فى «سيرك مبارك القومى» تحدثنا عن نوع جديد من الاحتكار يمكن أن نسميه «احتكار دولة» ابتدعه النظام لكى يوفر على نفسه عناء الاحتكار القطاعى لكل ما يملأ جيوب الرئيس المخلوع وزعماء المافيا من مساعديه والمقربين إليه وبالمرة كروشهم التى لا تشبع من النهب والسلب المنظم، وهذا النوع من الاحتكار يتولى حصرياً إدارة موارد الدولة لحسابه ويحولها إلى سيرك كبير له فروع اقتصادية وسياسية واجتماعية كلها مجرد «نمر» تسلى المتفرجين وتبهرهم لكى تخفى الهدف الحقيقى وراءها وتشتيت الانتباه عما يقوم به حواة النظام من ألاعيب وحيل تنقل الذهب عبر القارات فى لمح البصر وتفتح الحسابات وتودع الأمال وتشترى العقارات بكلمة سر يهمس بها السحرة فى الهواء أو يختفى المعارضون دون أن يعرف أحد مصيرهم بإشارة أو نظرة.. أكثر من سيرك سياسى.. فروع «سيرك مبارك السياسى» بها مهرجون يقنعون بدور مضحك الملك لمن يجلس على كرسى الحكم ويبيعون «أبوهم عند أول محطة أتوبيس»، كما يقول عنهم الناس تصويراً لبشاعة ما يفعلون.. أفرز نظام مبارك انتهازيين يتنطعون على كل الموائد يجمعون الفتات من بقايا آبائهم الروحيين ويحصدون المزايا لأنفسهم ولأبنائهم من بعدهم وظائف وأراض. حققت ثورة يناير المستحيل وجعلت الفيل يرقص واهتزت مع رقص الفيل كل أشجار الجميز فى مصر المحروسة وأصبح الشعب هو السيد الذى يأمر فيطاع وينادى فيسمع نداؤه ويعترض فلا يجرؤ أحد على أن يتجاهل اعتراضه، وبدأ الحساب لمن خانوا الأمانة واغتصبوا الحقوق وداسوا على الكرامة وبدأت رحلة استرداد الحقوق وعودة محتويات مغارة «على بابا» من فيلات وقصور وأراض وأموال منهوبة وأرصدة مجمدة بعدها يعود من فعلوا بالشعب ذلك إلى الحضيض الذى أتوا منه ويجمع شملهم سجون تليق بهم قبل أن تجمعهم جهنم فى الآخرة بما ارتكبوه فى حق مصر وشعبها رغم أنف مهرجى السيرك ممن حاولوا تصويرهم على أنهم ملائكة وشهداء ومظلومون لم تخلق مصر إلا لكى يحكموها إلى الأبد ولم يخلق شعب مصر إلا لكى يدين لهم بالولاء والعرفان بالجميل.. لن تعود مصر بعد اليوم سيركاً يجرب فيه رئيسها أى بهلوانيات سياسية أو يدعى ملكيته لأى من أصولها وإنما أرض مفتوحة تحتضن أبناءها وتبوح لهم بأسرارها وتفيض عليهم بخيراتها تراقب أداءهم وتفخر بإنجازاتهم وأصبح الانفراد بالسلطة أمراً مستحيلاً وتاريخاً بغيضاً طوى شعب مصر صفحته إلى غير رجعة. أشعل «البرادعى» الشرارة الأولى للثورة، وحضر إلى مصر غير طامع فى منصب رسمى ولا جاه بعد أن نال من الاثنين قدراً عظيماً يليق بجهده وتميزه، ومن حقه أن يكمل المشوار أباً روحياً للثوار يضع خبرته تحت تصرفهم ويجمع شملهم ويوحد صفوفهم، «البرادعى» هو مدرب الأسود المتمكن الذى أخضع أسود «سيرك مبارك القومى» لإرادته وأدخلها الأقفاص بعد أن حصرها فى دائرة الثوار وسط ميدان اللعب وحول زئيرها الذى كان مدوياً إلى مواء قطط تتمسح فى الثوار تسترحم وتستعطف، وهو بانسحابه من سباق الرئآسة أكد بما لا يدع مجالاً للشك فى صدق نواياه وسلامة مقصده وطهارة أهدافه فى خدمة البلد الذى ولد به وافتخر بانتمائه إليه وأصبح أقوى بكثير من أى مرشح محتمل للرئآسة ولو ظل يمارس دوره محركاً للثوار ومركز التقاء لرؤاهم وتوجههم لصار بمن حوله من شباب الثورة أكبر مجلس استشارى غير رسمى فى التاريخ يلجأ نبض الشارع المصرى ويلعب دور الموصل الجيد لأحلام الناس. ولكى يختار الشعب نوابه لابد وأن تذوب كل الفوارق الطبقية والحزبية وأيديولوجية ويصبح المجلس المنتخب سداً منيعاً ضد أى محاولة لاختراق إرادة الشعب أو العبث بمقدراته أو الالتفاف حول الشرعية التى يستمد منها الحاكم سلطته.. نواب الشعب لابد وألا يروا أمامهم سوى هدف واحد يجمعهم ويسعون مجتمعين لكى يحققوه ويعتبرون ذلك شرفاً يتوج رؤوسهم ويعطر سيرتهم وهو «خدمة مصر» وأن يصدروا قانوناً بعمل أرفع وسام يمكن أن يناله مصرى فى العمل العام يسمى «خادم الشعب»، انتهى عهد السيرك السياسى التى تقسم فيه الأدوار بين أعضاء حزب واحد كان يحكم مصر، والأغلبية الكاسحة التى تمرر أو تلغى أو تعدل أى قانون، وأغلبية يسوقها زعيم بإشارة إصبع أو تحريك حاجب أو نظرة اشمئزاز أو استحسان، ونواب مرتزقة يستمتعون بدور البلطجى السياسى الذى يخيف المعارضة ويتوعدها بالشتائم أو برفع الأحذية، لم يعد مجلس الشعب سبوبة يرتزق منها خدام الحاكم يقودهم طبال يرتدى ثياب السياسى ويحركه آخرون بالريموت كونترول يقبلون إهانة وزير لهم وممارسته لمتعة التشفى فيهم وفى عجزهم عن مساءلته وأصبحت الحكومة كلها ورئيسها موضع مساءلة المجلس ومحاسبته على حسن إدارة موارد مصر.. الأغلبية العددية بالمجلس أصبحت فى اختبار صعب تقرر مستقبلها لعقود كثيرة قادمة فإما أن تثبت للناخبين أنها تقدر المسؤولية وتتحملها وسوف تنجح فى حمل أعباء التكليف، وإما أن تنكسر تحت ضغط تلك الأعباء فتقنع بالدور التقليدى الذى اعتادت عليه ولكن أصبح يزاحمها فيه خصوم أقوياء يقتحمون الملعب بقوة وإصرار قرباً أو بعداً عن المنهج الذى يؤمن به الأغلبية العددية التى لا تستطيع بحال أن تنفرد بقرار أو توزع أدواراً أو تمنح فرصاً.