المتابع لموقف المجموعات العلمانية في الثورات العربية، ومنها الثورة المصرية، يجد أن تلك المجموعات راهنت على الحماس الثوري، لدرجة جعلتها تندفع في حالة ثورية حماسية، وكأنها تريد تصدر المشهد الثوري، أو تريد تقديم نفسها بوصفها الممثلة الوحيدة للثورة. وكأنها تريد أن تكون نخبة الثورة، وهي من قبل تقدم نفسها بوصفها نخبة الثقافة والسياسة، مما يعني أن المجموعات العلمانية حاولت أن تجعل نفسها نخبة الثورة التي تقود الثورة وتحدد مسارها، بل وتحدد دستور النظام السياسي الجديد، بحكم شرعية تفترضها لنفسها، وهي شرعية النخبة، رغم أن النخبة غير مختارة ولا منتخبة شعبيا. وبهذا نفهم المعركة التي دارت في مصر بين النخبة العلمانية والنخبة العسكرية، حيث أرادت النخبة العلمانية تسلم القيادة الفعلية للمرحلة الانتقالية من النخبة العسكرية. وهو ما يعني أن النخبة العلمانية أرادت منافسة نخبة الدولة، أو أرادت أن تنزع السلطة من نخبة الدولة. ولكن عندما تحاول النخبة العلمانية تسلم القيادة من النخبة العسكرية، تكون قيادتها في الواقع ليست قائمة على سلطة تملكها أو تفويض شعبي تملكه، ولكن تكون سلطتها قائمة على تفويض منح لها من النخبة العسكرية، مما يجعل المانح في الموقف الأقوى. والنخبة العسكرية وافقت على التفاهم مع النخبة العلمانية، بل ووافقت على طلبات النخبة العلمانية الهادفة إلى حماية علمانية الدولة، تحت مسمى حماية مدنية الدولة، من خلال العديد من المحاولات لفرض مبادئ على واضعي الدستور، وقيود على عملية وضع الدستور الجديد، بحيث تصبح القوات المسلحة هي الحامية لكل ما فرض على عامة الناس، وبهذا تتشكل دولة مدنية حسب رؤية النخب العلمانية، وهي في الحقيقة دولة علمانية عسكرية. وكان من الواضح أن النخبة العسكرية، والتي تتمسك بالعنوان الإسلامي للدولة، تريد أيضا الحفاظ على الطابع العلماني للدولة في النظام الجديد، لأنها ترى أن هذا الطابع العلماني جزء من الأمن القومي المصري، القائم على سياسات قومية قطرية متحالفة مع القوى الغربية. وبهذا أصبح الجانب المشترك بين النخبة العسكرية والنخبة العلمانية ظاهرا ومؤكدا. فالدولة القائمة ذات طابع علماني ولو جزئيا، والنخب العلمانية تريد أن تحافظ على هذا الطابع العلماني الجزئي، بعدما أدركت أن تحويله إلى طابع علماني كامل مستحيل. ونخبة الدولة عامة تحاول الحفاظ على النظام القائم وعلى طبيعة الدولة، مما يعني أنها تريد ضمنا الحفاظ على الطابع العلماني للدولة. والأهم من ذلك، أن النخبة العلمانية يجمعها مع نخبة الدولة المدنية والعسكرية، الخصومة الحادة مع التيار الإسلامي، لأن كلاهما اشتبك في معركة ضد التيار الإسلامي زمن النظام السابق، وتحت مظلة اليد الغليظة للاستبداد. ورغم أن بعض النخب العلمانية كانت ترفض الإجراءات الاستثنائية ضد التيار الإسلامي، إلا أنها كانت تعتبره خطرا على علمانية الدولة، وبهذا كانت أغلب النخب العلمانية تقدم المبررات لما قام به النظام السابق ضد التيار الإسلامي، حتى وإن كان بعضها يعارض الإجراءات غير القانونية التي اتخذت بحق التيار الإسلامي. لذا فأسس التحالف بين النخبة العلمانية ونخبة الدولة قائمة، أما المزاحمة بينهما على السلطة أو الدور، فتحسمها نخبة الدولة في النهاية، لأنها التي تملك بالفعل السلطة وتسيطر على زمام الأمور، لذا فإن النخبة العلمانية مجبرة في النهاية على القبول بالدور الممنوح لها من نخبة الدولة، لأنها كلما نازعت نخبة الدولة في سلطتها، سوف تؤثر سلبا على قدرة نخبة الدولة على مواجهة التيار الإسلامي، مما يجعل التفاهم مع نخبة الدولة هو الحل الوحيد لصد التيار الإسلامي، بقوة الدولة العميقة، التي تمثل النظام الحاكم الفعلي لمصر، قبل الثورة ثم بعدها. وبهذا تفتح ممرات التحالف الأوسع للدولة العميقة من خلال التحالف مع النخبة العلمانية، وتمتد تلك التحالفات من خلال تحالف الدولة العميقة مع قوى غربية خارجية، وتحالف او تفاهم النخب العلمانية مع قوى غربية أو مؤسسات غربية، مما يجعل التحالف يتمدد بنفس ما كان موجودا في زمن النظام السابق. وبهذا يتم المحافظة على النظام الحاكم في جوهره، وليس المقصود الحفاظ على الفساد أو الاستبداد، ولكن المقصود هو الحفاظ على سياسات الدولة المصرية التي ترسخت زمن النظام السابق. لكن كل نظام يفرض على عامة الناس، لا يبقى بدون استبداد، وبهذا تصبح المواجهة مستمرة بين الدولة العميقة وبين عامة الناس، التي أصبحت لا تطلب التحرر فقط، بل تتمرد على هيمنة الدولة أيضا. وتستعيد النخب العلمانية نفس الدور الذي قام به بعضها على الأقل زمن النظام السابق، حيث كانت تتصدر المشهد السياسي والثقافي، وتعتمد على سلطة النخبة الحاكمة، لأن نخبة الحكم رفضت التنازل عن سلطتها للنخبة العلمانية، ورفضت أيضا اشراك تلك النخبة في السلطة والحكم. فظلت بعض النخب العلمانية تعتمد على سلطة الاستبداد، وتتحالف معه وتؤيده ضمنا أو صراحة، دون أن يسمح لها بالحكم. وهو ما يتكرر مرة أخرى مع نخبة الدولة، والتي تتحالف معها نخب علمانية، ولكن نخبة الدولة لا تتنازل عن سلطتها لأحد، بقدر ما تسمح لمن يتحالف معها، بأن يتصدر المشهد، ويتقلد المناصب. الأهم هنا هو ذلك التحالف المتنامي بين النخبة العلمانية ونخبة الدولة، والذي يجعل النخبة العلمانية تستند لأدوات نخبة الدولة لصد شعبية التيار الإسلامي، مما يجعل المعركة مع الدولة العميقة تصبح معركة مع النخبة العلمانية، ويجعل مصير النخبة العلمانية مرتبط بمصير الدولة العميقة في مصر، وفي أغلب دول الربيع العربي. الحكم للنخبة! المتابع لمسار تاريخ الدولة بعد التحرر من الاستعمار العسكري وقبل الثورة الشعبية، يلحظ أن أهم ما عانت منه تلك الدولة، هو فقدان القاعدة الشعبية، سواء القاعدة المؤيدة للدولة وطبيعتها ودورها، أو القاعدة المؤيدة للنظام الحاكم. وأهم ما يلفت النظر في تلك السياسة، أن الدولة حاولت بناء قاعدة من المؤيدين لسياستها، من خلال شرائح تستفيد من تلك السياسات، ولم تستطع الدولة ولا نظام الحكم بناء تيار سياسي مؤيد لمشروع وتوجه سياسي محدد. وفي نفس الوقت كانت الدولة تبني نخبة خاصة بها، وهي نخبة الدولة من جانب، والنخبة الثقافية والفكرية من جانب آخر، والأخيرة هي التي تصدرت المشهد الثقافي المصري، وغالبها كانت نخب علمانية. ومن خلال الشرائح المستفيدة من النظام، والنخب العلمانية المتحالفة مع الدولة، ونخبة الدولة المسيطرة، وشبكات المصالح، كانت تتم عملية تأمين بقاء النظام وحمايته. ولكن عندما تضاءلت الشرائح المجتمعية المنتفعة من النظام حتى تلاشت، لم يبقى إلا نخبة الدولة وشبكة رجال الأعمال المرتبطة بها، والنخب العلمانية المسيطرة على الإعلام والمجال الثقافي. ولم تكن تلك المجموعات كافية بالطبع لحماية النظام، لأن أغلبية المجتمع تحولت إلى ضحايا لنظام الحكم، فجاءت الثورة. ونفس المشكلة التي واجهت الدولة، في فترة ما بعد التحرر من الاستعمار العسكري، واجهت أيضا النخب العلمانية، فهذه النخب دخلت أحيانا في صراع مع الحكم، وتحالفت معه أحيانا أخرى، ثم أصبحت تتصدر المشهد السياسي والثقافي. والملاحظ أن النخب العلمانية لم تستطع بناء قاعدة شعبية لها، بل غلب عليها في النهاية الدخول في معركة مع التيار الإسلامي، كانت في أغلبها لصالح النظام الحاكم، فأصبحت النخب العلمانية متحالفة ضمنا مع النظام الحاكم، وتمرر سياساته ضد خصومه السياسيين في التيار الإسلامي، حتى وإن ظل بعضها يعارض النظام، ولكنه كان معارضة من داخل النظام، أي معارضة تحمي علمانية النظام، وتعارض استبداده وفساده. لكن النخب العلمانية لم تبني تيارا سياسيا في الشارع، بل اعتمدت أساسا على تأييد الشرائح الليبرالية والعلمانية في المجتمع، خاصة تلك الشرائح ذات المستوى الاقتصادي والاجتماعي المرتفع، وأيضا مالت النخب العلمانية إلى استقطاب المتخوفين من التيار الإسلامي، أو الشرائح التي يتم تخويفها من التيار الإسلامي وتشويه صورته لديها، حتى تؤيد الحل العلماني، رغم أنها لا تؤمن بأفكار الحل العلماني. ومن هذه الشرائح، نجد مسيحي مصر، لأن الفئات الأقل عددا تكون الأكثر تأثرا بما يشاع من مخاوف، خاصة وأن دور التيار الإسلامي يثير المخاوف من تأثير الاختلاف في الدين على وضعية الفئة الأقل عددا والمختلفة في الدين. وبهذا تشكل قبل الثورة تحالف من الشرائح المتخوفة من التيار الإسلامي والشرائح ذات التوجه العلماني الليبرالي، لتمثل معا قاعدة شعبية للنخبة العلمانية، ولكنها قاعدة شعبية محدودة. الدولة في عهد النظام السابق، اعتمدت على نفس الشرائح، لتقدم نفسها مدافعة عن الشرائح الرافضة للتيار الإسلامي والمتخوفة منه، وتقدم نفسها بوصفها معبرة عن التوجه العلماني ضمنا وليس صراحة، مثلها مثل النخب العلمانية التي تدافع عن العلمانية ضمنا وليس صراحة. وبهذا أصبحت القاعدة الشعبية المساندة للنظام السابق نسبيا، هي نفسها القاعدة الشعبية المساندة للنخبة العلمانية. وبهذا أصبح التحالف بين النخب العلمانية والدولة القائمة، إن لم يكن تحالف مباشر، فهو تحالف ضمني، بسبب تشابه السياسات التي يحملها الطرفان. وهذا ما يفسر لنا المشهد بعد الثورة، فقد سقط الاستبداد والفساد، وبالتالي سقط الجزء القبيح من النظام، وبقيت الدولة التي تقوم على السياسات العلمانية القومية، والنخب العلمانية التي تؤيد نفس السياسات، والقاعدة الشعبية المشكلة من الشرائح العلمانية التوجه، أو الشرائح المتخوفة من التيار الإسلامي. ولكن مشكلة هذه القاعدة في محدوديتها، فهي لا تكفي لبناء قاعدة شعبية لنظام سياسي أو دولة، حيث أن النظام السياسي القائم على الاختيار الحر للإرادة الشعبية، يقوم أساسا على خيارات تيار الأغلبية السائد في المجتمع، وليس شرائح الأقلية. مما يعني أن بعد الثورة أصبحنا أمام دولة قائمة ونخب علمانية، لهم قاعدة شعبية مشتركة وتوجهات مشتركة، ولكن تلك القاعدة ليست كافية لبناء توجه سياسي مستقبلي من خلال انتخابات حرة ونزيهة، لأنها تمثل الأقلية. وهنا تبرز مشكلة النخبة العلمانية، والتي ترى أنها نخبة لها حق قيادة المجتمع، وأنها تمثل العقل المفكر للمجتمع، فتحاول النخبة أن تقوم بدور بغض النظر عن التأييد الشعبي المتاح لها، فلا تجد سندا يجعلها تقود عملية بناء النظام السياسي الجديد بعد الثورة، إلا باللجوء إلى التحالف مع نخبة الدولة، خاصة النخبة العسكرية للدولة. لكن بقاء هذه الصيغة يصطدم بحقيقة التحول الديمقراطي، فمع تدوير السلطة، ومع وصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة، ومع ما يحدث من مواجهة بينها وبين نخبة الدولة، وما يمكن أن يحدث من تغيير في نخبة الدولة نفسها، تصبح الدولة كلها معرضة للتغيير، مما يعني أن الدولة إذا تغيرت لن تصبح ملاذا آمنا للنخبة العلمانية، مما يجعل النخب العلمانية تعمل في النهاية على الحفاظ على الدولة القائمة، حتى يظل لها دورها السياسي والثقافي، والذي يفتقد للتأييد الشعبي الكافي. مما يعني أن النخبة العلمانية ونخبة الدولة يواجهان معركة واحدة، من أجل بقاء ما لهم من سلطة. الإعلام سلاح ما بعد الثورة من الواضح أن النخبة العلمانية ونخبة رجال الأعمال، قد اختارت طريق شن حرب إعلامية على التيار الإسلامي بعد الثورة، بعد أن أصبح استخدام أدوات الأمن من قبل الدولة مستحيل. ولهذا أصبح الإعلام هو السلاح الأول في المعركة، والذي تحاول من خلاله النخبة العلمانية، بل ونخبة الدولة أيضا، تشويه مؤسسات التيار الإسلامي ورموزه، حتى ينفض الناس من حولهم. ولهذا بدت الحرب الإعلامية على التيار الإسلامي تتجاوز كل حدود الموضوعية، لتصبح حربا إعلامية تهدف للتشويه فقط. ولكن تلك الحرب لم تكن تختلف كثيرا عن الحرب التي شنها النظام السابق على التيار الإسلامي، ورغم أن الحرب الإعلامية الممتدة عبر العقود فشلت في تحقيق تأثير كبير، وظل تأثيرها محدودا، إلا أن النخب العلمانية لم تملك سلاحا آخر، لذا مالت إلى تجريب المجرب. ولكن تظل المعركة الإعلامية ذات أثر محدود في الواقع، لأن تشويه أي حركة إسلامية، حتى إذا نجح نسبيا، لن يغير من حقيقة انتماء أغلبية المجتمع للتيار الإسلامي، فالتوجه الإسلامي هو خيار مجتمعي، ولا يمكن لأي عملية تشويه بحق الحركات الإسلامية، أن تلحق بالمشروع الإسلامي نفسه، لأنه خيار عامة الناس. مما يعني أن الحرب الإعلامية في النهاية، ليست هي الحرب الحاسمة، بل هي في الواقع حرب قد تؤدي إلى أثر عكسي، لأن عامة الناس لها موقف حذر من النخبة عامة، سواء النخبة العلمانية أو نخبة الدولة، وتراهم جزءا من النظام السابق، مما يجعل الإعلام يبدو في النهاية جزءا من النظام السابق، خاصة مع حربه على التيار الإسلامي، وهو ما يحد أصلا من أثر الإعلام العلماني على عامة الناس، أي على التيار الإسلامي السائد في المجتمع، وإن ظل الإعلام مؤثرا على الشرائح المتخوفة من التيار الإسلامي، ويحاول أن يحتفظ بها كمؤيد دائم للنخبة العلمانية، ويحاول توسيع تلك الشرائح، ولكن مع أي نجاح يحققه، تظل القاعدة الشعبية المؤيدة للتوجه العلماني ممثلة لأقلية داخل المجتمع. لكن التشويه الإعلامي قد يؤدي إلى اقناع جزء من عامة الناس بفشل أحزاب التيار الإسلامي، وعدم قدرتها على تلبية مطالبهم، حتى يميل عامة الناس لاختيار رموز نخبة الدولة أو النخب العلمانية، على أساس أنهم الأقدر على تحقيق مطالب الشعب. وبهذا يتم جذب عامة الناس مؤقتا لتأييد نخب لها توجهات ضد توجهات عامة الناس، حتى يكتشف عامة الناس ذلك. معركة العلمانية مع الإرادة الشعبية لهذا يصبح التحالف بين نخبة الدولة والنخبة العلمانية أمرا لا مفر منه، مما يؤدي إلى استخدام أدوات الدولة لاختراق وتقييد التحول الديمقراطي. وهو ما يدفع في الواقع للبحث عن الحليف الغربي، مما يعقد الصورة أكثر، ويجعل نخبة الدولة والنخبة العلمانية تندفع في مسار استعادة النظام السابق، وسياساته العلمانية القومية، ولأن هذه السياسات ضد الإرادة الشعبية، يصبح من الضروري تقييد تلك الإرادة، وهو ما يحتاج لبناء ديمقراطية مقيدة، تقوم على الاستبداد الناعم، أي الاستبداد الذي يعتمد على الإعلام والمال والدعم الغربي والسيطرة على أدوات الدولة، واستخدام أدوات القانون والبيروقراطية، وربما دفع الغرب لفرض حصار اقتصادي غير مباشر، حتى يمكن تقييد حرية الشعب، من خلال تخويفه من اختياراته الحرة. ولكن هذه الاستراتيجية تعيد عجلة التاريخ للوراء، لذا فإن نجاحها يظل مؤقتا. وما تقوم به النخبة العلمانية يؤدي إلى تعرجات، تجعل منحى التغيير يهبط مرات عدة، وهو ما يحدث أيضا بسبب مقاومة نخبة الدولة للتغيير. لذا يبدو مسار التغيير في مصر خاصة بطيئا، لأن القوى الدافعة لوقف مسيرة التحول الحر التي تقودها الإرادة الشعبية، تؤدي إلى عرقة المسار. مما جعل الخروج من المرحلة أو المراحل الانتقالية في مصر، والوصول إلى مرحلة الاستقرار أمرا صعبا، لأن في مرحلة ما بعد الاستقرار والتحرر الكامل للإرادة الشعبية، لن يكون لأحد سلطة إلا الإرادة الشعبية الحرة. أما في كل المراحل السابقة على مرحلة الاستقرار السياسي والاقتصادي، فإن الفرصة لا تزال متاحة لتغيير مسار التحولات السياسية للوصول إلى ديمقراطية مقيدة، أو ديمقراطية نخبوية، وليست شعبية. والعامل الحاسم في تلك المعركة هي اللحظات التي تشهد ارتدادات شعبية، تجاه ما يحدث من محاولات لتقييد الإرادة الشعبية الحرة. وتلك الارتدادات تتمثل أساسا في الرد الشعبي على محاولات عرقلة مسيرة التحول الديمقراطي الكامل والحر. وهي تظهر في السلوك الشعبي الجماعي، كما في المشاركة في الانتخابات، والتي تظهر التيار السائد والغالب في المجتمع. لأن خيارات تيار الأغلبية في المجتمع، تردع كل القوى، وترسل رسالة تحذير لكل من يتصور أن عامة الناس يمكن أن تقبل ديمقراطية بالإنابة، تصبح فيها النخبة مفوضة تفويضا مطلقا من الناس. هل التحالف الإسلامي هو الرد؟ ولعل من أهم نتائج التحالف العلماني، خاصة تحالف نخبة الدولة والنخبة العلمانية، أنه يؤدي في النهاية إلى تجاوز التيار الإسلامي لأسباب الفرقة الداخلية، مما يدفعه للعمل المشترك، والتحالف بين فصائله المختلفة. فالكثير من الجهات، ومنها الدول الغربية والنخب العلمانية بل ونخبة الدولة نفسها، تراهن على شق الصف الإسلامي، واشعال المعارك الداخلية بين فصائله، حتى يتم استنزافه. وبعد الثورة مثل قبلها، تعمل العديد من الجهات على منع حدوث تحالف إسلامي واسع، ولكن المعركة التي تشن من النخبة العلمانية ونخب الدولة، تجعل كل فصائل التيار الإسلامي في مرمى النيران، بل وتجعل المشروع الإسلامي نفسه في مرمى النيران، مما يؤدي إلى بناء تحالف بين فصائل التيار الإسلامي، ويؤدي أيضا إلى تماسك هذا التحالف، وتجاوز الاختلافات بين فصائل التيار الإسلامي، كما يؤدي إلى تماسك داخل جماهير التيار الإسلامي، لوجود عدو مشترك يهدد الجميع، ويحارب الجميع. مما يعني أن العمل من أجل تفريق فصائل التيار الإسلامي ينجح نسبيا ولكن مؤقتا، مثل الحروب الإعلامية التي تنجح نسبيا ولكن مؤقتا، حتى تظهر نتائج سياسات نخبة الدولة والنخب العلمانية على أرض الواقع، مما ينهي حالة الفرقة بين فصائل التيار الإسلامي، وينهي كذلك تأثير الحروب الإعلامية على عامة الناس. ولكن تلك الحالة قابلة للتكرار، مما يجعلها جزءا من المسار المتعرج الصاعد، فتعود فصائل التيار الإسلامي للخلاف من جديد، ويتأثر جزء من عامة الناس بالحرب الإعلامية مرة أخرى، حتى يستقيم مسار الوعي الجمعي لعامة الناس، بما فيه جماهير وفصائل التيار الإسلامي، ويصبح الوعي الجمعي يملك القدرة على مواجهة مخططات نخبة الدولة والنخب العلمانية.