وعادة ما تكون هذه الشخصية غير متسامحة تفرق وتميز الناس عن بعض البعض، فلو كان هذا الشخص اجتماعيًا لتعاطف معه الناس وأحس بظروفهم وأحوالهم وأهتم بمشاكلهم، ولكي نحسن هذه الصورة، فلابد أن ننظر لعملية التصنيف التي يقوم بها بعض الناس للنماذج الاجتماعية التي قد يرونها، ولابد من زيادة العامل الاجتماعي والثقافي، فكلما زاد التمدن تقل عملية اللجوء للتصنيف، فقد نرى أن عامل العادات والتقاليد يُغلب بعض النظرات الدونية؛ مثل صورة السكرتيرة الخاصة في أذهان العديد من الناس والتي ترى أنها فتاة لابد أن تتمتع بمواصفات جمالية خاصة وملازمة دائمًا لصاحب العمل، وكأن هناك علاقة غير سوية بينهما. وتقول د. عزة كريم أستاذ علم الاجتماع : عندما تتحدث عن نظرة المجتمع لأية مهنة، فإن ذلك يعتمد على عدة معايير اجتماعية واقتصادية، فالنظرة تختلف من مهنة لأخرى تبعًا للخبرة المجتمعية لهذه المهنة، فعلى سبيل المثال مهنة التمريض التي تظل صاحبتها لوقت طويل خارج المنزل، واختلاطها في عملها ببعض الأطباء، أدي إلى ظهور بعض الحكايات والقصص بين الأطباء والممرضات، مما أعطي انطباعًا سلبيًا عن جميع المنتسبات لهذه المهنة، ونفس الشيء ينطبق على مهنة السكرتيرة.وأكدت على مسئولية أصحاب تلك المهن في ترسيخ تلك الصورة السلبية عنهم من خلال بعض السلوكيات السيئة، وقالت مثلما نرى نظرة متعاطفة من جانب المجتمع تجاه بعض المواقف أو المهن، هناك أيضًا نظرة دونية إلى بعض المواقف والمهن، ومنها مهنه السكرتيرة لأنها تظل لفترة طويلة خارج المنزل، ولأنها دائمًا ملازمة لصاحب العمل. أما د .ثروت إسحاق رئيس قسم علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس فيقول ، إن اتجاهات وآراء الناس تتغير مع القيم ولكن بمعدل بطيء جدًا، الاجتماعيون عندما قسموا التغيير الاجتماعي إلى تغيير مادي مثل التطور التكنولوجي ووسائل وأساليب الحياة، وأكدوا أنها تتغير بصفة مستمرة، ولكن القيم والاتجاهات والعادات والتقاليد والأعراف والأخلاق تتغير ببطء شديد، وهذا ما يفسر إيمان بعض المتعلمين بالحسد والسحر، رغم تعليمهم العالي الذي لم يمنعهم من تبني وجهات نظر تقليدية، وهناك رؤية اجتماعية تقليدية متخلفة سببها ضعف الوعي الاجتماعي، وعن سبل تغيير أو تحسين تلك الرؤية، قال لابد أن تساهم وسائل الإعلام في تغيير الصورة السيئة عن بعض المهن، كالسكرتيرة، والمضيفة، والممرضة، وغيرها، وهذا يتطلب زيادة درجة الوعي من خلال علماء الدين.