إذا سألت طفلاً أو مراهقاً أو شاباً عن قدوته، فستجده تائهاً وكأنه لا يعرف كيف يجيب، بل إن بعض الأطفال فى المرحلة الابتدائية أو الإعدادية لا يفقهون معنى القدوة من الأساس، ومن يجيب عن هذا التساؤل فستجده يقول لك اسم مغنى مهرجانات أو ممثل قام بدور بلطجى فى أحد المسلسلات، وهى العوامل التى أدت إلى هدم القدوة فى المجتمع. ومن المعروف أن القدوة هى المثل الأعلى أو الرمز، الذى يستطيع أن يؤثر فى الفرد، وبالتالى فى بناء مجتمع مثالى، وغياب هذه القدوة يؤدى إلى انفلات فى كثير من معايير المجتمع وأخلاقياته، وبالتالى تدميره وضياعه، فوجود القدوة قاعدة بناء مهمة فى تكوين الفرد، فهى التى نتخذها نموذجاً لأفعالنا وأقوالنا، وتحدد نوع ومسار حياتنا، بل وتشكل رؤيتنا ورسالتنا وأهدافنا فى الحياة. وكثير من الأفكار والقيم والسلوكيات تنتقل إلى الآخرين عن طريق القدوة، فالإنسان بطبعه ميال للتقليد والمحاكاة، ولا سيما فى مراحل حياته الأولى، ولذا يقول المختصون إن 70% من المهارات والمعلومات التى يكتسبها الطفل تكون من خلال التقليد والمحاكاة، ومن هنا ندرك أهمية القدوة إن كانت صالحة، وخطورتها إن لم تكن كذلك، وعل ما وصل إليه حال مجتمعنا من انهيار أخلاقى يعد اختفاء القدوة أحد أهم أسبابه. وتعلق الدكتورة ولاء شبانة، استشارى الصحة النفسية والخبير الأسرى على ذلك قائلة: إن هناك مفهوماً مغلوطاً فى المجتمع، يجعل الكثير من الأشخاص يتعاملون مع مبدأ القدوة بشكل خاطئ، لافتة إلى أن بعض المشاكل النفسية التى تظهر فى المجتمع سببها أن بعض الأمهات يقمن برعاية أطفالهن من مأكل وملبس والأب يقوم بجلب الأموال، وهنا يشعر الأب والأم أنهما فعلا ما عليهما تجاه أطفالهما، ثم يجدا أبناءهما لديهم انحرافات سلوكية، وهذا نتيجة للمفهوم الخاطئ للقدوة. وأوضحت أن القدوة تعنى الاقتداء، وتأتى من مواقف شخصية ومبادئ معينة تقود الأبناء إلى سمو أخلاقى، كما أن المعيار الحقيقى للقدوة يختلف من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر، موضحة أن القدوة تمثلها أشياء كثيرة سواء من داخل الأسرة أو خارجها، لافتة إلى أن الندية التى تظهر بين الأزواج تهدم القدوة، كما أن انتقاد الزوج لزوجته أمام الأبناء أو العكس بشكل مباشر أو بغير مباشر حتى إن كان فى مكالمة تليفونية يتسبب فى الكثير من المشاكل النفسية للأبناء ويمدهم بطاقة سلبية ويهدم القدوة فى المنزل. وأكدت أن التربية المتناقضة تهدم معيار القدوة فى المنزل، وتحقق التربية السلبية، موضحة أن التربية المتناقضة والتى تعنى أن يأمر أحد الوالدين الابن بفعل شىء، بينما يقوم الآخر بمنعه من فعله، أو أن أنهى الطفل عن فعل شىء ويرى والده يفعله مثل التدخين مثلاً، أو أن ينهى الأب ابنه عن السهر خارج المنزل وهو يسهر لأوقات متأخرة، مؤكدة أن التربية بالقدوة الحسنة شىء سهل جداً، ولكن الكثيرين لا يدركونها. وأكدت أن علم النفس يقول إن التربية بالمحاكاة، هى عدم إصدار أوامر ولكن علينا أن نقوم بالتصرف الصحيح لكى يأخذ الطفل نفس السلوك ويفعلون مثله تماماً، أو نقوم بالتصرف السلبى فيقوم الأطفال بمحاكاة هذا التصرف، ولذلك نجد ابن الأب المدخن يمسك القلم ويضعه فى فمه، مضيفة أن التربية بالمحاكاة شىء هام جداً لخلق القدوة الحسنة. كما أن عدم فكرة التحفيز عند فعل شىء جيد، وعدم تسليط الضوء عليها، مثل تسليط الأضوء على الأشياء السيئة التى يفعلها الطفل، تجعله يشعر بأن الأمرين مثل بعضهما، سواء فعل شىء جيد أو سلبى، ومن ثم يجعل الطفل ليس لديه القدرة على فعل الأشياء الجيدة. وأوضحت أن الأمر الثانى الذى يهدم القدوة الحسنة أمام أبنائنا، هى الدراما وما تقدمه من أدوار تصور البلطجى على أنه بطل ولديه توجه خير ولكن المجتمع هو من جعله ضحية، ومن ثم يصبح قدوة للكثيرين، كما أن الكوميديا السوداء والتى تتمثل فى برامج المقالب التى تقوم بدور مثير للضحك تساهم فى نشر السادية وتؤدى إلى هدم القدوة. كما أن انتقاد الدولة بشكل دائم يساهم فى هدم القدوة، نتيجة أن التربية الوطنية تهدف إلى حب الأسرة وحب الوطن، مضيفة أننا لدينا انحدار لمفهوم القدوة الصحيحة. وأضافت أن السوشيال ميديا تعتبر أحد عوامل هدم القدوة من خلال بث قواعد وقيم لا تتناسب مع المجتمع المصرى، مضيفة أن مفهوم الأسرة غير المستقرة كان بسبب انفصال الأبوين، ولكن اليوم تظهر الكثير من الأسر وكأنها مستقرة ظاهرياً، ولكن هناك خللًا داخل المنزل نتيجة انشغال كل شخص بعالمه من خلال الموبايل، والطفل أصبح مغترباً عن الأسرة، وبالتالى يأخذ القدوة من السوشيال ميديا التى أفسدت الكثير من الشباب بسبب عدم وجود رقابة عليها، مضيفة أن المجتمع بحاجة إلى التكاتف والرقابة على الأبناء حتى لا تقتصر قدوتهم على السوشيال ميديا أو أبطال أفلام ومسلسلات البلطجة. تغيير واضح فيما يرى الدكتور عبدالسلام عبدالله استاذ علم الأجتماع، أن هناك تغيراً واضحاً فى القيم والسلوك والآداب العامة، وهو ما أحدث هزة فى قيم المجتمع، وهو ما يستدعى وجود قدوة حقيقية، وتساءل الدكتور عبدالسلام عن القدوة التى يجب أن نقتدى بها، فهل هو المدرس الذى يعطى دروساً أو دكتور الجامعة الذى يحاضر وسط أعداد غفيرة أم الأب المطحون فى عمله؟ وأكد أننا اليوم جميعاً نبحث عن القدوة، ولكن أين القيم التى سوف نبنى عليها القدوة، مضيفاً أن الشباب اليوم ينظر إلى لاعبى كرة القدم ومطربى المهرجانات الذين لا يعرفون كتابة أسمائهم على أنهم قدوة، فى الوقت الذى ينظر فيه الطالب إلى أنه إذا تخرج فسيحصل على مبلغ زهيد آخر الشهر. وأوضح الدكتور عبدالسلام أن عوامل التنشئة الاجتماعية، يجب أن تكون مبنية على القدوة، قائلاً الأب قدوة والأم قدوة والأخ الأكبر قدوة، ولكن نحن نمر بهزة اجتماعية جعلت سلم القيم ينقلب، وأصبح من فوق تحت والعكس صحيح، وأصبح المجتمع يمر بتغيرات اقتصادية وإجتماعية ودينية ساهمت فى تفتت القدوة، مضيفاً إذا وضعنا قيماً ومبادئ وتقاليد وأعرافاً يسير بمقتضاها الناس سنصنع القدوة، ولكن إذا تركنا المسألة على ما هى عليه ستختفى القدوة أكثر وبالتالى ستزداد معدلات العنف. وأوضح أنه يجب التأكيد على وجود القيم والتقاليد، ففى الماضى كان الطفل يشب على كلمة عيب، ولكن اليوم اختفت تلك الكلمة، مضيفاً أننا فى مجتمع توجد فيه أزمة اقتصادية وتدنٍّ فى مستوى الثقافة، مضيفاً أن تدنى الثقافة ليس مرتبطاً بالمستوى المعيشى، حيث نجد رجلاً يستقل سيارة أحدث موديل يلقى القمامة منها فى الشارع، ويشاهده ابنه ويفعل مثله. وأضاف أنه قديماً كان لا أحد يجرؤ على معاكسة فتاة فى الشارع، واليوم وصلنا لحد قتلها إذا رفضت ذلك، كما أن غياب الوازع الدينى زاد من مشكلة تدنى القيم، مضيفاً أنه فى الماضى كان يأخذ الطلاب مادة الدين من أولى ابتدائى حتى يتخرج فى الجامعة، ولكن اليوم أصبح الدين غير مضاف للمجموع، قائلا إذا سألنا طالب ثانوى إذا فاتتك ركعة فى الصلاة ماذا تفعل، فستكون الإجابة لا أعلم، كما أن دور الأم التى تترك بناتها دون رقابة على تصرفاتهن أدى إلى غياب القدوة، مضيفا أن المرأة فى الوقت الحالى يقال أنها نصف المجتمع، ولكن من وجة نظر علم الأجتماع فالمرأة هى كل المجتمع، لكونها الأم التى تربى وتعلم وتدير شئون المنزل بل أنها تعتبر وزيرة المالية فى البيت. أمراض خطيرة والتقطت الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسى أطراف الحديث، مشيرة إلى أننا نعانى من أمراض اجتماعية خطيرة تسربت إلينا ببطء، ونفاجأ بنتائج هذه الفيروسات، لافتة إلى أن مهمة علم الاجتماع هى تحليل هذه الأمراض وتأثيراتها، وأكدت أن الطفل قديماً كان يتلقى قواعد التربية من والديه وبعدها عائلته الكبيرة الشارع، أما اليوم الذى أصبح فيه العالم قرية صغيرة، فأصبحت وسائل الإعلام أكثر نفوذاً تأثيراً خصوصاً أنها أصبحت فى المتناول لأغلب الفئات الاجتماعية، مما جعل التربية بالقدوة تصبح من الصعوبة بمكان، بعد أن كان الوالدان يؤثران فى الطفل والمدرس يؤثر فى طالب العلم. وأصبح الشباب والمراهقون يجدون مثلاً أعلى فى نماذج أخرى خارجية مثل الرياضيين والمغنين والممثلين والمتواصلين معهم عبر مواقع الإنترنت وخصوصاً مواقع التواصل الاجتماعى، وبالتالى أصبح المتلقون يقتدون بهؤلاء المؤثرين الجدد الذين يزاحمون الأسر والمؤسسات فى مهمتها التربوية، كما يؤثرون على أدائها فى غرس القيم والأخلاق الجميلة. وأكدت أنه من أجل تجاوز هذا الأمر يجب أولاً تفادى الحياد السلبى الذى يكون فيه الآباء والمربون متفرجين على الواقع الجديد، بل يجب أن يكونوا فاعلين ومؤثرين أكثر من الوسائل التى أصبحت تنافسهم فى التربية وتزاحمهم فى مهمتهم التربوية، والأمر يتعلق بالإرادة عند من يريد أن يكرس نموذجاً تربوياً مؤثراً مستوعباً لمتغيرات الواقع. وأكدت أن أمر هذا التأثير لا يقتصر على الوالدين والمدرسين بل يتجاوزهم إلى المثقفين وكل المؤثرين فى حياة المجتمع وكل من يريد له الخيرية والازدهار والرقى الأخلاقى والحضارى.