بدائل الثانوية.. مدرسة مياه الشرب بمسطرد - موعد التقديم والأوراق والشروط    ريال مدريد يحدد موعد تقديم كيليان مبابي في سانتياجو بيرنابيو    جوجل تطلق مزايا جديدة في الساعات الذكية.. تكتشف الحوادث وتتصل بالطوارئ    حكم ذبح الأضحية ليلا في أيام التشريق.. «الإفتاء» توضح    عمال مصر: مؤتمر الأردن سيشكل قوة ضغط قانونية وسياسية على إسرائيل    عاجل| حماس تُطالب ببدء وقف إطلاق النار.. والضغوط الأمريكية لم تنجح    النمسا.. 29 سبتمبر موعدا لإجراء انتخابات البرلمان    مفوضية الأمم المتحدة تحتفل باليوم العالمي للاجئين.. وتؤكد أن مصر أوفت بإلتزاماتها    كين: منتخب إنجلترا يشارك فى يورو 2024 لصناعة التاريخ ولكن الطريق صعب    «التايمز 2024»: جامعة طنطا ال4 محليًا.. وبالمرتبة 66 عالميًا في «الطاقة النظيفة بأسعار معقولة»    يورو 2024| البرتغال تبحث عن إنجاز جديد في عهد رونالدو «إنفوجراف»    بديلا ل ناتشو.. نجم توتنهام على رادار ريال مدريد    «رحلة عزيزة».. انطلاق احتفالية «حماة الوطن» بذكرى دخول العائلة المقدسة أرض مصر    حيثيات حكم النقض برفع أبوتريكة وآخرين من قوائم الإرهاب    جهود مكثفة لكشف ملابسات العثور على جثتين فى المعادى    إخماد حريق داخل منزل فى أوسيم دون إصابات    سارة عبدالرحمن تشارك في فيلم المصيف إخراج سليم العدوي (خاص)    نجوم الفن يقدمون واجب العزاء لأسرة رئيس غرفة صناعة السينما    «العناني»: مصر تتميز بمقومات أثرية وتاريخية تجعلها قبلة للسياح الأجانب    أحمد جمال سعيد يستعد لتصوير مسلسل «وتر حساس» (تفاصيل)    رئيس هيئة دعم فلسطين: تقرير الأمم المتحدة دليل إدانة موثق على جرائم الاحتلال    عيار 21 الآن بعد الارتفاع.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 12-6-2024 بالصاغة    هل يجوز للأرملة الخروج من بيتها أثناء عدتها؟ أمين الفتوى يُجيب    وكيل «صحة الشرقية» يتابع التشغيل التجريبي لوحدة تفتيت الحصوات بمستشفى كفر صقر    5 فئات ممنوعة من تناول لحمة الرأس في عيد الأضحى.. تسبّب مخاطر صحية خطيرة    أكاديمية الشرطة تناقش الأفكار الهدامة الدخيلة على المجتمع    الانفصال الأسرى زواج مع إيقاف التنفيذ    إعارته تنتهي 30 يونيو.. فليك يحسم مصير جواو فيليكس في برشلونة    «محاكمة مزيفة».. الجمهوريون يتبنون نظريات المؤامرة بعد إدانة هانتر بايدن    الأطفال يطوفون حول الكعبة في محاكاة لمناسك الحج بالبيت المحمدي - صور    رفض دعوى عدم دستورية امتداد عقد الإيجار لورثة المستأجر حتى الدرجة الثانية    الأعلى للإعلام: تقنين أوضاع المنصات الرقمية والفضائية المشفرة يتم وفقا للمعايير الدولية    أكلة العيد..«فتة ولحمة ورز»    بقيادة رونالدو.. 5 نجوم يخوضون كأس أمم أوروبا لآخر مرة في يورو 2024    أسعار فائدة شهادات البنك الأهلي اليوم الاربعاء الموافق 12 يونيو 2024 في كافة الفروع    محافظ الغربية يستقبل الأنبا أغناطيوس أسقف المحلة للتهنئة بعيد الأضحى    استجابة ل«هويدا الجبالي».. إدراج صحة الطفل والإعاقات في نقابة الأطباء    سفير مصر بالكويت: حالة المصاب المصرى جراء حريق عقار مستقرة    اتحاد الكرة يرد على رئيس إنبى: المستندات تُعرض أثناء التحقيق على اللجان وليس فى الواتساب    محافظ المنيا يشدد على تكثيف المرور ومتابعة الوحدات الصحية    الجلسة الثالثة من منتدى البنك الأول للتنمية تناقش جهود مصر لتصبح مركزا لوجيستيا عالميا    جامعة سوهاج: مكافأة 1000 جنيه بمناسبة عيد الأضحى لجميع العاملين بالجامعة    أسماء جلال تتألق بفستان «سماوي قصير» في العرض الخاص ل«ولاد رزق 3»    المفوضية الأوروبية تهدد بفرض رسوم على السيارات الكهربائية الصينية    مواعيد تشغيل القطار الكهربائي الخفيف ART خلال إجازة عيد الأضحى 2024    مساعد وزير الصحة لشئون الطب الوقائي يعقد اجتماعا موسعا بقيادات مطروح    مسؤول إسرائيلى: تلقينا رد حماس على مقترح بايدن والحركة غيرت معالمه الرئيسية    «الأوقاف» تحدد ضوابط صلاة عيد الأضحى وتشكل غرفة عمليات ولجنة بكل مديرية    إي اف چي هيرميس تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح المسوّق بالكامل لشركة «أرامكو» بقيمة 11 مليار دولار في سوق الأسهم السعودية    عفو رئاسي عن بعض المحكوم عليهم بمناسبة عيد الأضحى 2024    محافظ الغربية يتابع مشروعات الرصف والتطوير الجارية ببسيون    الأرصاد تكشف عن طقس أول أيام عيد الأضحي المبارك    "مقام إبراهيم"... آية بينة ومصلى للطائفين والعاكفين والركع السجود    اليونيسف: مقتل 6 أطفال فى الفاشر السودانية.. والآلاف محاصرون وسط القتال    «الخدمات البيطرية» توضح الشروط الواجب توافرها في الأضحية    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    نجم الأهلي السابق: مجموعة منتخب مصر في تصفيات كأس العالم سهلة    «اتحاد الكرة»: «محدش باع» حازم إمام وهو حزين لهذا السبب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما هي الجريمة السياسية
نشر في الزمان المصري يوم 11 - 08 - 2014

يعتبر مفهوم "الجريمة السياسية" من أكثر المفاهيم القانونية غموضا وتعقيداً، التي استعصى على الفقه والقضاء إيجاد تعريف محدد لها، وعزفت جل الدول عن وضع تعريف لها في تشريعاتها الوطنية رغم المبادرات المتعددة للمنتظم الدولي في هذا الإطار، وترجع هذه الصعوبة في تحديد المفهوم أساسا إلى الطبيعة المعقدة للجريمة السياسية في حد ذاتها واختلاف رؤية الدول في معالجة هذا النوع من الجرائم حسب طبيعة نظامها السياسي، وكذا إلى صعوبة وضع تعريف محدد لمصطلح "السياسة" نفسه الذي ما يزال معناه غامضاً ومطاطاً مفتوحا لكل التأويلات يصعب أن يكون أساسا لنظرية معينة في صلب قواعد القانون الجزائي المتسمة بالثبات والاستقرار
نقسم الفقه في تعريفه للجريمة السياسية إلى ثلاثة اتجاهات، اتجاه أول يعتمد المعيار الموضوعي، واتجاه ثان يأخذ بالمعيار الشخصي، والثالث يجمع بين المعيارين الشخصي والموضوعي (المذهب المزدوج):
المذهب الموضوعي: يرى أصحاب هذا الاتجاه على أن موضوع الجريمة هو الذي يحدد طبيعة الجريمة السياسية مهما كان الباعث على ارتكابها، فالجريمة السياسية هي التي تنطوي على معنى الاعتداء على نظام الدولة السياسي سواء من جهة الخارج، أي المس باستقلالها أو سيادتها، أو من جهة الداخل، أي المساس بشكل الحكومة أو نظام السلطات أو الحقوق السياسية للأفراد والجماعات؛
المذهب الشخصي: يقوم تعريف الجريمة السياسية في هذا المذهب على الهدف من الجريمة والباعث على ارتكابها الذي يكون غرضا سياسيا، وذلك على خلاف المذهب الموضوعي الذي ينطلق من طبيعة الحق المعتدى عليه. ويعرف أنصار المذهب الشخصي الجريمة السياسية بكونها الجريمة التي ترتكب لتحقيق أغراض سياسية أو تدفع إليها بواعث سياسية، فالجريمة العادية إذا كان الهدف منها ينطوي على باعث أو رغبة سياسية تعتبر جريمة سياسية.
المذهب المزدوج: في إطار التوفيق بين المذهبين الموضوعي والشخصي يذهب أنصار المذهب المزدوج إلى ربط الجريمة السياسية بالمعيار الموضوعي (طبيعة الحق المعتدى عليه) والمعيار الشخصي (الباعث لدى الجاني والهدف الذي يرمي إليه"، وعرفوا الجريمة السياسية ب "الجريمة التي يكون الباعث الوحيد منها محاولة تغيير النظام السياسي أو تعديله أو قلبه. ويشمل النظام السياسي استقلال الدولة وسلامة أملاكها وعلاقاتها مع الدول الأخرى، وشكل الحكومة ونظام السلطات وحقوق الأفراد السياسية، فكل تعد مباشر على هذه النظم يكون جريمة سياسية".ومن الجرائم السياسية : الاعتداء على أمن الدولة ، كالتآمر لتغيير نظام الحكم ، أو العمل على تغيير الدستور ، وجرائم المطبوعات ( جرائم الرأي ) والصحافة التي تتعرض للحقوق السياسية وكجرائم الغش في الانتخابات مثلا .
والجدير ذكره أن الرأي الغالب في الفقه الجنائي المعاصر يميل إلى إخراج الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي من طائفة الجرائم السياسية كجرائم الخيانة والتجسس والتآمر مع العدو.
إلا أن الاتجاه العالمي يعتبر أن الاعتداء على رئيس الدولة بالاغتيال أو غيره لا يمكن أن يعتبر جريمة سياسية ، لأن حياة رئيس الدولة مصونة كأي إنسان أو فرد في المجتمع ، ولا يمكن القول بأن القتل أو الاغتيال يمكن يكون جرما سياسيا وإنما يندرج ضمن الجرائم العادية.
وعليه نقول ، إن تصنيف الجرائم إلى سياسية وأخرى عادية ، هو تصنيف يهدف إلى معاملة ( المجرم السياسي ) معاملة خاصة ، باعتبار أنه لم يرتكب جرمه بدافع الكسب أو السرقة أو لدافع إجرامي بحت ، وإنما لهدف سياسي ومن باعث سياسي أيضا .
ولذلك ، فإن الاتجاه العالمي مستقر على استثناء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية أي عدم تطبيقها على المجرمين السياسيين ، وكذلك عدم تعريضهم للعقوبات التي تترافق مع أشغال شاقة أو الحبس مع الشغل في السجون ، فهم يحبسون فقط دون أن يشغلوا ، كما أن المجرمين السياسيين يشملهم العفو أكثر من غيرهم ( في الدول الديمقراطية طبعا ) وكذلك فإن أكثر التشريعات تمنع تسليم المجرمين السياسيين . وكان هذا من نتاج الثورة الفرنسية وتطور النظرة إلى ممارسة الحقوق السياسية والتعامل مع المجرمين ( المعارضة ) السياسيين ، وغيره. والجدير ذكره ، أن قانون الجنائي المغربي أخذ نظريا بكلا المذهبين الشخصي والموضوعي وحاول التوفيق بينهما ، وبالفعل ، فهو استبعد عقوبة الإعدام من التطبيق على المجرمين السياسيين.
وقد نصت المادة الرابعة من اتفاقية تسليم المجرمين التي أقرها مجلس الجامعة العربية في العام 1952 على : (( لا يجوز التسليم في الجرائم السياسية وتقدير كون الجريمة سياسية متروك للدولة المطلوب إليها التسليم .. وعلى أن يكون التسليم واجبا في جرائم الاعتداء على الملوك والرؤساء أو زوجاتهم أو أصولهم أو فروعهم .. وعلى أولياء العهد أيضا .. والجرائم الإرهابية ..))وقد أخذ بهذا المذهب قانون العقوبات الإيطالي لسنة 1930 (المادة 2041/3) الذي نص على ما يلي : "كل فعل يضر بمصلحة سياسية من مصالح الدولة أو بحق سياسي من حقوق المواطنين يعتبر جريمة سياسية. كما تعتبر جريمة سياسية كل جريمة عادية وقعت بدافع سياسي كلي أو جزئي"، وكذا قانون العقوبات السوري في مادته 195 المقتبسة حرفيا من قانون العقوبات الإيطالي. ومن أهم هذه المذاهب التي تفرق بين الجرائم السياسية والجرائم الأخرى بما فيها الإرهاب ما يعرف بمذهب "جنيف" هذا المذهب الذي أسس على إثر ما ذهب إليه المعهد الدولي للعلوم الجنائية في دورته المنعقدة في جنيف عام 1892 ويقوم هذا المذهب على المبادئ الآتية :
- عدم جواز التسليم في الجرائم السياسية المحضة أي جرائم رأي .
- الأفعال المرتكبة أثناء الثورات والحروب التحريرية والمدنية لكسب معركة يستفيد فاعلها من حق اللجوء السياسي إلا إذا كانت من أفعال النذالة والضرر والوحشية.
- الأفعال الفردية الخطيرة من حيث الأخلاق والاعتداء عل الحقوق العادية لا تستفيد من حق اللجوء السياسي.
ومن جهة أخرى يمكن أن نميز بين الجريمة الإرهابية والجريمة السياسية من خلال أن الضحايا في حالة الجريمة الإرهابية غير محددين بذواتهم في أحيان كثيرة مما يساهم في خلق شعور عام بالخطر يؤدي إلى إثارة حالة من الرعب في المجتمع, بينما في الجريمة السياسية لا يقع ضرر مادي على ناس من المجتمع, كما ينعدم فيها الإحساس بالخطر العام , وليس لها ضحايا لأنها تتعلق غالبا بإبداء رأي مخالف لما هو منصوص عليه في القوانين الداخلية للدول.
وعلى هذا الأساس منح القانون الدولي من يرتكب هذه الأفعال ويكون مطاردا من السلطات المحلية حق اللجوء السياسي, بينما حرم هذا الحق على المجرم الإرهابي, هذا ولا يعتبر القانون الدولي الجريمة الإرهابية, جريمة سياسية بأي حال من الأحوال حتى لو كان الدافع أو الباعث لها سياسيا وإنما هي جريمة من نوع خاص.
ومن ثمة يمكننا أن نستخلص من خلال ما تقدم أن الجريمة السياسية هي تنطبق فقط على الآراء والأفكار والمعتقدات التي تشكل منهجا فكريا معينا يتفق أو يتعارض مع فكر مجموعة سياسية تتواجد في السلطة , وينطبق أيضا على الأنشطة المحظورة أو الترويج لفكر سياسي محظور , عن طريق الخطابة أو المنشورات أو الملصقات أو أي وسيلة أخرى لا يستخدم فيها العنف أو التحريض عليه وهذه هي فقط التي ينطبق عليها لفظ جرائم سياسية. أما الجرائم الإرهابية فهي التي تستهدف كمبتغى إحداث صدمة أو حالة من الذهول , أو التأثير على الجهات الرسمية أو المؤسسات الحكومية والنظامية وتتجاوز ضحايا الإرهاب المباشرين , باعتماد العنف أو التهديد باستعماله لتحقيق أهداف سياسية .
وإذا كانت الدول المتقدمة التي عانت من الإجرام السياسي قديما، وتعاملت معه بقسوة وشدة قد تداركت هذا الخلل السياسي والقانوني منذ النهضة الأوربية، وخصوصا بعد الثورة الفرنسية، حيث اضطر المشرِّع الأوروبي أمام كثرة الثورات، وبفضل جهود الفلاسفة والمفكرين، فاعترف بوجود الجريمة السياسية، التي تختلف عن الجريمة العادية، فوضع لها نصوصا خاصة وعقوبات متميزة، معتبرًا أنَّ المجرم السياسي رجل نبيل، وفاضل ذو أخلاق ومبادئ يناضل من أجلها ويضحي بمصلحته الخاصة من أجل مصلحة وطنه وشعبه، حتى وإن أخطأ في الوسائل وأحرق المراحل، واستعجل النتائج، فالمجرم السياسي قد يصبح حاكما في المستقبل، ولعل أغلب المصلحين والمجددين والزعماء والقادة في العالم كانوا مجرمين سياسيين، في نظر الحكم القائم في عهدهم.
فإذا كانت الدول الأوروبية قد خرجت من هذه المعضلة السياسية والقانونية بتعديل دساتيرها وقوانينها الوضعية، فما هو موقف الشريعة الإسلامية من الإجرام السياسي؟ وما هي آراء الفقهاء المسلمين في المجرمين السياسيين؟ وكيف تعامل الحكام المسلمون مع المعارضة السياسية العنيفة؟ وهل يميز الفقه الإسلامي بين الجريمة السياسية والجريمة العادية؟
رجعتُ إلى كتب الفقه الإسلامي فاطَّلعت على أبواب البغي والبغاة فوجدت فيها بحوثا مستفيضة لأحكام جرائم البغاة انطلاقا من قوله تعالى {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُومِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتِ اِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ اِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُومِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
ومن تفسير هذه الآية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأعمال الخلفاء الراشدين، وآراء الفقهاء واجتهاداتهم، تكونت ثروة فقهية ضخمة، في موضوع جريمة البغي، وشروطها، وضوابطها، وأحكامها، وتمييز البغاة عن غيرهم من المجرمين، كل هذا مبسوط في كتب الفقه بشكل يحق للمسلمين أن يعتزوا به أمام فقهاء العالم، ولكن هذه الثروة تحتاج إلى دراسة علمية أكاديمية مستفيدة من تجارب الإنسانية، وأحدث ما توصلت إليه القوانين المعاصرة في التعامل مع الإجرام السياسي.
أمام هذا التراث الإسلامي الكبير والثروة الفقهية الزاخرة، وهذا البعد التشريعي الذي سبقت به الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية بثلاثة عشر قرنا؛ إذ لم تعترف القوانين الفرنسية بالجريمة السياسية إلا بعد الثورة الفرنسية، وجدت نفسي معتزًا و منبهرًا، من جهة، وحائرًا متحسرًا، من جهة أخرى، على مواقف الأنظمة السياسية العربية والإسلامية اليوم، فلا هي أخذت بالقوانين الوضعية، وما توصلت إليه من ديمقراطية وحرية الرأي، والمعارضة السياسية السلميَّة، التي تمنع الوصول إلى الإجرام السياسي، الذي وإن حصل فقد قنن المشرع تدابير وإجراءات لمحاكمة المجرم السياسي، محاكمة تليق بمقامه، كما أنَّ تلك الأنظمة لم ترجع إلى الشريعة الإسلامية التي اعترفت بالجريمة السياسية منذ نزول الوحي. ويقيني أن الاهتمام بتحديد مضمون الجريمة السياسية ورسم ضوابطها لن يؤتي أكله على الصعيد الوطني والعالمي ما لم تتوحد الرؤى وتوضع المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات الصلة موضع التطبيق ولاسيما مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومكافحة الإرهاب، والتعاون الدولي لمواجهته. وما لم تتوحد الرؤى، فإن هذه الجريمة وغيرها من الجرائم سوف تبقى مجرد وجهة نظر على الرغم من الدمار والخراب والأرواح التي زهقت وتزهق بلا حسيب أو رقيب أو وازع من ضمير يردع المجرمين عن إجرامهم، والذريعة هي الحرية…
الجريمة السياسية
ارتبط ظهور اصطلاح الجريمة السياسية بقيام الثورة الفرنسية التي اعتبرت دعوتها إلى مناهضة الحكم المطلق والنظم الاستبدادية في أوروبا نقطة تحول جوهرية بالنسبة لعلاقة الشعوب بنظمها السياسية .
وقد أثار تعريف الجريمة السياسية خلافاً واسعاً في الفقه القانوني الداخلي والدولي على السواء ، ومرجع ذلك هو أنه على الرغم من وجود جرائم لا تكاد تثير إشكالاً من حيث كونها جرائم سياسية ، ونعني بها الجرائم الموجهة ضد النظام السياسي للدولة ، فإن هناك جرائم أخرى توصف بأنها جرائم مختلطة بالنظر إلى أنها تتكون من أفعال تعتبر أصلاً من الجرائم العادية ولكنها ترتكب بدافع سياسي (كجريمة قتل موظف عام بدافع سياسي) ، كما أن هناك نوعاً آخر من الجرائم يعرف بالجرائم المتصلة وهي جرائم عادية يتم ارتكابها في أثناء قيام ثورة أو في حالة حرب (كجريمة سرقة أسلحة أثناء قيام الثورة لاستخدامها فيها) .
وبصفة عامة ، يمكن القول بأن هناك مذهبين في تعريف الجريمة السياسية ، أما المذهب الأول فهو :
المذهب الشخصي : والذي يذهب إلى اعتبار الجريمة جريمة سياسية إذا كان الباعث على ارتكابها باعثاً سياسياً بصرف النظر عن موضوع الجريمة ، أي سواء أكانت هذه الجريمة تعد بحسب موضوعها جريمة سياسية بحتة أم كانت مجرد جريمة عادة ، أما المذهب الثاني فهو
المذهب الموضوعي : ويشترط هذا المذهب لاعتبار الجريمة جريمة سياسية أن يكون الباعث عليها باعثاً سياسياً كذلك ، وأن يكون الفعل المكون لها – أي موضوعها – سياسياً كذلك ، كالشروع في قلب نظام الحكم أو محاولة المساس باستقلال الدولة ، إلى غير ذلك من الأفعال التي قد تُوجه ضد النظام السياسي للدولة .
والمبدأ المستقر هو استثناء الجرائم السياسية من نطاق قاعدة جواز تسليم المجرمين، ويعد هذا الاستثناء من التطورات الحديثة في فقه القانون الدولي ، وهي التطورات التي أعقبت التغيرات السياسية والدستورية التي ترتبت على قيام الثورة الفرنسية وأفضت إلى تغير النظرة إلى الجرائم التي تُوجه ضد النظام السياسي للدولة ، ومع ذلك ، هناك من الاتفاقيات الدولية ما تجيز التسليم بالنسبة لكافة أنواع الجرائم ودونما تفرقة بين الجرائم السياسية والجرائم العادية ، ومن ذلك مثلاً اتفاقية لاهاي لعام 1970 بشأن مكافحة اختطاف الطائرات ، حيث نصت في مادتها الثامنة على ضرورة تسليم مختطف أو مختطفي الطائرات أياً كانوا ، حتى ولو كان الباعث على الاختطاف سياسياً .
وقد جرى العمل الدولي على معاملة الشخص المتهم بارتكاب جريمة سياسية – أي المجرم السياسي – معاملة خاصة مقارنة بالمجرم العادي ، فعلى سبيل المثال ، إذا كان لا يجوز إطلاقاً لدور البعثات الدبلوماسية وما في حكمها إيواء المجرمين العاديين ، فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للمجرمين السياسيين ، فقد دفعت روح العطف التي كان الرأي العام يبديها بالنسبة لهذه الفئة من المجرمين ، منذ قيام الحركات التحررية في الدول المختلفة ، إلى التسامح في شأن إيوائهم حماية لهم من الأخطار التي قد تكون مهددة لحياتهم ، ويصل هذا التسامح أحياناً إلى حد مطالبة السلطات المحلية باحترام حق اللجوء الممنوح لهم وعدم محاولة القبض عنوة عليهم .
الشعب
الشعب هو مجموعة أفراد يقطنون إقليماً معيناً ويخضعون لسلطة سياسية تدعي الحكومة ، فالشعب يخضع لنظام قانوني تسهم السلطة السياسية في تنفيذه، فتبدو هذه السلطة (الحكومة بالمعنى الواسع) وكأنها سلطة آمرة (لا مجال هنا لمناقشة نظريات الفلسفة السياسية لمعرفة ما إذا كان الشعب هو الذي يخضع للحكومة أو العكس) . هذه المجموعة من الأفراد تربطهم بالدولة علاقة خاصة هي علاقة الجنسية ، وهي علاقة قانونية تعبر عادة عن رابطة الولاء للوحدة السياسية التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد.
هذا الولاء ينشأ نتيجة لتفاعل عوامل كثيرة جغرافية واقتصادية واجتماعية وحضارية ... الخ ، فهذه العوامل تولد شعوراً قوياً بالتضامن الذي يأخذ صورتين ، تضامن داخلي من جانب ويقصد به تضافر الجهود من أجل تيسير سبل العيش معاً ، وتضامن خارجي من الجانب الآخر ويهدف إلى دفاع الجماعة عن نفسها في مواجهة كل عدوان خارجي أو يهدف إلى التوسع والسيطرة على حساب جماعات سياسية أخرى ، فلا يمكن إذن التعريف بالشعب دون ربطه كذلك بالولاء لوحدة سياسية معينة ، هذا الارتباط بين الشعب من جانب ، والإقليم والسلطة السياسية العليا من الجانب الآخر ، هو المميز الوحيد بين الشعب وبين ما يسمى بالأمة ، فالرابطة التي تربط بين أفراد أمة واحدة هي رابطة معنوية اجتماعية تقوم عادة على وحدة الأصل ومن ثم وحدة اللغة والتقاليد والمعتقدات ، ولكنها ليست رابطة ولاء قانوني ، ومن ثم لا يهتم بها القانون الدولي العام، وإن كانت تؤثر تأثيراً بالغاً في سير العلاقات السياسية الدولية .
ومن الطبيعي أن تكون الأمة شعباً واحداً بالمفهوم القانوني ، ولكن الأحداث التاريخية من هجرة وغزوات فرقت بين مجموعات من البشر تنتمي إلى أمة واحدة ، كما أنها جمعت بين أفراد ينتمون إلى أمم مختلفة ، وهكذا نشأت ظاهرتان ، الظاهرة الأولى هي تجزئة الأمة الواحدة إلى عدة شعوب (الأمة العربية) ، والظاهرة الثانية هي تجميع أفراد ينتمون إلى أمم مختلفة في إطار شعب واحد (بعض الدول الأفريقية في وقتنا الحاضر) ، وقد انبثقت عن هذه الظاهرة الأخيرة ظاهرة فرعية هي ظاهرة "الأقليات القومية" التي تثير بعض القضايا القانونية ، إلى جانب إثارتها لقضايا سياسية في غاية الحساسية .
وقد دعت الرغبة في توحيد الأمة الواحدة في إطار شعب واحد إلى ظهور مبدأ سياسي مهم هو "مبدأ القوميات" الذي سيطر على سير العلاقات الأوروبية طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وقد تقرر هذا المبدأ في وثائق دولية عديدة أهمها معاهدات الصلح التي أنهت الحرب العالمية الأولى عام 1919 ، ولكنه لم يصل إلى مرتبة المبدأ القانوني محتفظاً بصبغته السياسية ومتفاعلاً مع عوامل سياسية أخرى لا تقل عنه أهمية مثل مبدأ "توازن القوى" أو مبدأ " المجال الحيوي" .
أما المبدأ الحديث الذي ينادي "بحق تقرير المصير" والذي تتمسك به الشعوب الآسيوية والأفريقية وكرسته عدة مواثيق دولية فهو يعني حق كل شعب – ولا يشترط أن يكون ذلك الشعب أمة واحدة – اضطرته الظروف التاريخية إلى الخضوع لسلطة أجنبية في الحصول على استقلاله السياسي وسيادته القانونية .
وقد اكتسب هذا المبدأ صفة قانونية وذلك بعد الحرب العالمية الثانية ولعل أبرز مظهر لهذا التطور هو القرار رقم (2625) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 تشرين أول /1970 والخاص بمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتضامن بين الدول ، فقد جاء في هذا القرار صراحة ما يلي :
"إن حق الشعوب في تقرير مصيرها هو مبدأ قانوني يحق لجميع الشعوب بمقتضاه تقرير نظامها السياسي بكل حرية دون تدخل من الخارج ومواصلة تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية " ، بناءً على ذلك ، فالقانون الدولي يرتب التزاماً على كل دولة "باحترام حق تقرير المصير تطبيقاً لميثاق هيئة الأمم المتحدة" . وقد تطورت النظريات فيما بعد إلى أن أصبح الشعب هو صاحب الحق في اختيار حكامه ، وكان هذا بفضل الإسلام السابق على كل هذه النظم .
سيادة الأمة في اختيار الحاكم
إنه بوحي من الله تعالى وضع النبي –صلى الله عليه وسلم- القواعد التي تنظم اختيار المسئولين بما فيهم الحكام ، فجعل الاختيار للناس ، فهم الذين يختارون من يمثلونهم ومن يكون أميراً وحاكماً عليهم .
ففي بيعة العقبة – وهو في عصر الاستضعاف بمكة قبل الهجرة – جاءه المسلمون من أهل الدينة ليتفقوا معه على أمور دينهم ودنياهم ، ويتحالفوا ويتعاهدوا معه على ذلك ، فطلب منهم اختيار من يمثلهم وذلك بقوله : " أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم " وحكم ببطلان البيعة للأمير والخليفة بغير مشورة ورضا من الأمة فقال: "من بايع رجلاً من غير مشورة المسلمين فأنه لا بيعة له ، ولا الذي بايعه".وجعل الترجيح للأغلبية فقال : " عليكم بالسود الأعظم
وفي هذا قال الماوردي : " وإذا اختلف أهل المسجد في اختيار أمام ، عمل على قول الأكثرين
وقال الغزالي : " الإمام من انعقدت له البيعة من الأكثر "
إن الديمقراطية الأوربية قد توصلت إلى أن السيادة للأمة في اختيار الحاكم ومحاسبته وعزله ، وذلك اكن بعد أكثر من عشرة قرون على هذه التشريعات الإسلامية والتي طبقها النبي –صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من بعده ، ولكن الديمقراطية الغربية تقضي بعد مسؤولية الحاكم سياسياً إذا كان الحكم جمهورياً ومساءلته جنائياً ولكن أمام محكمة خاصة ، وفي حالات الخيانة العظمى ، وتقضي هذه الديمقراطية بعدم مساءلته سياسياً وجنائياً إذا كان نظام الحكم ملكياً وذلك طبقاً لقاعدة : " حيث لا سلطة لا مسؤولية " .
وكل هذا مرفوض في ظل الشريعة الإسلامية ، فالحاكم كآحاد الناس ويحاكم أمام المحاكم التي يحاكم أمامها عامة الشعب ، ويسأل عن جميع الجرائم.
البيعة وتولية الحكام :
إن رئاسة الدولة في النظام الإسلامي – أياً كانت التسمية التي تطلق على رئيس الدولة – هذه الرئاسة تتم بعقد بين الأمة وبين الحاكم ، وينوب عن الأمة مجلس الشورى أو أهل الحل والعقد أو مجلس الأمة ، وهذا العقد يسمى البيعة .
ولهذا فإن للأمة أن تقيد هذا العقد بما تراه لازماً للمصلحة العامة ، فقد أورد البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : " كنا إذا بايعنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول لنا : "فيما استطعت" ، فلها أن تجعل مدة الرئاسة فترة واحدة أو فترتين فلا تكون الرئاسة طويلة الأمد أو مدى الحياة ، كما أنه يجوز للأمة أن تشترط على الحاكم أن يكون تشكيل الوزارة للحزب أو الجماعة التي تحصل على أغلبية أصوات الناخبين في انتخاب حر يشرف عليه القضاء إشرافاً مباشراً وكاملاً . والخلاصة : أن الحكم الإسلامي بالتعبير المعاصر حكم مدني ، وليس حكماً دينياً ، فالاحتكام فيه ليس لأمر غيبي يدعمه الحاكم أو عالم من علماء الدين ، فالاحتكام يكون للقرآن والسنة ، أي القانون المكتوب . ومهام رئيس الدولة أكثرها مهام مدنية ، وقد فصل بذلك الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية ، فعدد نحو عشر مهام دنيوية .
أما الاحتكام إلى القانون المكتوب فقد نزل القرآن بذلك على النبي –صلى الله عليه وسلم- وفيه : (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) ، وقال : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ... ). والأمور التي ليس فيها حكم من الله يجتهد فيها الحاكم طبقاً لقواعد الشورى والقواعد العامة في الكتاب والسنة ، والحاكم تنعقد له الولاية على الناس بعقد هو البيعة ، وهذا العقد يمكن أن يتضمنه دستور أو قانون يحدد الإجراءات والحقوق ، وعند الخلاف مع الحاكم فنصوص القرآن والسنة هي الفيصل في الحكم ، قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ).
وفي هذا سأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وكان خليفة للمسلمين : ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية ؟فقال علي بن أبي طالب : يأتي بأربعة شهود أو يجلد حد القذف ، شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين . ويؤكد ذلك الخليفة عمر بن الخطاب في رسالته إلى أميره أبي موسى الأشعري ، والي الكوفة ففيها : " يا أبا موسى ، إنما أنت واحد من الناس ، غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً .. إن من ولي من أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده " .
فالخليفة أو أمير المؤمنين أو رئيس الدولة أجير عند الأمة ، ويجب عليه نحوها ما يجب على الخادم نحو سيده ، أما في النظم البشرية فالرئيس ذاته لا تمس ولا يعاقب كآحاد الناس ، بل يملك العفو عن العقوبات أو تخفيضها ، وكل هذا لا يملكه رئيس الدولة في الإسلام ، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- : "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره" .
المنظمة الدولية
كشفت الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وما ترتب عليها من تقريب المسافات وازدياد الترابط بين الدول ، وظهور العديد من المشكلات التي لا يمكن مواجهتها إلا من خلال العمل الجماعي المنسق – كشفت هذه الثورة عن قصور قواعد القانون الدولي العام بوصفها قواعد تتفيأ تحقيق التعايش بين الدول بغض النظر عن اختلاف أنظمتها السياسية والاقتصادية ، وأبرزت الحاجة إلى تكوين هيئات ومنظمات دولية تتعاون من خلالها لحل ما يطرأ عليها من مشكلات تتعلق بكافة مجالات الحياة الدولية ، وتمثلت الصورة الأولى لهذه الهيئات في تجمعات دولية مؤقتة أو دائمة كالمؤتمرات الأوروبية التي كانت تعقد لحفظ توازن القوى بين الدول الأوروبية (مؤتمرات فيينا سنة 1815 ومؤتمرات باريس 1856 وبرلين 1868 ، 1872) ، ثم تطورت إلى اتحادات دولية إدارية يقوم كل منها على تنظيم التعاون بخصوص مرفق دولي معين كاتحاد التلغراف الدولي 1856 ، واتحاد البريد العالمي 1874 ، والمكتب الدولي للموازين والمقاييس 1883 ، ثم بلغ التطور ذروته بقيام منظمات دولية دائمة تتسع عضويتها لتضم العديد من الدول ويمتد اختصاصها ليشمل كافة مجالات الحياة الدولية ، ومثال ذلك عصبة الأمم المتحدة التي قامت سنة 1919 ، والأمم المتحدة التي تأسست سنة 1945 ، ونتيجة لنشأة المنظمات الدولية على هذا النحو ، وعدم ارتباط هذه النشأة بتأصيل فلسفي أو تنظير أيديولوجي لفكرة الحكومة العالمية ، ثار الخلاف حول تحديد المقصود بالمنظمة الدولية . وبصفة عامة يمكن تعريف المنظمة الدولية بأنها هيئة دولية تتفق مجموعة من الدول على إنشائها وتتمتع بإرادة ذاتية سواء في مواجهة المجتمع الدولي ، وتقوم على تحقيق مجموعة من الهداف والمصالح المشتركة ، وتباشر قدراً من السلطات والاختصاصات يقوم على تحديدها الميثاق المنشئ للمنظمة .
ويتضح من هذا التعرف أنه لقيام المنظمة الدولية يلزم توافر أربعة عناصر أساسية تتمثل في الصفة الدولية والميثاق المنشئ للمنظمة ، ومقتضى عنصر الصفة الدولية ، أن يكون أعضاء المنظمة الدولية دولاً مستقلة ذات سيادة تمييزاً للمنظمة الدولية عن المنظمة غير الحكومية التي لا تُخلق عن طريق اتفاق فيما بين الحكومات بل تقوم على تجمع أفراد أو هيئات خاصة أو عامة من دول مختلفة كالصليب الأحمر الدولي والاتحاد الدولي للغرف التجارية والاتحاد البرلماني الدولي ، ويُستثنى من شرط قَصْر العضوية في المنظمات الدولية الحكومية على الدولة المستقلة ذات السيادة ما تسمح به بعض المنظمات الدولية المتخصصة كاليونسكو ومنظمة الصحة العالمية من قبول عضوية بعض الأقاليم التي لا يتوافر لها وصف الدولة ، هذا فضلاً عن اتساع نطاق التمثيل لدى بعض المنظمات الدولية المتخصصة لتشمل مندوبين عن بعض الفئات الاجتماعية ، إلى جانب مندوبي الدول الأعضاء ، ومثال ذلك تمثيل فئة العمال وأصحاب الأعمال وحكومات الدول في مؤتمر منظمة العمل الدولية .
أما شرط الدوام أو الاستمرار فيقضي بأن تتمكن المنظمة الدولية بوصفها كياناً قانونياً مستقلاً – من أن تباشر الاختصاصات المنوطة بها بصفة مستمرة دائمة وهو ما يميز المنظمة الدولية عن المؤتمر الدولي الذي ينفض بمجرد الانتهاء من بحث الموضوع الذي انعقد من أجله .
ويقتضي تحقيق عنصر الاستمرار أن تتمتع المنظمة الدولية بقدر من التنظيم يتمثل في وجود عدد من الأجهزة التي تتولى مباشرة اختصاصات المنظمة وأن يكون بعض هذه الأجهزة أو أحدها في حالة تمكنه من الانعقاد في أية لحظة .
وأما عنصر الإرادة الذاتية فمؤداه تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية التي تخولها اكتساب الحقوق وتحمُل الواجبات ومباشرة التصرفات القانونية في حدود ما يقرره الميثاق المنشئ للمنظمة ، ويظهر أثر تمتع المنظمة الدولية بالإرادة الذاتية المستقلة عن إرادات الدول الأعضاء في جوانب عديدة أهمها تمتع القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية بالصفة الملزمة في مواجهة الدول الأعضاء بما فيها الدول التي اعترضت عليها ، وهذا ما يميز المنظمة الدولية عن المؤتمر الدولي الذي لا يتمتع بإرادة مستقلة عن إرادات الدول المشتركة فيه ، ولا تلزم القرارات الصادرة عنه سوى الدول التي وافقت عليها وفي حدود الشروط التي قررتها حال موافقتها عليها ، كذلك يترتب على تمتع المنظمة الدولية بإرادة ذاتية مستقلة ألا ينسب إليها من التصرفات إلا ما كان صادراً عنها بوصفها وحدة قانونية مستقلة عن إرادات أعضائها . ويأتي الميثاق المنشئ للمنظمة كعنصر من العناصر اللازمة لقيامها نتيجة اتحاد إرادات الدول الأعضاء ، وهو يتضمن المبادئ التي تقوم عليها المنظمة والهداف التي تنشد تحقيقها والسلطات التي تتمتع بها ، إذ تباشر الاختصاصات الموكولة إليها ، وكذا الأجهزة المكونة للمنظمة وأسلوب عملها وتنظيم العلاقات فيما بينها .
ويمكن تقسيم المنظمات الدولية من حيث العضوية والاختصاصات والسلطات إلى طوائف عديدة ، فمن حيث العضوية توجد منظمات دولية تكون العضوية فيها مفتوحة لكافة الدول الراغبة في الانضمام ما دامت قد توافرت الشروط التي يقررها ميثاق المنظمة في هذا الشأن ، ومثال ذلك عصبة الأمم المتحدة ، وهناك منظمات أخرى تكون العضوية فيها مقصورة على عدد محدود من الدول تتوافر في حقها صفات معينة كالجوار الجغرافي أو التضامن السياسي والاجتماعي ومثالها جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الأمريكية .
ومن حيث الاختصاصات تنقسم المنظمات الدولية إلى منظمات عامة تباشر اختصاصات بالنسبة لمختلف مجالات الحياة الدولية كعصبة الأمم والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ، وإلى منظمات متخصصة تباشر اختصاصاً بالنسبة لمجال معين من مجالات التعاون الدولي منظمة اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة .
أما بالنسبة لسلطات المنظمات الدولية فتوجد أنواع عديدة تختلف فيما بينها باختلاف السلطات الممنوحة لكل منها ضيقاً واتساعاً ، كثير من المنظمات الدولية تقف سلطاته عند حد جمع وتبادل المعلومات والقيام ببحوث ودراسات ومنها ما تمتد سلطاته إلى إصدار توصيات ليست لها صفة الإلزام القانوني في مواجهة المُخاطب بها إلا إذا قبلها صراحةً بالموافقة عليها أو ضمناً بالانصراف إلى تنفيذ مقتضاها ، ومثال ذلك التوصيات الصادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ومن المنظمات الدولية ما يملك سلطات إصدار قرارات قانونية ملزمة للدول الأعضاء بما فيها الدول التي اعترضت عليها كالقرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس الأمن في حالات تهديد السلم والأمن الدوليين ، ونادراً ما تتمتع المنظمات الدولية بسلطة الرقابة على الدول الأعضاء أو بسلطة اتخاذ إجراءات عسكرية حال وقوع تهديد للسلم أو إخلال به أو ارتكاب عمل من أعمال العدوان وكذلك ما تتمتع به المنظمات الدولية الأوروبية كالجماعة الأوروبية للفحم والصلب في مواجهة الدول الأعضاء من سلطات في النواحي التشريعية والتنفيذية والقضائية .
عصبة الأمم
تعتبر عصبة الأمم من أولى المنظمات الدولية العالمية التي أنشئت في العصر الحديث بهدف ضمان وكفالة تحقيق السلم والأمن الدوليين ، فقد جاء إنشاء هذه العصبة في إطار معاهدات صلح فرساي عام 1919 ، واستجابة لظروف ومعطيات عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ، واتساقاً مع مضمون المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأمريكي "ودرو ولسون" أمام مجلس الشيوخ والنواب الأمريكي في 8 يناير كانون ثان عام 1918 والتي أكد فيها ضرورة إنشاء عصبة عامة للأمم لترعى مصالح الدول جميعاً. وقد قامت العصبة رسمياً في 10 يناير كانون ثان عام 1920 وظلت تمارس عملها حتى 18 أبريل نيسان عام 1946 وهو تاريخ اليوم الذي اختتمت فيه جمعيتها العامة آخر جلسة لها ، وقد اتخذت العصبة من مدينة جنيف السويسرية مقراً لها ، وبعد تصفيتها صار هذا المقر هو المقر الأوروبي للأمم المتحدة . وعلى الرغم من أن عصبة الأمم قد قامت لتكون منظمة دولية عالمية الطابع ، فإنها لم تفلح في ذلك ، إذ بقيت طيلة الفترة القصيرة التي عاشتها منظمة دولية أوروبية في المقام الأول ، وقد عُزي ذلك إلى سببين رئيسيين ، الأول : إن غالبية الدول التي تُكوّن الآن ما يسمى بالعالم الثالث لم تكن قد استقلت في ذلك الوقت ، أما السبب الثاني : فيرجع إلى الانسحابات المتكررة للعديد من الدول التي سبق أن انضمت إلى العصبة ، فقد انسحبت البرازيل عام 1928 ، وانسحبت اليابان عام 1933 ، كما انسحبت إيطاليا عام 1937 ، وفُصل الاتحاد السوفييتي منها عام 1936 على إثر مهاجمته لفنلندا (كان الاتحاد السوفييتي قد قُبل عضواً بالعصبة عام 1934) .
وقد تكونت عصبة الأمم من ثلاثة أجهزة هي : مجلس العصبة ، الجمعية ، الأمانة، أما المحكمة الدائمة للعدل الدولي ومنظمة العمل الدولية فقد كانتا ، من الوجهة القانونية الدقيقة ، جهازين شبه مستقلين عن العصبة وإن ربطتهما بها علاقة جد وثيقة .
وقد تكونت الجمعية من جميع الأعضاء في العصبة ، وتطبيقاً لنص المادة (7/1) من العهد ، درجت الجمعية على عقد اجتماعها السنوي العادي في يوم الاثنين الثاني من شهر سبتمبر كم كل عام بمقر العصبة بمدينة جنيف ، وسمح لها بعقد دورات غير عادية بناء على طلب عضو أو أكثر وبعد موافقة أغلبية الأعضاء (وهذا ما حدث بالفعل عام 1926 بمناسبة قبول عضوية ألمانيا، وعام 1932 بمناسبة النزاع الصيني الياباني ، وعام 1939 على إثر مهاجمة الاتحاد السوفييتي لفنلندا ) .
وكان مبدأ الإجماع هو المبدأ الذي أخذت به الجمعية العامة للعصبة عند إصدار قراراتها وذلك فيما عدا بعض الاستثناءات القليلة التي كان يكتفى فيها بأغلبية الأعضاء الحاضرين والمشتركين في التصويت (المسائل الإجرائية ، القرارات المتعلقة بانتخاب الأعضاء غير الدائمين في مجلس العصبة حيث إنها كانت تصدر بأغلبية الثلثين) .
أما مجلس العصبة فقد كان يتكون من نوعين من الدول ، دول دائمة العضوية وشملت الدول الآتية : بريطانيا ، فرنسا ، إيطاليا ، اليابان والولايات المتحدة الأمريكية (رفض الكونجرس الأمريكي الموافقة على انضمام الولايات المتحدة إلى العصبة) ، ودول غير دائمة العضوية وعددها أربع يتم انتخابها لمدة ثلاث سنوات غير قابلة للتجديد الفوري، وفي بادئ الأمر كان عدد أعضاء المجلس 9 أعضاء منهم 5 دائمون (بما في ذلك الولايات المتحدة التي لم تنضم إلى العصبة كما سلف القول) و 4 غير دائمين ، إلا أنه سرعان ما ارتفع عدد الأعضاء غير الدائمين منذ عام 1922 إلى 6 أعضاء ، وقد قابل هذه الزيادة تناقص عدد الأعضاء الدائمين ، فإضافة إلى عدم تصديق الكونجرس الأمريكي على انضمام الولايات المتحدة للعصبة قررت كل من اليابان وإيطاليا الانسحاب منها بحيث لم يبق من الأعضاء الدائمين سوى بريطانيا وفرنسا .
وطبقاً لنص المادة (4/3) من عهد العصبة ، تقرر أن ينعقد المجلس كلما اقتضت الحاجة ذلك بشرط ألا يقل ذلك عن مرة واحدة كل عام ، وقد أدخل على هذا النص بعض التعديلات لمواكبة الظروف المستجدة ، وكما هي الحال بالنسبة للجمعية ، نص على أن يصدر المجلس قراراته بالإجماع فيما عدا بعض الاستثناءات التي يجوز فيها أن تصدر هذه القرارات بالأغلبية وقد تقرر أن يكون لكل دولة عضو بالمجلس مندوب واحد وصوت واحد ، مع ملاحظة أنه بالنسبة للمنازعات الدولية المعروضة أمام المجلس فإن من كان طرفاً فيها لا يُحتسب صوته .
وتعتبر الجمعية والمجلس الجاهزين اللذين أنيط بهما مسؤولية تحقيق أهداف العصبة ، ولذلك فقد كانت اختصاصاتهما متماثلة إلى حد كبير وعلى خلاف الحال بالنسبة للجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها ، وفقد قُسمت هذه الاختصاصات إلى ثلاثة : أولاً : كانت هناك اختصاصات ينفرد بمباشرتها كل جهاز من هذين الجهازين باستقلال كامل عن الجهاز الآخر ، كاختصاص مجلس العصبة بإعداد وصياغة مشاريع خفض التسليح ، وثانياً : كانت هناك اختصاصات مشتركة بين الجهازين معاً كالاختصاص المتعلق بانتخاب قضاة المحكمة الدائمة للعدل الدولي ، وثالثاً : كانت هناك طائفة الاختصاصات المتنافسة أو المشاعة التي يحق لأي من الجهازين مباشرتها ، وبشرط أنه إذا بادر جهاز منهما إلى ذلك امتنع على الجهاز الثاني أية خطوة بشأنها ، ومن ذلك – مثلاً – طرد الأعضاء من المنظمة واتخاذ التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين .
أما الأمانة العامة ، فكانت هي الجهاز الإداري للمنظمة ولذلك فقد أُنيطت بها مسؤولية تسيير العمل الإداري للعصبة ، وقد عملت الأمانة تحت إشراف رئيسها الأعلى (الأمين العام) ، وبمعاونة عدد من الموظفين الدوليين .
هذا عن أجهزة العصبة ، أما عن نشاطها وتقييمه فقد اختلفت بشأنه الآراء ، فقد ذهب الرأي الغالب في الفقه إلى القول بأن عصبة الأمم مَثَّلت تجربة فاشلة في نطاق التنظيم الدولي المعاصر ، ذلك لأنها أخفقت في التعامل الإيجابي مع قضايا ومشكلات العالم خلال فترة ما بين الحربين العالميتين ، فهي – مثلاً – لم تُفلح في منح احتلال اليابان للصين عام 1931 ، كما أنها لم تحل دون قيام ألمانيا باحتلال تشيكوسلوفاكيا أو احتلال إيطاليا للحبشة عام 1936 ، كما كان موقفها سلبياً إزاء الحرب الأهلية الأسبانية ، كذلك لم تستطع منع ألمانيا من تسليح نفسها بالمخالفة لنصوص معاهدة صلح فرساي التي حرمت عليها ذلك.
ومع ذلك ، فقد أمكن للعصبة أن تُسهم إيجابياً في حل بعض المشكلات الدولية محدودة الأهمية ، كالنزاع بين لتوانيا وبولندا حول مدينة فلنا ، وكذا النزاع بين السويد وفنلندا حول جزر آلاند
والواقع ، إن الكثير من أسباب إخفاق عصبة الأمم لا يكمن في نظامها القانوني بقدر ما يكمن في الظروف الدولية التي أحاطت بها وعاصرتها .
منظمة الأمم المتحدة
ترتب على إخفاق عصبة الأمم في منع قيام الحرب العالمية الثانية أو الحيلولة دون استمرارها ، اتجاه التفكير إلى إنشاء الأمم المتحدة كمنظمة عالمية دائمة تعمل أساساً على تجنب قيام حروب مقبلة وعلى إعادة تنظيم السلم والأمن الدوليين ، ودعم التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية بما يحقق هذا الهدف الأصيل . هذا ويمكن التمييز في إنشاء الأمم المتحدة بين مرحلتين أساسيتين ، أما المرحلة الأولى ، فقد تميزت بصدور مجموعة من التصريحات الدولية التي تدور حول الدعوة إلى إنشاء تنظيم دائم لحفظ اسلم والأمن والدوليين وأول هذه التصريحات هو تصريح الأطلنطي الذي صدر في 14 أغسطس آب عام 1941 عقب الاجتماع الذي ضم كلاً من الرئيس الأمريكي روزفلت وتشرشل رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ، وتضمن التصريح مجموعة من المبادئ لتنظيم وإدارة العلاقات الدولية ، كاحترام الشعوب في اختيار نظم الحكم التي ترتضيها وتحقيق التعاون الكامل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ، واحترام مبدأ حرية البحار ، وعد الاعتراف بالتوسع الإقليمي على حساب الغير ، واتفاق التغييرات الإقليمية مع إرادة السكان الذين يهمهم الأمر ، والمساواة بين جميع الدول في التجارة الدولية وفي الحصول على الموارد الأولية ، كما تضمن تصريح الأطلنطي إقامة تنظيم دولي دائم وفقاً للمبادئ سالفة الذكر ن يعمل على منع استخدام القوة في العلاقات الدولية ، مع نزع سلاح الدول مصدر التهديد لسلام البشرية وأمنها . وتلا صريح الأطلنطي تصريح واشنطن أو تصريح الأمم المتحدة الذي صدر في أول يناير كانون ثان عام 1942 موقعاً عليه من ست وعشرين دولة ، كما انضمت إليه بعد توقيعه إحدى وعشرون دولة ، وقد تضمن الاتفاق إنشاء تنظيم دولي يكفل احترام حقوق الإنسان وبصفة خاصة حق الشعوب في تقرير مصيرها وتأكيد استقلالها .
أما تصريح موسكو الصادر في 30 أكتوبر تشرين أول عام 1943 فقد التزمت فيه الدول الأربع الكبرى (الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي والصين) لأول مرة بطريقة واضحة وصريحة بإنشاء منظمة دولية عامة تكون مهمتها الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وفقاً لمبدأ المساواة فقي السيادة بين جميع الدول المحبة للسلام ، كما تضمن التصريح بعض المبادئ المهمة والخاصة ببعض الدول الأوروبية ومحاكمة مجرمي الحرب .
وأخيراً فقد صدر تصريح طهران في أو ديسمبر كانون أول عام 1943 وفقد أكد رؤساء الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي عدة أمور أهمها استمرار التعاون الإيجابي بين جميع الدول بعد انتهاء الحرب ، والعمل على تكوين تجمع عالمي يضم الشعوب الديمقراطية ، ولا شك أن التصريحات الدولية سالفة الذكر بما ساعدت عليه من بلورة وتحديد الخطوط الأساسية للتنظيم الدولي الجديد كانت بمثابة دعامة أساسية للمرحلة الثانية في إنشاء الأمم المتحدة وهي مرحلة المؤتمرات الدولية .
فقد انعقد مؤتمر دومبارتون اوكس في الفترة من 2 أغسطس إلى 28 سبتمبر بين الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي ثم انضمت الصين في الفترة من 29 إلى 17 أكتوبر وتمخض المؤتمر عن مجموعة من المقترحات التفصيلية بخصوص إقامة الأمم المتحدة منظمة دولية تقوم على حفظ السلم والأمن الدوليين ، وتحقيق التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتنسيق جهود الدول بما يحقق المصالح المشتركة ، وذلك وفقاً لمجموعة من المبادئ التي يتمثل أهمها في المساواة في السيادة بين الدول ، والامتناع عن استخدام القوة في العلاقات الدولية وفض المنازعات الدولية بالطرق السلمية وتنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية ، كما تضمنت المقترحات السابقة تكوين الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة من عدة فروع رئيسية هي :
جمعية عامة ومجلس أمن ، ومحكمة عدل دولية .
وفي الفترة من 4 إلى 11 فبراير شباط عام 1945 انعقد مؤتمر يالتا بين الرؤساء روزفلت وتشرشل وستالين ، وفيه تم تسوية بعض المسائل التي لن يتم الاتفاق بشأنها في دومبارتون اوكس كنظام التصويت في مجلس الأمن وتعيين الأقاليم التي ستخضع لنظام الوصاية ، واتفق المؤتمرون على اشتراط موافقة الدول الخمس الكبرى مجتمعة لصدور القرارات والتوصيات المتعلقة بمسائل موضوعية ، كما اتفقوا على إقامة نظام جديد للوصاية تخضع له الأقاليم التي خضعت لنظام الانتداب في عهد عصبة الأمم والأقاليم التي تختار الدول في نظام الوصاية بمحض إرادتها فضلاً عن أقاليم المستعمرات التي تقتطع من الدول المنهزمة في الحرب .
وأخيراً انعقد مؤتمر الأمم المتحدة للتنظيم الدولي بشأن فرانسيسكو في 25 أبريل نيسان عام 1945 ، وفيه تم إقرار معظم مقترحات دومبارتون اوكس ويالتا مع إدخال بعض التعديلات كالأخذ – فيما يتعلق بنظام التصويت في الجمعية العامة – بقاعدة أغلبية الثلثين عند التصويت على المسائل المهمة والأغلبية العادية في المسائل الأخرى ، وتم إقرار نطاق السريان الفعلي اعتباراً من 24 أكتوبر تشرين أول عام 1945 بعد إتمام إيداع التصديقات عليه لدى حكومة الولايات المتحدة من قبل الدول الخمس الكبرى وأغلبية الدول الأخرى (م: 110/3 من الميثاق) ، وتكونت اللجنة التحضيرية من كافة الدول الموقعة على الميثاق لبحث الترتيبات اللازمة لبدء قيام أجهزة الأمم المتحدة بمباشرة اختصاصاتها ، وعقدت الجمعية العامة أول دورة لها في لندن في 10 يناير كانون ثان عام 1946 وكان من بين ما قررته في تلك الدورة أن تكون مدينة نيويورك مقراً دائماً للأمم المتحدة ، بجانب المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف وهو المقر السابق لعصبة الأمم .
ويتكون ميثاق الأمم المتحدة من تسعة عشر فصلاً تتضمن مائة وإحدى عشر مادة ، وقد أتت ديباجة الميثاق مع مادته الأولى على بيان أهداف المنظمة والمتمثلة في حفظ السلم والأمن الدوليين ، وإنماء العلاقات الودية بين الدول ، وتحقيق التعاون الدولي لحل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وتعزيز احترام حقوق الإنسان أو جعل الأمم المتحدة مرجعاً لتنسيق أعمال الدولة وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة، وتبين المادة الثقافية – فضلاً عما ورد ببعض مواد الميثاق الأخرى – المبادئ الأساسية التي يتعين على منظمة الأمم المتحدة أن تسير على هديها ، إذ تعمل على تحقيق الأهداف سالفة الذكر ، وتتمثل هذه المبادئ في المساواة في السيادة بين الدول أو الامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية ، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق الرسمية ومعاونة الأمم المتحدة في الأعمال التي تتخذها وفقاً للميثاق بحسن نية وعدم تدخل الأمم المتحدة في المسائل المتعلقة بالاختصاص الداخلي للدول .
والعضوية في الأمم المتحدة بوصفها منظمة عالمية نوعان : عضوية أصلية تضم إحدى وخمسين دولة هي الدول التي شاركت في مؤتمر سان فرانسيكسو ووقعت ميثاق الأمم المتحدة وصدقت عليه ، والدول التي وقعت تصريح الأمم المتحد الصادر في أول يناير كانون ثان عام 1942 ، وعضوية بالانضمام ويتطلب لاكتسابها توافر شروط موضوعية وأخرى إجرائية ، أما الشروط الموضوعية فتنحصر في أن تكون الوحدة طالبة للانضمام إلى الأمم المتحدة دولة ، محبة للسلام تقبل تنفيذ الالتزامات ، وأما الشروط الإجرائية فتنحصر في صدور قرار من الجمعية العامة بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين والمشتركين في التصويت بناء على توصية إيجابية (بالقبول) من مجلس الأمن يوافق عليها تسعة أعضاء من بينهم الدول الخمس دائمة العضوية مجتمعة . وقد أكدت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري سنة 1948 أن الشروط الواردة في المادة (4/1) من الميثاق بخصوص شروط العضوية في المنطقة الدولية جاءت على سبيل الحصر ، مما يعني أن اختصاص كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن في هذا الشأن هو اختصاص مقيد بمراعاة هذه الشروط ، غير أن تقدير توافر الشروط المشار إليها في المادة (4/1) من عدمه هو أمر يدخل في نطاق السلطة التقديرية لشكل من الجهازين .
ومن حيث وقف العضوية في الأمم المتحدة أو فقدانها فقد نصت المادة الخامسة من الميثاق على أنه يجوز للجمعية العامة أن توقف أي عضو اتخذ مجلس الأمن قِبَله عملاً من أعمال المنع أو القمع عن مباشرة حقوق العضوية ومزاياها ، ويكون ذلك بناء على توصية مجلس الأمن ، ولمجلس الأمن لأن يرد لهذا العضو مباشرة تلك الحقوق والمزايا ، وتنص المادة السادسة من الميثاق على أنه إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة بناء على توصية مجلس الأمن .
وفيما يتعلق بالانسحاب من الأمم المتحدة فليس في نصوص الميثاق ما يشير إلى وجود هذا الحق رغبة من مؤسسة المنظمة الدولية في تهيئة أسباب الاستقرار والاستمرار لها ، وإن كانت الأعمال التحضيرية تكشف عن جواز مباشرة العضو هذا الحق حل قيام ظروف استثنائية تبرره ، وبالنسبة للفروع الرئيسية للأمم المتحدة فقد كانت مقترحات دومبارتون اوكس تتضمن إنشاء أربعة فروع رئيسية هي الجمعية العامة ، ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، والأمانة ، ثم رُئي في مؤتمر سان فرانسيسكو إضافة فرعين رئيسيين آخرين هما المجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية نظراً لأهمية التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ودوره في حفظ السلم والأمن الدوليين ، فصارت بذلك فروع الأمم المتحدة الرئيسية ستة فروع هي – طبقاً للمادة السابعة من الميثاق :
- جمعية عامة .
- مجلس أمن .
- مجلس اقتصادي واجتماعي .
- مجلس وصاية .
- محكمة عدل دولية وأمانة .
الجمعية العامة
تحتل الجمعية العامة مكانة مهمة داخل نظام الأمم المتحدة لشمول عضويتها جميع الدول الأعضاء في المنظمة الدولية ، واتساع نطاق اختصاصها لكافة الأهداف التي تقوم المنظمة الدولية على تحقيقها .
وتقوم العضوية في الجمعية العامة وكذا تمثيل الدول لديها على مبدأ المساواة التامة في السيادة دون تفرقة أو تمييز بين الدول أياً كانت كبرى أو صغرى ، فتتألف الجمعية العامة – وفقاً للمادة التاسعة – من جميع أعضاء الأمم المتحدة ، ويتم تمثيل كل دولة عضو داخل الجمعية بوفد لا يزيد على خمسة مندوبين ، مع حق كل دولة في أن تضم مجموعة من المستشارين والخبراء إلى وفدها كلما اقتضت الحاجة لذلك ، كما تسمح الجمعية العامة ، وبصفة خاصة منذ دورتها العادية لسنة 1974 – لحركات التحرير التي يعنيها المسائل المعروضة على الجمعية العامة بالاشتراك في أعمال لجان الجمعية وأجهزتها الفرعية والمؤتمرات التي تقوم الجمعية بالدعوة إليها ، وذلك دون أن يكون لها حق التصويت .
وفيما يتعلق بتنظيم عمل الجمعية العامة ، فهي جهاز غير دائم الانعقاد حيث تعقد دورة عادية سنوية تبدأ اعتباراً من الثلاثاء الثالث من شهر ديسمبر من كل عام ، كما تعقد الجمعية دورات خاصة أو غير عادية حسب ما تدعو إليه الحاجة ، وذلك بناء على طلب مجلس الأمن أو أغلبية أعضاء الأمم المتحدة، وفضلاً عن ذلك فإنه يجوز بمقتضى قرار الاتحاد من أجل السلم الصادر في 3 نوفمبر تشرين ثان سنة 1950 – دعوة الجمعية العامة إلى دورة استثنائية مُستعجلة في ظرف أربع وعشرين ساعة ، وبناء على طلب تسعة أعضاء من مجلس الأمن ليس من بينهم الأعضاء الدائمون ، أو أغلبية أعضاء الجمعية العامة ، مثالها الدورة التي عقدت عام 1956 لبحث العدوان الثلاثي على مصر.
ومن ناحية أخرى ، ونظراً لاتساع عضوية الجمعية العامة وشمول اختصاصها ، أنشأت الجمعية – بمقتضى المادة 22 من الميثاق – عدداً من اللجان الفرعية التي تساعد الجمعية على مباشرة وظائفها ، فتوجد سبع لجان دائمة تختص كل منها بموضوع محدد وهي اللجنة المختصة بمسائل السياسة والأمن ، واللجنة السياسية الخاصة ، ولجنة المسائل الاقتصادية والمالية ، ولجنة الوصاية والأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي ، ولجنة الشؤون الإدارية والميزانية ، واللجنة القانونية ، كما توجد لجنتان تختصان بمسائل إجرائية هما مكتب الجمعية العامة ومهمته تنسيق أعمال الجمعية العامة ولجنة وثائق الاعتماد ومهمتها التحقق من صحة أوراق اعتماد ممثلي الدول لدى الجمعية العامة .
وبجانب ذلك أنشأت الجمعية العامة مجموعة من لجان الخبرة كلجنة الاشتراكات واللجنة الاستشارية لشؤون الميزانية والإدارة ، هذا فضلاً عما قد تُنشئه الجمعية العامة من لجان مؤقتة تنتهي بتحقق الغرض منها كلجنة التوفيق في فلسطين واللجنة الاستشارية لجنوب غرب إفريقيا ، وفيما يتعلق بنظام التصويت داخل الجمعية العامة ، فإنه يعكس هو الآخر مبدأ المساواة بين الدول، فلكل دولة صوت واحد في الجمعية العامة (م181/1) وتُتخذ القرارات بأغلبية الثلثين بالنسبة للمسائل المهمة كفظ السِّلم والأمن الدوليين ، وانتخاب أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين ، وانتخاب أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي ، وقبول أعضاء جدد في الأمم المتحدة ن وانتخاب أعضاء مجلس الوصاية ، ووقف الأعضاء عن مباشرة حقوق العضوية والتمتع بمزاياها ، والمسائل المتعلقة بسير نظام الوصاية ، والمسائل الخاصة بالميزانية ، وفصل الأعضاء ، والدعوة إلى عقد مؤتمر لإعادة النظر في الميثاق ، وتعديل الميثاق ، أما القرارات والتوصيات المتعلقة بمسائل غير مهمة فتصدر بالأغلبية المطلقة .
أما فيما يتعلق باختصاصات وسلطات الجمعية العامة ، فهي تباشر اختصاصاً عاماً يشمل جميع المسائل التي تدخل في نطاق ميثاق الأمم المتحدة ، فلها أن تناقش أية مسألة أو أمر يدخل في نطاق هذا الميثاق أو يتصل بسلطات فرع من الفروع المنصوص عليها فيه أو بوظائفه ، كما أن لها أن توصي أعضاء الهيئة أو مجلس الأمن أو كليهما بما تراه في تلك المسائل والأمور . غير أنه تَردُ بعض القيود على مباشرة الجمعية العامة هذا الاختصاص العام وهي قيود تتعلق بمباشرة مجلس الأمن لاختصاصه في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين ، وبالقيد العام الوارد على اختصاصات المنظمة الدولية بالنسبة للاختصاص الداخلي للدول فليس للجمعية العامة أن تقدم أي توصية في شأن نزاع أو موقف يباشر مجلس الأمن بصدده الوظائف التي يُخولها له الميثاق ، إلا إذا طلب منها مجلس الأمن ذلك (م: 12/1) كما يتعين على الجمعية أن تُحيل أية مسألة تتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين ويكون من الضروري فيها القيام بعمل ما إلى مجلس المن قبل بحثها أو بعده .
أما من ناحية أخرى ، فإنه يُحظَر على الجمعية العامة اتخا�


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.