عاجل- بورصة الدواجن: 89 جنيها سعر كيلو الفراخ اليوم الخميس    عضو الأهلي السابق: طفشت أمونيكي من الزمالك بعرض خارجي كان بيعكنن على الأهلاوية    وزارة الحج والعمرة تطالب ضيوف الرحمن بضرورة حمل بطاقة نسك في كل خطوات رحلة الحج    طيران الاحتلال يقصف مناطق عسكرية ل«حزب الله» (فيديو)    حريق هائل يلتهم مصفاة نفط على طريق أربيل بالعراق    انخفاض أسعار النفط بعد مفاجأة المركزي الأمريكي بشأن الفائدة    موعد مباراة الأهلي المقبلة أمام فاركو في الدوري المصري والقناة الناقلة    طائرات مسيرة تطلق النار على المنازل في حي الشجاعية والزيتون بمدينة غزة    توقعات المركز الوطني للأرصاد السعودي: هذه حالة طقس مكة المكرمة والمشاعر المقدسة اليوم الخميس    ضربات أمريكية بريطانية على مجمع حكومي وإذاعة للحوثيين قرب صنعاء، ووقوع إصابات    قرار عاجل من فيفا في قضية «الشيبي».. مفاجأة لاتحاد الكرة    يورو 2024| أغلى لاعب في كل منتخب ببطولة الأمم الأوروبية    بريطانيا تقدم حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا بقيمة 309 ملايين دولار    انتعاش تجارة الأضاحي في مصر ينعش ركود الأسوق    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: جحيم تحت الشمس ودرجة الحرارة «استثنائية».. مفاجأة في حيثيات رفع اسم «أبو تريكة» وآخرين من قوائم الإرهاب (مستندات)    متى موعد عيد الأضحى 2024/1445 وكم عدد أيام الإجازة في الدول العربية؟    حظك اليوم برج الأسد الخميس 13-6-2024 مهنيا وعاطفيا    لأول مرة.. هشام عاشور يكشف سبب انفصاله عن نيللي كريم: «هتفضل حبيبتي»    محمد ياسين يكتب: شرخ الهضبة    حامد عز الدين يكتب: لا عذاب ولا ثواب بلا حساب!    عقوبات صارمة.. ما مصير أصحاب تأشيرات الحج غير النظامية؟    الوكيل: تركيب مصيدة قلب مفاعل الوحدة النووية ال3 و4 بالضبعة في 6 أكتوبر و19 نوفمبر    عيد الأضحى 2024.. هل يجوز التوكيل في ذبح الأضحية؟    تصل ل«9 أيام متتابعة» مدفوعة الأجر.. موعد إجازة عيد الأضحى 2024    مفاجأة مدوية.. دواء لإعادة نمو أسنان الإنسان من جديد    في موسم الامتحانات| 7 وصايا لتغذية طلاب الثانوية العامة    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف أحمد الشناوي.. طريقة عمل اللحم المُبهر بالأرز    محمد عبد الجليل: أتمنى أن يتعاقد الأهلي مع هذا اللاعب    المجازر تفتح أبوابها مجانا للأضاحي.. تحذيرات من الذبح في الشوارع وأمام البيوت    هل يقبل حج محتكرى السلع؟ عالمة أزهرية تفجر مفاجأة    التليفزيون هذا المساء.. الأرصاد تحذر: الخميس والجمعة والسبت ذروة الموجة الحارة    شاهد مهرجان «القاضية» من فيلم «ولاد رزق 3» (فيديو)    حزب الله ينفذ 19 عملية نوعية ضد إسرائيل ومئات الصواريخ تسقط على شمالها    أبرزها المكملات.. 4 أشياء تزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان    مؤتمر نصف الكرة الجنوبي يواصل اجتماعته لليوم الثاني    24 صورة من عقد قران الفنانة سلمى أبو ضيف وعريسها    الأعلى للإعلام: تقنين أوضاع المنصات الرقمية والفضائية المشفرة وفقاً للمعايير الدولية    بنك "بريكس" فى مصر    لماذا امتنعت مصر عن شراء القمح الروسي في مناقصتين متتاليتين؟    صدمة قطار.. إصابة شخص أثناء عبور شريط السكة الحديد فى أسوان    .. وشهد شاهد من أهلها «الشيخ الغزالي»    التعليم العالى المصرى.. بين الإتاحة والازدواجية (2)    حازم عمر ل«الشاهد»: 25 يناير كانت متوقعة وكنت أميل إلى التسليم الهادئ للسلطة    محمد الباز ل«كل الزوايا»: هناك خلل في متابعة بالتغيير الحكومي بالذهنية العامة وليس الإعلام فقط    هاني سري الدين: تنسيقية شباب الأحزاب عمل مؤسسي جامع وتتميز بالتنوع    سعر السبيكة الذهب الآن وعيار 21 اليوم الخميس 13 يونيو 2024    مدحت صالح يمتع حضور حفل صوت السينما بمجموعة من أغانى الأفلام الكلاسيكية    أستاذ تراث: "العيد فى مصر حاجة تانية وتراثنا ظاهر فى عاداتنا وتقاليدنا"    الأهلي يكشف حقيقة مكافآت كأس العالم للأندية 2025    الداخلية تكشف حقيقة تعدي جزار على شخص في الهرم وإصابته    اليوم.. النطق بالحكم على 16 متهمًا لاتهامهم بتهريب المهاجرين إلى أمريكا    انتشال جثمان طفل غرق في ترعة بالمنيا    مهيب عبد الهادي: أزمة إيقاف رمضان صبحي «هتعدي على خير» واللاعب جدد عقده    «الأهلي» يزف نبأ سارًا قبل مباراة الزمالك المقبلة في الدوري المصري    بعد ارتفاعه في 9 بنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 13 يونيو 2024    «رئيس الأركان» يشهد المرحلة الرئيسية ل«مشروع مراكز القيادة»    فلسطين تعرب عن تعازيها ومواساتها لدولة الكويت الشقيقة في ضحايا حريق المنقف    قبل عيد الأضحى.. طريقة تحضير وجبة اقتصادية ولذيذة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلوم الاجتماعية وإشكالية التحيز
نشر في التغيير يوم 09 - 01 - 2012

من التراث الفكري للمفكر الراحل الكبير الأستاذ عادل حسين، رحمه الله
يبدو أننا بدأنا –على المستوى الفكري والنظري– مرحلة من المراجعة النقدية لمفاهيمنا ومواقفنا التقليدية، ويبدو أن كثافة التحولات التي شهدتها منطقتنا في العقود الأخيرة كانت حافزاً أساسياً في هذا الاتجاه، ومن ناحية أخرى حدث داخل العلوم الاجتماعية نفسها (كمجال معرفي) أن مرت مرحلة كافية من الاعتماد على النظريات الجاهزة بحيث تجمع لدى باحثينا عبر الممارسة عدد من الملاحظات النقدية. ويلاحظ أن هذه اللحظة عندنا تتوافق مع لحظة أزمة ومراجعة داخل الفكر الغربي نسفه. ولكن أرجو ألا يعني هذا أن نغرق في متابعة مختلف الإرهاصات التي تصدر عندهم في محاولة لتجاوز أزمتهم، إذ ينبغي أن نتنبه إلي أننا نشعر بالأزمة لأسباب نستقل بها، وفي ضوء ممارستنا الخاصة.
وأغلب ما أطرحه هو مجرد نتائج لا يتسع المجال للأسف لتسجيل حيثياتها كلها، فلست بصدد عرض نظرية متكاملة، وغاية من أطمح إليه في هذا البحث هو تعميق إدراكنا لخطورة التبعية في مجال " العلوم الاجتماعية " نظراً لما تحمله في مفاهيمها وأسسها من تحيز وإرساء قبول مبدئي بمشروعية الاستقلال النظري في هذا المجال، ويتطلب الأمر توضيح بعض النقاط:
1- العلوم الاجتماعية غير العلوم الطبيعية :
اهتمامنا بما يسمى "العلوم الاجتماعية" لا ينشأ – كما نعلم – عن مجرد الاستمتاع بإجراء تمرينات ذهنية في إنشاء نماذج رياضية أو غير رياضية. ولكن ينشأ الاهتمام عن أهمية أن نفهم المجتمع – الأُمة على أفضل نحو ممكن بهدف تحسين إدارته، ومضمون هذا التحسين ينعكس – في التحليل الأخير – في زيادة درجة التوازن والرضا التي يشعر بها أفراد المجتمع – الأُمة، وفي تكامل العلاقات داخل هذا المركَب ويتطلب هذا نوعاً ما ودرجة ما من الصراع، وكافة ما نتوصل إليه من أساليب بحثية أو مفاهيم وتركيبات نظرية مسخر لهذه الغاية، وينبغي أن نعدُل ونصحح في أساليبنا ومفاهيمنا كلما تطلب المعرفة الصحيحة ذلك. وهذه المهمة لم تتوقف المجتمعات البشرية عن أدائها منذ وجدت، وفي هذه العملية استخدم المنهج العلمي ( صراحة أو ضمنَا ) لاستخلاص النتائج من التجارب التاريخية، ثم تمَ تركيب مفاهيم وتصورات نظرية من هذه التجارب، وقليل من هذا التراث مكتوب ( جمهورية أفلاطون مثلاً )، وكثير منه لم يُحفظ لأنه كان يُتداول شفويَاً باعتباره من أسرار الحكم تتلقاه الخاصة ( وما زال مضمون هذا التقليد ساريَا بشكل أو بأخر حتى يومنا هذا )، ولكن الآثار العملية لهذه الأعمال النظرية لا تخطئها عين على أية حال، وإلا كيف نشأت المؤسسات وتطورت وتحددت علاقاتها، وكيف قامت الحضارات التي احتضنت الإبداع ووظفته، كيف تحقق الاستقرار وكيف نظُمت الحروب والصراعات؟ المجتمعات البشرية حصلت إذن على معرفة اجتماعية العقلاني متفاعلاً مع عقيدة ما، فزعم الفكر الأوروبي ( وخاصة منذ التنوير في القرن الثامن عشر ) أن هذا مما يتنافى مع العلم، فوسَم التراث المعرفي الهائل بأنه غير علمي، ولا يمثل إلا إرهاصات قوم بدائيين.
وعلى المستوى المعرفي، كانت سيادة أفكار التنوير تعني سيادة المفهوم العلماني أو الدنيوي (بكافة مدارسه) لأمور المجتمع، وبالتالي المفهوم الدنيوي لمضمون التقدم، وفي ظل هذه السيادة احتل العلم الطبيعي التجريبي مكانة مبالغَا فيها، وشيئًا فشيئًا تضاءلت الفلسفة (بعد أن تمثلت الدنيوية بدورها) وتخلت عن مقامها العالي الموجَه لتحتله العلوم الطبيعية، وشيئًا فشيئًا اختُزلت المعرفة الاجتماعية إلي المستوى العلوم الطبيعية. في مجال المعرفة الاجتماعية مرت العملية عبر مسالك مختلفة: الاقتصاد الكلاسيكي والنيوكلاسيكي– والوضعية في علم الاجتماع– وما تفرع عن ذلك في علم السياسة– ثم الماركسية في مواجهة ذلك كله ... الخ اختلفت المدارس، لكن استهدفت كلها أن تقيم علومَا تشبه العلوم الطبيعية، ولكما تعثرت المحاولات، وظلت النتائج بعيدة عن هذا المثال، أصروا على أن هذا لا يعني إلا أن العلوم الاجتماعية ما زالت مختلفة وفي مرحلة أدنى، ويقال كثيرًا إن هذا يرجع إلي حداثة هذه العلوم الاجتماعية، وهذا ادعاء غير صحيح.
ولكن رغم دلالة هذا الفشل المتولي في التجارب ما زال هناك إصرار علي المعادلة، ومع تأثرنا الشديد بالغرب انتقل إلينا بالتبعية تطلعه إلى تحقيق الهدف نفسه، ولكن ألا تصلح التجربة التاريخية شاهداً على أن السؤال المعروض علينا خاطئ في أصله وجوهره ؟ لقد سبق تجريب المنهج المقترح في الممارسات النظرية الغربية، فمنهج التوصل إلى وحدات تحليلية مثلاً مستخدَم فعلاً في المدارس المختلفة (الطبقة- النخبة- المؤسسات- الأنساق – فائض القيمة .. الخ)، وتمَ بالفعل تركيب صورة اجتماعية على غرار الصورة الفيزيائية للعالم كما تنشئها العلوم الطبيعية، ومع ذلك نعلم أن المشكلة لم تُحل، إذ ظلت العلوم الاجتماعية غير منضبطة إلى القدر الذي نلحظه في العلوم الطبيعية، ويرجع ذلك إلي طبيعة الظواهر محل الدراسة، فظاهرة المجتمع الحي العاقل تختلف عن طبيعة المادة غير الحية وغير العاقلة، فالقوى الفاعلة في المجتمع الحي لا تخضع في ظروفها وفي قياس إمكانات دورها واتجاهها لوحدات نمطية ولا لعلاقات نمطية بين هذه الوحدات، وفي المجتمع فارق كبير بين أن نكتشف قواعد اللعبة وبين أن نتنبأ بنتائج المباراة أو أن نتحكم فيها.
وفضلاً عن الاستحالة لماذا هنا الإصرار على أن تكون العلوم الاجتماعية مثل العلوم الطبيعية ؟ هل نحن بصدد هدف نبيل أو مقدس يستحق كل هذا العناد ؟ ماذا يعني هذا الهدف عمليًا بفرض إمكانية تحققه ؟ إنه إلغاء لحيوية المتجمع المتجددة، وتحويل المجتمع إلي آله كبيرة محكومة الحركة ومضبوطة بالأزرار. إنه تسريع لقيام الدولة الشمولية في أبشع صورها، وتكثيف لوظائفها، هل سيسعدنا هذا الفتح " العلمي " " العقلاني " العظيم وهذا النجاح المفروض فرضًا ؟ هل نصفه بأنه اكتشاف لقوانين الحركة الاجتماعية الموضوعية أم بأنه محاولة لفرض قواعد وقوالب من إنشائنا علي الحركة الاجتماعية ؟
2- مدراس غربية وليست علوماً عالمية :
بعد هذه المعارضة للتوجه الغربي نحو توحيد نمطي العلوم، ننتقل إلي محاكمة (العلوم) الاجتماعية الغربية من زاوية أخرى فنتساءل ما المجال الجغرافي، وما العمق التاريخي اللذان تستند إليهما هذه العملية في تعميماتها أو في بنيتها النظرية ؟ إن مشروعية الإدعاء بقيام علوم اجتماعية، ومشروعية الزعم بأن هذه العلوم تركيز قريب عن الموضوعية لمجمل معارفنا الاجتماعية، ومشروعية المطالبة بالتالي باعتراف عالمي بمصداقية وعملية النتائج التي توصلت إليها هذه العلوم ... مشروعية هذا الزعم وهذه المطالبة تتطلب (ضمن ما تتطلب) استناداً إلي قاعدة كافية من المعلومات عن سائر المجتمعات البشرية وبعمق تاريخها الطويل. وواقع الحال أن ما يسمى الآن " العلوم الاجتماعية " لا يستند إلا على معرفة أهل الغرب عن مجتمعاتهم في العصر الحديث، أي أن بقعة الضوء تركزت على شريحة رقيقة من التاريخ وعلى مساحة محدودة من الأرض، وصيغت الأبنية النظرية كافة وفقًا للأسئلة المطروحة في هذا النطاق المحدود.
وجاءت الإجابات عن هذه الأسئلة في البداية في حقبة التنوير وإن غلبت البساطة على الأفكار التي ظهرت حينئذ، ثم قُدمت بدءًا من النصف الثاني للقرن التاسع عشر الإجابات المركبة (الأنساق النظرية) والتي انقسمت أساسًا إلي اتجاهين:
الاتجاه الأول : اتجاه صراعي بين العمل ورأس المال بهدف التغيير الثوري الراديكالي.
أما الاتجاه الثاني : فهو اتجاه يدعو لاستكمال المؤسسات اللازمة لاستقرار العلاقات بين العمل ورأس المال وإجراء التحسينات المطلوبة من خلال هذا الاستقرار وبهدف دعم التوازن المطلوب للاستقرار.
ويلاحظ طبعًا أن أسئلة الاتجاهين وإجباتهما تحددت بمفاهيم الدنيوية والتقدم الدنيوي (العقيدة السائدة في الغرب الحديث) وحتى حين اكتشف البحث العلمي أهمية وجود الدين لأي مجتمع تقدمت مشروعات أديان دنيوية لأداء الوظيفة (صراحة أو ضمنًا).
ولكن الاقتتال بين قطبي الصراع الاجتماعي في أوروبا (الرأسمالية والاشتراكية) يبدو في الماضي كنوع من المباراة الصفرية في حالة الصراع صافِ (أي أن كل مكسب لفريق يمثل خسارة للفريق الآخر بنفس القدر)، وفي هذه المرحلة تحولت النظريات " العملية " الاجتماعية – كما قلنا – إلي رموز وعقائد مقدسة (وإن ظلت عقائد فرعية باعتبار الدنيوية الدين الأساسي عندهم)، وقد تطور الوضع في السبعينات بحيث أصبحت العلاقة بين الاشتراكية والرأسمالية علاقة وفاق، فخفت الحدة وأزيحت عن الصراع هالته الأيديولوجية، بكل ما مثلته في الحقبة الماضية من تعصب ومطلقات كثيرة لم تخضع للبرهان، وصدرت كتابات عن نهاية الأيديولوجيا (بهذا المضمون)، وصدرت في الفترة نفسها دراسات اقتصادية – اجتماعية عديدة تحلل اتجاه التقارب بين بنية النظام الرأسمالي القائم وبنية النظام الاشتراكي في الدول الصناعية، وفي هذا الجو أصبح الحوار ممكنًا وجاريًا بالفعل (صراحة وضمنًا) بين المدارس النظرية المختلفة، ولم تعد مستهجنة محاولات الوصول إلي مفاهيم مشتركة أو توليفات موحدة من الأنساق النظرية السابقة.
إن هذا التوجه كنا نراه منعكسًا في سبيل الدراسات المستقبلية الغربية (كمية وكيفية) أثناء مواجهتها للمشاكل المتوقعة في إطار الثورة العملية والتكنولوجية، فهذه الدراسات كافة كانت تتضمن بشكل أو بآخر أن نتائج هذه الثورة ستؤدي إلي وحدة النظام الاقتصادي الاجتماعي، إلي " المجتمع ما بعد الصناعي "، وهذه ذروة الأزمة، فالفكر الغربي كان يبشر ( أثناء حروبه الداخلية المقدسة ) بأنه يسعى لتحقيق فردوس أرضي، وكان هذا الدين الكاذب، أو السراب الأيديولوجي متسربًا من مفاهيم الدنيوية، المدارس المختلفة كانت بمثابة مداخل مختلفة إلى هذا الفردوِس، فإذا كان الآن قد وصلنا إلى الوفرة، وإذا كان الفرقاء قد توصلوا إلي تصور متقارب لمجتمع الوفرة هذا من حيث الإنتاج والتوزيع، إذا كان الغرب قد وصل إلي هذا كله ولم يجد الفردوس، إذن ماذا بعد ؟
إن القيم النبيلة تتحلل بسرعة متزايدة، ووصلت النفعية والفردية إلي حد أن الناس فقدت شهيتها الطبيعية لإنجاب الأطفال حتى لا يقاسموهم رزقهم واستمتاعهم بمتع الحياة ...، الإحساس بالاختناق والاغتراب قائم ويزيد، والإحساس بالخطر رهيب، فآفاق الثورة العلمية والتكنولوجية لا تحمل وعودًا بالرخاء فقط، ولكن تحمل نذيرًا بالدمار الشامل أيضًا، وبخراب البيئة، وكل هذا لا يحله أي تصور نظري في الترسانة الغربية ... ولكن هذا مأزق خاص بمسيرتهم وعلومهم الاجتماعية.
إن الهموم والتحديات التي تواجهها الحضارة الغربية في ملحتها المعاصرة لم تعد تجد الحلول على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في المقام الأول ( بعد ما تحقق على هذا المستوى ) فهي تمتد بجذورها إلى المستوى الأيديولوجي الأعلى (إلي سيادة الدنيوية)، أي إلي أساس الحضارة الغربية الحديثة الذي لم يخضع بعد للبحث والمراجعة الجادة، وهنا تكمن ذروة الأزمة النظرية والعلمية.
والآن ما لنا نحن وكل ذلك ؟ إن الأسئلة كافة والإجابات كافة نشأت عن المجتمع الغربي في مرحلة المختلفة، ونحن من موقع التاريخ الخاص لأمتنا، ومن واقع التبعية والتخلف الاقتصادي نواجه أسئلة غير أسئلة الغرب، ويتطلب هذا أن ننشئ مدارس تختلف عن مدارسه ويجب أن نفهم مجتمعنا ومساره في الماضي وفي المستقبل في ضوء المبادئ الإسلامية.
3- المدارس الغربية معادية لنا :
إذا كان الوجه الأول لتأثر المدارس الاجتماعية الغربية بالعقيدة السائدة يمثل في خضوعها للدنيوية، فإن الوجه الثاني للتأثير العَقِدي تمثل في قبول " مسلمة " تفوُق الغرب، ومشروعية سيطرته على العالم (أي علينا)، والوجهان مرتبطان تمامًا، وإنهما وجها عملة واحدة. فإذا كان الغرب سيدًا متفوقًا، فإن مجمل نظرياته المشتقة من الدنيوية هي : العلم. وينبغي أن تسود، وكل ما عداها غير علمي مختلف؛ وينبغي أن يختفي. إن الوجه الثاني للتأثير الأيديولوجي (التفوق والسيطرة) نراه مبثوثًا في سائر أنحاء الفكر " العلمي " الاجتماعي الغربي. في دراسات التاريخ العام كانت تُلوي الحقائق ليَا خدمةُ للنتيجة التي تقول صراحة أو ضمنًا (صدفة أو لأسباب إثنية أو أنثروبولوجية) إن مسيرة التقدم هي رسالة الغرب التاريخية؛ نجد هذا في دراسات التاريخ العام وما نشأ عليه من نظريات وفلسفات، وما تفرع عنه مثلاً في أعمال المستشرقين أو في تاريخ الفلسفة أو تاريخ العلوم.
فطوال القرنين الأخيرين كانت المقولة الدائمة أن العلم الكلاسيكي أوروبي أساسًا، وأن أصوله ترجع مباشرة إلي الفلسفة والعلوم الإغريقية. وقد يحدث اعتراف ببعض الإنجاز الفلسفي أو بقيام علوم معينة في هذه الحضارة أو تلك، ولكن يظل هذا الاعتراف في إطار أنها مجرد إسهامات ثانوية تستمد قيمتها من انضمامها إلي الترسانة الأم، والعلوم الاجتماعية كافة تدرس المجتمع الغربي الحديث في ارتباط مع هذا المنظور التاريخي، وتأكيداً لنتائجه في العصر الحالي، ففي المدرسة الاقتصادية الغربية الكلاسيكية والنيوكلاسيكية، وما تفرع عن ذلك من دراسات التنمية الاقتصادية المصدرة في العقود الأخيرة إلي الدول التابعة (المسماة بالنامية)، نجد أن الحديث عن المنافسة وتحرير التجارة الدولية، ونموذج التنمية بالانتشار يُضْمِر (أو يبرر) فرض سيطرة الأقوى (الغرب) على النظام العالمي، المستند اقتصادياً إلي تقسيم معين للعمل السياسية، فكافة أشكال التنظيم الاجتماعي والإدارة السياسية خارج الغرب (أي أشكال غير الليبرالية السياسية) تعتبر مستوى أدنى غير قابل للتجدد والتطور، ومجرد قيام هذا المفهوم في قلب المدارس الاجتماعية والسياسية يجعل هذه المدارس " عقيدة " تلعب أداة تبرير للاستعمار وبسط النفرذ بأبشع الأساليب، وأكثر من ذلك فإن إشكالية هذه " العلوم " هي كيفية تطوير البنية الاجتماعية والبنية السياسية على نحو يمكن الغرب من القيام بمهتمه " التاريخية " في " تحديث العالم وتمدينه، " بكفاءة أعلى. إن الدراسات الخاصة بالعلاقات السياسية الدولية (كما هو الشأن مع العلاقات الاقتصادية الدولية) تنهض كلها الآن على أساس معالجة المشاكل التي تنشأ عن "بقاء كل شيء على حاله"، أي إعادة إنتاج السيطرة الغربية.
4- مفهوم الممارسة النظرية المستقلة:
تزايَد الحس النقدي بين المشتغلين عندنا في العلوم الاجتماعية، وانتشر الحذر من احتمال تصدير التبعية الفكرية في غلاف هذه النظريات الغربية، والمدخل العام لهذا الموقف النقدي تدعّم من خلال كشف لتحيز الدراسات الغربية وتحاملها الواضح فيما يتعلق بتاريخنا وتراثنا. وليس عيباً أن يبدأ الكشف عبر شك مبدئي في صحة النتائج الغربية ناشئ عن انتماء عميق لأمتنا، وثقة متوارثة في إنجازاتها، ولكن من المؤكد أن هذا الشك قد تحول إلي يقين بعد عديد من الدراسات الإمبريقية لباحثينا أثبتت القيمة الحقيقة لإنجازاتنا، وحددت بعض معالم المسار الخاص الذي اتخذه التاريخ عندنا، وقد حدث الشيء نفسه في مجالات الاقتصاد والاجتماع السياسة ( والتنمية عموماً )، حيث أثبتت الدراسات الإمبريقية أن التركيبات النظرية الغربية تحمل خللاً ما بدلالة النتائج العملية التي نشأت عن تشغيل هذه النماذج، والتي لا تحقق المصالح المستهدفة من منظور وطني، أو لا توصلنا إلي معرفة صحيحة تُعين في اتخاذ القرارات الملائمة. وهذا جيد، ولكن هذا الموقف النقدي آن له ألا يتوقف عند المستوى الإمبريقي والاكتفاء باستخلاص النتائج الجزئية المباشرة عن هذه التجربة أو تلك. آن لنا أن نستخدم هذه النتائج أساساً لتحدي مجمل البناء النظري الغربي، فالتوقف عند المستوى الإمبريقي ( مع بقاء البناء النظري على حاله ) قد يصل ببعضنا إلي الشعور بأن اكتشافاتنا الإمبريقية هي مجرد انحراف عن المسار " الطبيعي " للأمور، فنظل نعيد المحاولة وتُزيد، مع أن النظرة الشاملة والأعمق قد تكشف لنا أنه لا يوجد مسار طبيعي، وأن هناك إمكانية لمسار مختلف وأكثر ملاءمة، وبالتالي فإننا لسنا بصدد مصاعب غير مألوفة في طريق الوصول إلي النموذج الغربي، ولكن أمام احتمال أن نصل إلي نموذج آخر.
وأعتقد أن تزايد الاعتراف بمفاهيم تعدد المراكز الحضارية والاستقلال الحضاري، إنجاز إيجابي في هذا الاتجاه المستهدف، وأعتقد أيضاً أن مصطلحات التحديث المؤصل أو التراث والمعاصَرة، أصبحت تلقي بدورها قبولاً متزايداً، وقد أُفُصلُ مصطلح التجدد الذاتي للتعبير عن المفهوم المقصود بطريقة أكفأ على ما أعتقد، ولكن يبقى أن القبول المتزايد بهذا المفهوم ( والذي ما زال غامضًا ومشوشًا ) يشير إلي الاهتمام ببدء ممارسة نظرية مستقلة تعتمد ( على الأقل ) على النتائج الإمبريقية ومدعمة بالدخل النقدي العام.
إن الممارسة النظرية المستقلة مسألة بالغة الصعوبة وتحتاج عباقرة وموهوبين، ولكن لا ينبغي أن يدفعنا هذا إلي التردد في اقتحام الميدان، والمحظور في مثل هذه الممارسة هو أن نخدع أنفسنا أو نلجأ إلي التلفيقية، وأقصد بخداع النفس أن نستخدم المفاهيم الغربية نفسها، مع تغيير في المصطلحات الدالة عليها أو مع محاولة متعنتة لإثبات أن كل مفهوم من هذه المفاهيم له أصل في تراثنا يبرر الأخذ به، إن هذا المنهج يؤدي بطبيعة الحال إلي العودة لاستخدام الأنساق الغربية الكلية، وإن تغيرت المصطلحات والأسماء أو حيثيات القبول، والخطر من التلفيقية يعني أن نضيف إلي ترسانة المفاهيم والأنساق الغربية مفاهيم تتعلق بالإيمان بالله مثلاً، أو بالأسرة، أو ببعض القيم، ونتصور أننا قد حللنا بهذا الإشكالية الصعبة، نسيان أن المفاهيم الدنيوية تتولد عنها في الأنساق الفكرية الغربية مفاهيم فرعية في كل مناحي المعرفة الاجتماعية تتعارض تماماً مع المفاهيم الفرعية المتولدة عن المتغيرات التي أدخلناها ( وخاصة الإيمان بالله تعالي )، وحصاد مثل هذه المحاولة التلفيقية يفتقد أي قدر من الاتساق الواقعي والمنطقي، ويفتقد بالتالي مشروعية الادعاء بإقامة بناء نظري فعال.
وفي عملية البناء النظري الموجه للتجدد الذاتي، نؤكد أننا لا نرفض استخدام بعض المكونات النظرية المكتشفة في الغرب، ولكن يتطلب ذلك فرز محتويات الترسانة الغربية، وعزل ما هو خاص (غربي) عما يصلح لأن يكون عاماً (عالمياً). كذلك يتطلب المر فحصاً للمفاهيم وكشف علاقتها الصريحة والضمنية مع عقيدتهم السائدة، وبالتالي مدى اتساق ذلك مع مفاهيم عقيدتنا السائدة. فمفاهيم مثل الإنسان الاقتصادي، والقيمة – العمل، ترتبط بالعقيدة الدنيوية وتُقضي إلي تحليلات وتركيبات اقتصادية يحكمها هذا التحيز العَقِيدى. " الإنسان الاقتصادي " هو المفهوم المحوري الكامن خلف الفكر الاقتصادي الغربي (الكلاسيكي والنيوكلاسيكي)، فكل آليات السوق وتوازناته تصبح لغوًا إذا لم يكن الإنسان الاقتصادي حاكماً لجانب العرض وحاكماً لجانب الطلب، ومفهوم الإنسان الاقتصادي هذا هو فرض الإنسان المشوه (بمعاييرنا الإسلامية)، ولكن ترتبط مواصفاته عضوياً بالعقيدة الدنيوية وفرض أن القيمة (أو القيمة التبادلية) للسلعة تتحدد بساعات العمل الاجتماعي المبذول في إنتاجها هو نقطة البدء في نموذج ريكاردو، وقد قبله ماركس أيضاً كنقطة بدء في نموذجه الاقتصادي للرأسمالية، وفي تقديرنا أن هذا الاعتماد لفرض القيمة – العمل (ووفقًا لمفهوم العمل المستخدم في التحليل) أوقع التحليل الاقتصادي الريكاردي والماركسي في ارتباطات ومفارقات يصعب الخلاص منها، ولكن ما يعينا هنا هو ملاحظة العلاقة بين هذا الفرض ( الذي يبدو لدينا خاطئاً وغير واقعي )، وبين العقيدة الدنيوية، فتحديد القيمة بالعمل الاجتماعي وحده دون إدخال للأرض ( أو الطبيعة ) في الحساب، يعكس المبالغة في دور الإنسان داخل العقيدة الدنيوية، الإنسان " الخالق " " الفعال لما يريده " " قاهر الطبيعة ". ولم يكن صدفة أن ابن خلدون وصل إلي تصور مختلف للقيمة بتحديد بما يقدمه العمل الاجتماعي والطبيعة معًا، فهذا بدوره يعكس مفاهيم العقيدة الإسلامية. والمفكرون الإسلاميون عموماً – ووفقاً لأصول عقيدتهم – يرون الإنسان معمراً للطبيعة في إطار التكامل معها وإثرائها، بحيث لا يكون السعي فيها والصراع معها محطمًا لموازينها، ولم يكن يتسق مع الفكر الإسلامي بالتالي موقف عدم المبالاة من تخريب البيئة، هناك احترام لقدرات الإنسان ودوره، ولكن مع وضع قدوة الإنسان ودوره في إطار الكل الأشمل الخاضع لله تعالي.
في ضوء هذه التحفظات يمكن أن نصل إلي قبول مفاهيم أو وحدات تحليلية مثل : الطبقة - النخبة – التراتب الاجتماعي – الأمة – التوازن الاجتماعي – تَمَفْصُل الممارسات الاجتماعية – التخطيط .. الخ .. ( ويلاحظ أن الأمثلة المقبولة مني تنتمي إلي مدارس غريبة مختلفة ). مثل هذه المفاهيم أو المكونات إذا استخدمناها باعتبارها عالمية ( أي عند مستوي عال من التجريد ) ستتخذ مضامين خاصة بنا وفق شروط نسقنا النظري المستقل المتأثر بمناخ واقعنا الاجتماعي الموضوعي. وهذا طبيعي، فاستخدامها عندنا على مستوي مجتمع – أُمة معين هو استخدام لهذه المفاهيم على مستوي أقل من التجريد، لذا فإن مضمونها ووزنها النسبي وعلاقتها المتبادلة في نسقنا النظري تختلف كثيراً أو قليلاً عن وضعها في النسق الغربي. فلأُمة والدولة المركزية عندنا – على سبيل المثال – تتخذان مضموناً خاصًا وفقاً لطبيعة تكوينهما التاريخي – فالأُمة – الدولة ليست إنجازاً حديثاً شكلته البورجوازية وارتبط إلي حد كبير بمصلحتها في توحيد السوق الداخلية وفي المشاركة في مشروع السيطرة الخارجية ( كما حدث في الغرب الحديث ). الأمة والدولة المركزية تشكلتا عندنا منذ زمن بعيد، وقبل أن تظهر البورجوازية الأوروبية على مسرح التاريخ بقرون طويلة، وقد تراكم في هذه العملية أثر العقيدة الموحُدة ( الإسلام ) الذي رسّخ الترابط والانتماء على نحو أقوى مما حققته مثَلاً وحدة السوق في الولايات المتحدة. " الطبقات الاجتماعية " تحمل عندنا كذلك مضامين تختلف عن تلك المضامين المحددة التي اتخذها هذا المفهوم في السياق الأوروبي، فلا الملتزمون عندنا كانوا كإقطاعييهم، ولا رجال الأعمال في ماضينا وحاضرنا كان لهم نوع الدور أو وزنه الذي أدته بورجوازيتهم، وكذلك لم يكن للصراع بين طبقة العمال وطبقة أصحاب رؤوس الأموال الدور الكبير نفسه الذي كان لهما داخل النسق الاجتماعي والنظري الأوروبي ... الخ ... إن دور الطبقات المختلفة تحدّد عندنا بمطلق تطورها التاريخي الخاص، في إطار استمرارية مجتمعيه تمثلها الأُمة – الدولة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.