الأزمة حول تشكيل لجنة الدستور في مصر كانت متوقعة، فالمسار الخاطئ الذي سارت فيه الأمور بعد ثورة يناير، والإصرار على إجراء انتخابات البرلمان والرئيس قبل وضع الدستور، ورفض كل محاولات التوافق على مبادئ أساسية تطمئن كل الأطراف على مستقبل الدولة.. كل ذلك جعل كل خطوة على طريق الانتهاء من المرحلة الانتقالية تمثل أزمة.. الاستفتاء على التعديلات الدستورية وتحويله إلى «غزوة صناديق» على يد الإخوان والسلفيين كان أزمة. وانتخابات مجلس الشعب كان أزمة. ومجلس الشورى لم يشارك في انتخابه إلا 7 % من الناخبين. وانتخابات الرئاسة مازالت تمثل أزمة للجميع. وكل المؤشرات كانت تقول إن الأزمة الأهم ستكون عند تشكيل اللجنة التي ستقوم بوضع الدستور بسبب الخطأ الأساس الذي أعطى للبرلمان مسؤولية تشكليها وهو أمر مطعون عليه بعدم الدستورية من كل فقهاء الدستور في مصر. الأزمة لم تكن المفاجأة، ولكن المفاجأة كانت في الطريقة التي مارست بها الأغلبية البرلمانية مهمة تشكيل لجنة الدستور بصورة استفزت كل الأطراف، وأعلنت عن رغبة عارمة في الاستحواذ على كل شيء في مصر، بعد أن اتحدت صفوف كل الجماعات الإسلامية المتناحرة من الإخوان إلى السلفيين بتنوعاتهم المختلفة ليفرضوا رأيهم ويستولوا على أغلبية مقاعد اللجنة، ويستبعدوا فقهاء الدستور، ويعطوا رسالة لا لبس فيها بأنهم سيضعون الدستور كما يريدون، أو أن الدستور جاهز بالفعل وسيتم فرضه على الجميع بعد استكمال الإجراءات الشكلية! منطق الاستحواذ ولغة الاستعلاء، والانفراد بالقرار ثم فرضه على الجميع في قضية مهمة مثل وضع الدستور صدم باقي التيارات، وأدى لانسحابها من اللجنة، ووضع الإخوان والسلفيين في مواجهة صريحة مع باقي الأطراف السياسية. لكن ذلك لم يكن كل شيء، فأزمة الدستور كانت جزءاً من أزمة شاملة هي الأخطر منذ قيام ثورة يناير، حيث انفجر الصراع بين «الإخوان المسلمين» وبين المجلس العسكري بصورة عنيفة، وبدا أن شهر العسل القصير بين الفريقين بعد الثورة قد انتهى، وأن احتمالات الصدام تتزايد، وأن المستقبل القريب جداً حافل بكل الاحتمالات. «الإخوان المسلمون» الذين كانوا آخر من انضم لصفوف الثورة مع الجماعات السلفية، كانوا أيضاً أول من غادر الميادين وتفرغ لمحاولة وراثة النظام القديم. مستغلاً قدراته التنظيمية والمالية، ومشاعر التعاطف مع ضحية للنظام السابق ليحرز الأغلبية البرلمانية، بينما ترك المجلس العسكري المفتقد الخبرة السياسية يرتكب العديد من الأخطاء، ويقع في صدامات لم يكن لها ما يبررها مع شباب الثورة، ويبتعد عن القوى السياسية المدنية التي أحست بانحياز المجلس العسكري للإخوان المسلمين أو توافقه معهم ومع الجماعات السلفية على حساب الثورة، وربما أيضاً على حساب مدنية الدولة التي كان المجلس العسكري قد التزم بضمانها. مع اقتراب انتخابات الرئاسة بدأت اللعبة السياسية تأخذ منحى آخر. فالإخوان المسلمون أحسوا أنهم أمام فرصة قد لا تتكرر مطلقاً للسيطرة على مقاليد الأمور، خاصة مع تراجع شعبية المجلس العسكري واتساع الهوة بينه وبين شباب الثورة. ومع سيطرتهم على البرلمان بمجلسيه، ومع تشرذم باقي القوى على الساحة السياسية، والأهم من ذلك كله، مع حصولهم على مباركة الإدارة الأميركية التي أعلنت استعدادها الكامل للتعاون معهم والقبول بتوليهم السلطة بعد أن قدموا الضمانات الكفاية في الموضوعين اللذين تهتم بهما واشنطن: العلاقة مع إسرائيل وضمان استمرار المعاهدة معها، ثم الالتزام بالنظام الاقتصادي الذي يحقق المصالح الأميركية في المنطقة. مقابل ذلك، كانت لديهم المخاوف من انقلاب الموقف خاصة إذا تغير رأي واشنطن في الحركات الإسلامية في دول الربيع العربي، وإذا لم تنجح التجربة في إقناع الناس، وإذا حدث الصدام مع الجيش. ثم زادت المخاوف بعد تزايد احتمالات صدور حكم قضائي ببطلان انتخابات مجلسي الشعب والشورى. ومن هنا بدأ التغيير في تفكير الإخوان نحو الإسراع بالسيطرة على السلطة التنفيذية، سواء بإسقاط حكومة الجنزوري التي كانوا يؤيدونها حتى الشهر الماضي، أو بالدفع بمرشح للرئاسة بعد ان كانوا قد تعهدوا بعدم الترشح للمنصب، وبعد أن كانوا قد توافقوا مع المجلس العسكري على مرشح هو منصور حسن الذي انسحب أخيراً من المعركة بعد تخلي الإخوان عن تعهدهم . الصدام بين الإخوان والمجلس العسكري واقع لا محالة حتى لو تأجل في هذه المرحلة. والتأجيل لن يكون إلا لأن أياً من الفريقين يفتقد تأييد باقي الفرقاء في الساحة. والمعركة الدائرة حول لجنة الدستور هي فصل من هذا الصدام. والإخوان المسلمون لا يسعون فقط من خلال السيطرة على عملية كتابة الدستور لضمان السير نحو المزيد من «أسلمة» الدولة بمفهومهم، ولكن ان تكون في أيديهم أوراق للمساومة في الصراع على الحكم، فهم يريدون ان يكون في يدهم تحديد اختصاصات رئيس الدولة في النظام الجديد. وبالتالي يريدون ان يصلوا لصيغة تعطيهم رئاسة الوزراء مقابل التخلي عن رئاسة الدولة لمرشح ترضى عنه القيادة العسكرية. وهنا ينبغي الإشارة إلى أنه وسط التهديدات المتبادلة بين الجانبين في الفترة الماضية لم تنقطع المفاوضات. وكان هناك عرض بالشراكة في الحكومة بحيث تكون رئاستها للإخوان والوزارات السيادية والأساسية تابعة للمجلس العسكري. وكانت هناك ضغوط لكي يكون خيرت الشاطر نائباً للرئيس مع منصور حسن وتم رفض ذلك من المجلس العسكري. بل كان هناك عرض من الإخوان بتأييد ترشيح الجنزوري للرئاسة بشرط وجود الشاطر نائباً له، وتم رفضه أيضاً. النقطة المهمة التالية في حرص الإخوان على السيطرة على لجنة الدستور، هو ضمان ان تكون في الدستور الجديد مادة تسمح باستكمال مجلسي الشعب والشورى للمدة القانونية لهما، حتى لا يتم حل المجلسين بعد صدور الدستور، تجري انتخابات جديدة لا يعرفون ماذا ستكون نتيجتها! والمشهد الآن يبدو غاية في التعقيد، وكل الاحتمالات واردة بما فيها تأجيل انتخابات الرئاسة، أو الدخول في أزمة طويلة تعرقل عملية وضع الدستور أو إنهاء الفترة الانتقالية. لكن الحديث هنا عن تكرار سيناريو الصدام بين عبد الناصر والإخوان عام 1954 مستبعد لتغير الظروف. والحديث عن سيطرة كاملة للإخوان والسلفيين على مقاليد الأمور لا يعني إلا الصدام الذي يعرف الإسلاميون إنهم لن يكسبوه. المشكلة الحقيقية الآن هي تشرذم القوى المدنية واستنزاف قوى شباب الثورة. وكل شيء مرهون باستعادة الوحدة بين هذه القوى واستعادة روح الثورة التي تم اختطافها. والخوف الحقيقي هو من شارع أصابه الملل من المناورات السياسية، بينما تزداد معاناته يوماً بعد يوم! نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية