نشرة «المصري اليوم» من الإسكندرية: التحقيق مع 128 طالبا وطالبة بسبب الغش.. ولجان مفاجئة ب145 مركز شباب لرصد الانضباط    "موان" ينفذ عددًا من المبادرات في قطاع إدارة النفايات بموسم الحج    وزير الإعلام يزور جناح وزارة الداخلية في المعرض المصاحب لأعمال ملتقى إعلام الحج مكة المكرمة    مصدر رفيع المستوى: تلقينا ردودا من الفصائل الفلسطينية حول مقترح الهدنة    في غياب بيرسي تاو.. جنوب أفريقيا يصعق زيمبابوي بثلاثية بتصفيات كأس العالم 2026    الإسماعيلي يحدد سعر بيع عبد الرحمن مجدي (خاص)    دي بروين يوجه صدمة مدوية لجماهير الاتحاد    ضبط 7 محاولات تهرب جمركي في مطار القاهرة الدولي    استعدادًا لعيد الأضحى.. حملات مكثفة لمراقبة الأسواق وإنذار 7 مطاعم بالغلق في مطروح    رئيس جهاز شئون البيئة يكشف تفاصيل ضبط خراف نافقة في البحر الأحمر    أحمد عز يكشف سبب تقديم ثلاثة أجزاء من "ولاد رزق".. شاهد    عالم أزهرى يكشف لقناة الناس لماذا لا يصوم الحجاج يوم عرفة.. فيديو    أول رد من عريس الشرقية بعد فيديو ضرب عروسه في الفرح: «غصب عني»    كاتبة أردنية: كلمة الرئيس السيسي في قمة اليوم مكاشفة وكلها مدعومة بالحقائق والوثائق    رسالة جديدة من «الهجرة» للمصريين في دول النزاعات بشأن مبادرة استيراد السيارات    «الأعلى للإعلام»: حجب المنصات غير المرخصة    يوافق أول أيام عيد الأضحى.. ما حكم صيام اليوم العاشر من ذي الحجة؟    خالد الجندي يعدد 4 مغانم في يوم عرفة: مغفرة ذنوب عامين كاملين    أمين الفتوى بدار الإفتاء: الأضحية لا تجزئ عن الأسرة كلها في حالة واحدة    نقابة الصيادلة: الدواء المصري هو الأرخص على مستوى العالم.. لازم نخلص من عقدة الخواجة    وكيل «صحة الشرقية» يناقش خطة اعتماد مستشفى الصدر ضمن التأمين الصحي الشامل    «طه»: الاستثمار في العنصر البشري والتعاون الدولي ركيزتان لمواجهة الأزمات الصحية بفعالية    لطلاب الثانوية العامة.. أكلات تحتوي على الأوميجا 3 وتساعد على التركيز    مفاجأة.. بيراميدز مهدد بعدم المشاركة في البطولات الإفريقية    مصدر بمكافحة المنشطات: إمكانية رفع الإيقاف عن رمضان صبحى لحين عقد جلسة استماع ثانية    «ناسا» تكشف عن المكان الأكثر حرارة على الأرض.. لن تصدق كم بلغت؟    عبدالقادر علام: التفرد والتميز ضمن معايير اختيار الأعمال فى المعرض العام 44    محافظ جنوب سيناء يوجه بالبدء في تنفيذ مشروع المجمع الديني بنبق بشرم الشيخ عقب إجازة عيد الأضحى    يورو 2024 - الإصابة تحرم ليفاندوفسكي من مواجهة هولندا    5 أعمال ثوابها يعادل أجر الحج والعمرة.. تعرف عليها    «بابا قالي رحمة اتجننت».. ابن سفاح التجمع يكشف تفاصيل خطيرة أمام جهات التحقيق    عيد الأضحى في المغرب.. عادات وتقاليد    «الدفاع الروسية» تكشف أسباب تحطم طائرة "سو-34" خلال طلعة تدريبية    بريطانيا: ارتفاع مفاجئ في معدل البطالة يصيب سوق الوظائف بالوهن مجددا    بدائل الثانوية العامة.. شروط الالتحاق بمدرسة الضبعة النووية بعد الإعدادية (رابط مباشر للتقديم)    رئيس الضرائب: المصلحة تذلل العقبات أمام المستثمرين السنغافوريين    قافلة مجمع البحوث الإسلامية بكفر الشيخ لتصحيح المفاهيم الخاطئة    مصرع 39 شخصا في غرق مركب تقل مهاجرين قبالة سواحل اليمن    حكومة جديدة..بخريطة طريق رئاسية    تطوير وصيانة وإنتاج خرائط.. وزير الري يكشف عن مجهودات توزيع المياه في مصر    تطوير مستشفى مطروح العام بتكلفة مليار جنيه وإنشاء أخرى للصحة النفسية    المجلس الوطني الفلسطيني: عمليات القتل والإعدامات بالضفة الغربية امتداد للإبادة الجماعية بغزة    رئيس جامعة بني سويف يرأس عددا من الاجتماعات    مجد القاسم يطرح ألبوم "بشواتي" في عيد الأضحى    تأجيل محاكمة المتهم بإصابة شاب بشلل نصفى لتجاوزه السرعة ل30 يوليو المقبل    عيار 24 الآن.. أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 11-6-2024 في محافظة المنيا    رئيس جامعة الأقصر يشارك في الاجتماع الدوري للمجلس الأعلى لشئون التعليم والطلاب    إيلون ماسك: سأحظر أجهزة آيفون في شركاتي    سحب عينات من القمح والدقيق بمطاحن الوادي الجديد للتأكد من صلاحيتها ومطابقة المواصفات    وزير النقل يوجه تعليمات لطوائف التشغيل بالمنطقة الجنوبية للسكك الحديدية    محمد أبو هاشم: العشر الأوائل من ذى الحجة أقسم الله بها في سورة الفجر (فيديو)    بن غفير: صباح صعب مع الإعلان عن مقتل 4 من أبنائنا برفح    طائرته اختفت كأنها سراب.. من هو نائب رئيس مالاوي؟    وفاة المؤلف الموسيقي أمير جادو بعد معاناة مع المرض    عصام السيد: وزير الثقافة في عهد الإخوان لم يكن يعرفه أحد    بعد تصريحاته المثيرة للجدل.. إبراهيم فايق يوجه رسالة ل حسام حسن    سيد معوض يتساءل: ماذا سيفعل حسام حسن ومنتخب مصر في كأس العالم؟    فلسطين.. شهداء وجرحى جراء قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابو مازن، الفلسطيني الاخير
نشر في التغيير يوم 08 - 03 - 2005

من البداية كانت اولوية عرفات الوحدة الوطنية معتبرا انه لا يمكن تحقيق اي انجاز بدونها. فكان صلة الوصل بين فلسطينيي الشتات وفلسطينيي الداخل، هؤلاء الذين هجّروا من ارضهم في 1948 وخضعوا للاحتلال في 1967، المقيمين في غزة والضفة الغربية، شيبا وشبانا، اثرياء ومعوزين، مستقيمين وفاسدين، محدثين وتقليديين، مناضلين ومسالمين، اسلاميين وعلمانيين. وقد رأيناه في آن واحد زعيما وطنيا، رجل القبيلة، سامريا صالحا وقائد حركة علمانية ومتدينة في العمق. وقد اراد نفسه الممثل الابرز لكل من هذه الجماعات المتنافرة حتى عندما كانت تدين بوجهات نظر متعارضة او حتى متناقضة. وغالبا ما كان اسلوبه عرضة للانتقاد والسخرية لكن نادرا ما طاول الرفض موقعه المميز. ومن غير المؤكد ان يتمكن أي زعيم فلسطيني آخر من انتهاج اساليبه السياسية في المستقبل القريب او طالما دام الاحتلال على الارجح.
\r\n
\r\n
ان الرجل الذي اختاره الشعب الفلسطيني ومؤسساته لخلافته متميز عنه في كل الوجوه لكنه شبيه له في مجال اساسي. فالسيد محمود عباس، ابو مازن، ينتمي مثل عرفات الى صنف نادر: انه وجه وطني فلسطيني اصيل لكن بطريقة مختلفة جذريا. فبينما تحول عرفات رمزا وطنيا من خلال تماهيه مع كل الفئات والفصائل اصبح ابو مازن رمزا من دون التماهي مع اي منها. كان عرفات يتدخل في كل القضايا المحلية بينما محمود عباس يعلو عليها معتبرا نفسه في الاساس خادما للحركة الوطنية في مجملها. كان \"الختيار\" يدير دفة الحكم بطاقة لا تنضب وبحضور جسدي وخطابي طاغ. اما الرئيس الجديد فيتمتع بصوت لا يكاد يسمع وبقامة لا تفرض نفسها وهو بنى مسيرته بعيدا عن الاضواء. مع وفات عرفات تنتقل السياسة الفلسطينية من زمن الوطأة الى زمن انعدام الجاذبية.
\r\n
\r\n
كان عرفات يعيش في عالم اقرب الى عوالم بورخيس حيث تتساكن الاشياء ونقائضها في المكان والزمان نفسيهما وحيث الاهمية لوقع الكلام وليس لمعناه فتتشكل الحقيقة من مزيج الاوهام بالوقائع. عالم ابو مازن منغرس في المألوف، فيما ينظر اليه غالبية الناس على انه منطق الاشياء. ويبدو خطابه اكثر قبولا وواقعه غير مسكون بشياطين الماضي. وداعا لسياسة الغموض واهلا بسياسة العقل البارد والمنطقي.
\r\n
\r\n
ابو مازن سياسي عن اقتناع بمعنى انه ليس محترفا حقيقيا للسياسة. ليس من الصنف الذي ينسج المكائد اذ غالبا ما تعكس افعاله شخصيته واطباعه. من هنا تأتي نجاحاته الكثيرة وايضا فشله المتعدد. يستوحي سلوكه من حس اخلاقي عميق ويحتقر الانتهازية السياسية. له ثقة مفرطة بسلطان العقل ومن النادر ان يستسلم او يعلن العداء اذا ما لقي معارضة او تجاهلا. وحيث انه مقتنع بامتلاك المنطق والعقل وان الآخرين يتّبعون المنطق والعقل فانه يفضل الانتظار والصبر حتى يصل الآخرون الى اقتناعاته. ليس ممن يتلاعبون او يغدرون او يتآمرون وهذا ما يفسر نفوره القوي من التلاعب والغدر والمؤامرات التي يحوكها الآخرون. ومن هنا نفهم علاقاته المتقلبة مع عرفات لانه لم يكن يتردد في معارضة \"الختيار\" ويلجأ الى الانعزال بدل المواجهة او التسوية. ولأن عرفات كان يعرف ان ابو مازن، وخلافا لغالبية زملائه، كان صريحا وليس انتهازيا فانه نادرا ما فقد الثقة به وكان يسامحه على الدوام.
\r\n
\r\n
ابو مازن مسلم عميق التقوى، يستوحي الدين ولا يقبل زجه في السياسة. يصلي يوميا ويصوم رمضان من دون حب للظهور سواء في الصلاة او الصوم. الدين في نظره ايمان شخصي وليس مظهرا ولا بالطبع ضابطا للشأن العام. وهذا ما يمنحه تفوقا اكيدا في لقاءاته التي باتت متكررة مع قياديي \"حماس\" و\"الجهاد الاسلامي\": فهو المقتنع انهم ليسوا اكثر ايمانا منه لا يرى في \"السياسي الاسلامي\" سوى السياسي وليس الاسلامي. والاهم انه متمسك بمجموعة من المبادئ يتردد في التفريط بها ويكره الابتعاد عنها. في خريف العام 1999 وبعد انتخاب ايهود باراك رئيسا للوزراء في اسرائيل، قدم اقتراحا بسيطا الى المسؤولين الاميركيين حول الحل النهائي: دولة فلسطينية في حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية مع الاعتراف بمبدأ حق العودة للاجئين. ضمن اطار هذه المعايير وانسجاما مع القانون الدولي، ترك مجالا للتفاوض حول احتمال مبادلة الاراضي بنسب محدودة ومتوازنة من اجل الاخذ في الاعتبار وجود بعض المستوطنات الاسرائيلية ومنح اليهود الحق في دخول الاماكن المقدسة من دون اي عقبات اضافة الى تنفيذ مبدأ حق العودة مع الاهتمام بالمصالح الديموغرافية لاسرائيل.
\r\n
\r\n
لكن الاهم كان الموافقة المسبقة على هذه المقترحات والا فقد الحل شرعيته الدولية والسلام عدالته. تجاهلت الولايات المتحدة واسرائيل هذه المقترحات واتخذت المفاوضات التي جرت طابع البازار بعيدا عن أي منطلق مبدئي: فالنسبة المئوية من الضفة المفترض اعادتها الى الفلسطينيين كانت تتغير بين يوم وآخر كذلك السيادة على احياء القدس الشرقية او عدد اللاجئين المسموح لهم بالعودة الى اسرائيل. كانت هذه الطريقة في التعامل غريبة عن ابو مازن الذي لم يأمل في تحصيل أي نتيجة ايجابية منها لا بل اعتبرها مضرة بمصالح الشعب الفلسطيني وغير صادقة ازاء الاسرائيليين اذ انها تثير اوهاما غير مؤكدة حول حجم التنازلات الفلسطينية المحتملة.
\r\n
\r\n
بالرغم من انزعاحه من مسار المداولات التي سبقت قمة كمب ديفيد في تموز/يوليو 2000 [2] ، فان ابو مازن كان يعارض بشدة اطلاق الانتفاضة المسلحة التي تلت هذه القمة. فالعنف يمثل في نظره منذ زمن طويل خيارا غير مفيد وغير منطقي كأن يصار الى استخدام اضعف الاسلحة الفلسطينيية ضد الخاصرة الاسرائيلية الاقوى. ويروح يقارن بين فوائد العنف الهزيلة وتكاليفه الباهظة: اسرائيل نجحت في رص صفوفها الداخلية، الولايات المتحدة اختارت معسكرها، المجموعة الدولية ادارت ظهرها للفلسطينيين والسلطة الوطنية الفلسطينية في حال انهيار.
\r\n
\r\n
الهدف المنشود في رأيه هو على العكس معاودة الصلة مع مختلف المجموعات الاسرائيلية والتحدث بلغة تفهمها واشنطن وكسب العالم لصالح القضية الفلسطينية. لذلك على الفلسطينيين تهدئة الاوضاع وترتيب البيت الفلسطيني والسيطرة على الميليشيات المسلحة وبناء مؤسسات شفافة ومركزية وخصوصا وقف الهجمات المسلحة على اسرائيل. انه يدعو الى تجانس بين الاهداف والوسائل اذ ان الصدى الذي يلقاه النضال يتأثر بالطريقة التي يخاض بها هذا النضال. فمن ضبط النفس الفلسطيني يأتي الدعم الدولي الاقوى وقابلية افضل من الشعب الاسرائيلي للمطالب المنطقية.
\r\n
\r\n
يعتقد العديد من الفلسطينيين ان تفضيل الاقناع على الضغط مخاطرة في حد ذاتها وهم يعارضون رؤية ابو مازن ويعتبرون ان اسرائيل وليس الفلسطينيين هي التي عسكرت الانتفاضة. فخلال الاسابيع الاولى من الانتفاضة الثانية كانت الغالبية الساحقة من الضحايا في صفوف الفلسطينيين، وعندما كان يصار الى ترتيب وقف لاطلاق النار بصورة غير رسمية كانت اسرائيل تخرقه. واذا توقف الفلسطينيون عن القتال فيعني ذلك نزع سلاح من طرف واحد يحرمهم من اي وسيلة ضغط.
\r\n
\r\n
تنبع نظرية ابو مازن من خبرته الطويلة مع اسرائيل والاسرائيليين. فقد شكل في السبعينات الى جانب عرفات وابو جهاد [3] (خليل الوزير) ثلاثيا مكلفا شؤون الاتصالات مع الاسرائيليين. وقد بدأت تلك الاتصالات مع مجموعات هامشية ومناضلين مناهضين للصهيونية لتتسع شيئا فشيئا وتشمل مواطنين عربا في اسرائيل واليسار الصهيوني وضباطا سابقين معتدلين واعضاء في حزب العمال. بعد اتفاقيات اوسلو السرية في صيف 1993 والتي لعب فيها دورا محوريا، خطا ابو مازن في اتجاه الحوار مع مجموعات لا تتضح في الظاهر اهمية الحوار معها ولو انه يعتبرها الاكثر تأثيرا وهي الليكود واليهود المتشددون.
\r\n
\r\n
وقد استخلص من كل هذه المبادلات ان المفارقة في المجتمع الاسرائيلي المعقد جدا في تركيبته انه يحمل طموحات بسيطة جدا تتلخص في الأمن والطمأنينة. فاذا تمكنا من توفيرهما ستوافق غالبية الاسرائيليين على التنازلات المطلوبة من اجل اقامة سلام عادل ودائم. ويعتقد بعض الفلسطينيين ان موقف ابو مازن هذا هو في منتهى السذاجة فيما ينظر اليه البعض الآخر انه قمة في الواقعية السياسية.
\r\n
\r\n
ليس لابو مازن مريدون اوفياء ولم يعد له اخصام حقيقيون. هذا ما يفسر القبول بصعوده الميسر نسبيا نحو السلطة. بعد اربعة اعوام من المعارك العنيفة والمدمرة وبعد فقدانهم زعيمهم التاريخي الاوحد، كان الفلسطينيون في حال الصدمة والقلق والاجهاد. ولم تكن هناك من رغبة لدى الجمهور او لدى الاحزاب والفصائل في خوض معركة وراثة سياسية. لم يكن ابو مازن الخيار الاول لاي من هذه الاطراف فتحول الخيار الطبيعي لها جميعها. فهو آخر الفلسطينيين الذين يتمتعون بقوام وطني وشرعية تاريخية والوحيد القادر على التكلم أصالة باسم الجميع. وكان اختيار اي اسم آخر سيؤدي الى نزاع اخوي طويل ومكلف. ان انتخاب ابو مازن لم يمنحه الشرعية بقدر ما أكد هذه الشرعية.
\r\n
\r\n
اجتمعت في شخص ابو مازن مجموعة من المصالح المتنافرة. فالفلسطينيون الذي كانوا يخشون بعد وفاة عرفات المزيد من الفوضى رأوا في ابو مازن رمزا مطمئنا حول الامن الشخصي والاستقرار العام. والعديدون الذين انهكتهم الانتفاضة والردع الاسرائيلي يعتبرونه الوحيد القادر على توفير بعض الهدوء وربما بعض التحسين في اوضاعهم. والمناضلون الذين تلاحقهم اسرائيل يرون فيه الشخص القادر على التوصل الى عفو عنهم يمكنهم من استئناف حياة طبيعية. ويرى رجال الاعمال والنخبة الاجتماعية انه يتفهم حاجاتهم ويمكنه خلق مناخ مؤات لمصالحهم. عناصر الادارة البيروقراطية المتضخمة على يد السلطة الوطنية الفلسطينية والآملون باستعادة الفوائد التي خسروها خلال الانتفاضة، يراهنون على مساعدة ابو مازن لهم. كذلك فان اصوله من صفد، المدينة الاسرائيلية راهنا ومساندته العلنية والمتكررة لحق العودة تطمئن الى حد ما اللاجئين وفلسطينيي الشتات القلقين من رؤية مصالحهم تضحى على مذبح المفاوضات القادمة. اخيرا انحاز الكثير من الفلسطينيين الى من اعتقدوا انه يحوز رضى الولايات المتحدة، القوة الوحيدة التي يحسب لها حساب، فبات خيارهم انعكاسا الى حد ما لخيارات الآخرين.
\r\n
\r\n
تلاق غريب حصل هكذا، بين سكان الضفة (الذين يخشون انسحابا اسرائيليا قريبا يقطع الصلة بالقطاع) واهالي غزة (الذين يخافون ان تسعى الضفة الى منع هذا الانسحاب) الذين اتفقوا على ابو مازن بالرغم من مرحلة التشكيك التي تمر بها العلاقات بينهما. فكونه ليس بحليف لهذا او ذاك فهو ليس مصدر تهديد لاي طرف من الاطراف. راهن البعض على تمرد للجيل الجديد في \"فتح\" [4] . لكن الخلافة حصلت باكرا بالنسبة لمشروع مفعم بالمخاطر يقوم على تحدي الهيئات القيادية في حركة ينخرها الانقسام. فالذين يرون انفسهم قادة المستقبل بين الفلسطينيين وجدوا في ابو مازن رجلا دون انحياز خاص ضامن للاستمرارية ووجها انتقاليا مثاليا قادرا على تحضير الظروف المناسبة لمن سيخلفونه في يوم ليس بالبعيد. في الوقت نفسه، تمسك الاوفياء القدامى لعرفات المتعلقون بامتيازاتهم واوضاعهم الخاصة وعلى رأسهم اعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح تمسكوا بمحمود عباس كآخر حاجز في وجه الطموحات المتسرعة للوافدين الجدد.
\r\n
\r\n
من جهتهما تدرك كل من \"حماس\" و\"الجهاد الاسلامي\" جيدا ان برنامج ابو مازن لا يتطابق مع طموحاتهما وهو يرفض على وجه الخصوص العنف وفوضى السلاح ووجود ميليشيات مسلحة. لكنهما تعاملتا معه في الماضي وتعرفان ان اسلوبه اقناعي اكثر منه قمعيا. واذ هما مقتنعتان ان اسرائيل لن تؤمن له وسائل النجاح فانهما مستعدتان للانتظار اذا لزم الامر حتى تنفتح المواجهات من جديد. اما الولايات المتحدة واسرائيل واوروبا والعالم العربي فان ابو مازن يمثل جلّ ما تطمح اليه من وضع حد للهجمات المسلحة وتعزيز المؤسسات الفلسطينية وحكم القانون والقائد الاقدر على تحقيقها. من ضمن هذه المروحة الواسعة جدا من الدعم الداخلي والدولي فان الذين يساندون مجمل برنامجه السياسي اقل بكثير ممن يعتقدون انه سيقف بالنهاية في صفهم. لكن في المرحلة الراهنة يتمتع ابو مازن بهامش نسبي من حرية القول والعمل، هامش اوسع مما كان يأمل به او ما كان يتوقعه عدد من المراقبين. ولم يصدر موقف واضح من الجماعات الفلسطينية التي كانت في السابق تضغط على عرفات وهو يحاول ارضاءها. فمراكز النفوذ السابقة تبدو في الوقت الراهن في حالة ركود لعجزها او لعدم رغبتها في تشكيل معارضة منظمة وفعالة. يأتي موقع ابو مازن هذا أكثر من اي قياديي فلسطيني آخر من كونه يتلاقى مع اولويات شعبه المباشرة اي الامن والعودة الى الحياة الطبيعية بعيدا عن خطر هجمات الجيش الاسرائيلي وبعض العصابات الفلسطينية، تحسين مستوى المعيشة واستئناف النشاطات الاقتصادية وفرصة التجول من جدبد بدون حواجز ومنع التجول الى ما هنالك من ممارسات مذلة. والمفارقة الكبرى هي ان الفلسطينيين يطمحون للعودة الى الحال التي كانت تسود قبل الانتفاضة وهي الحالة التي تسببت في نشوبها والذي يبدو في نظرهم ابو مازن الاقدر على استئنافها.
\r\n
\r\n
لقد فاز السيد أرييل شارون بهذه الجولة من النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي وهو كان يطمح على الدوام لجعل الفلسطينيين يسأمون من معركتهم الوطنية. فإفقارهم او تيئيسهم ليس في نظره هدفا في حد ذاته بل وسيلة لتحقيق غايته. فالفلسطينيون المنهكون اليائسون سيتوقفون عن التركبز على المسائل السياسية من اجل ملاحقة حاجاتهم الحياتية اليومية والمباشرة. هذا ما بات في متناول اليد وفق السيناريو الذي توقع ابو مازن حدوثه منذ اندلاع الانتفاضة المسلحة وهذا ما يبرر معارضته لها منذ انطلاقتها. فالتعب الفلسطيني يناسب الرجلين اذن ولو ان هناك اختلافا في ما ينوي كل منهما الاقدام عليه. فالفرصة ستوفر لشارون وسيلة مناسبة لنزع الطابع السياسي عن الحركة الوطنية الفلسطينية بينما يعتبر ابو مازن على العكس انها مرحلة ضرورية من اجل اعادة تسييس هذه الحركة على قواعد جديدة وصحية.
\r\n
\r\n
فالرئيس الفلسطيني لا يراهن على اتفاق نهائي مع شارون، فالعديد من الامور تفصل بينهما اولها تفضيل رئيس الوزراء الاسرائيلي اتفاقا انتقاليا وجزئيا على المدى الطويل يرجئ في اطاره التفاوض حول المسائل الحساسة أي الحدود ووضع القدس ومصير اللاجئين. ضمن هذه الشروط، لن تكون المرحلة الراهنة مرحلة اتفاقيات ثنائية بل قرارات متعددة الطرف حيث تنسحب اسرائيل من غزة وشمال الضفة على ان يعمد الفلسطينيون الى اعادة ترتيب أمورهم.
\r\n
\r\n
بالطيع يبقى الهدف الاخير لابو مازن التفاوض حول سلام دائم لكنه لا يعتقد ان اسرائيل مسنعدة له الآن. من خلال اعادة بناء المؤسسات الفلسطينية والحركة الوطنية نفسها وبالتخلي جديا عن النضال المسلح واستئناف العلاقات الدولية وبلورة المطالب الفلسطينية الثابتة وغير القابلة للتصرف، يعتبر ابو مازن انه يمكن تحضير مرحلة ما بعد شارون وان الشعب الفلسطيني يمكنه في هذه الاثناء استعادة الهدؤ الذي يطمح اليه.
\r\n
\r\n
يمثل هذا بدون شك رهانا طموحا، فالدعم الذي يلقاه ابو مازن واسع لكنه هشّ، ناتج من ظروف محددة اكثر منه نابعا من اقتناع صريح بشخصه او برنامجه. الخوف والقلق والانهاك الراهنة لن تدوم الى الأبد وعندها ستطفو مطالب ذات طابع أكثر سياسي على السطح كاطلاق السجناء الفلسطينيين وتجميد المستوطنات وانهاء الاحتلال. كلما مر الوقت صارت الخيارات أكثر صعوبة وتكاثر المناهضون المعلنون لهذه الخيارات. فمن بين من يدعمون اليوم ابو مازن من طرف اللسان هناك قسم سيتخلى عنه كما سيزداد بريق المعارضة المنظمة والفعالة وستسمع من جديد اصوات تدعو للعودة الى الكفاح المسلح. يأمل ابو مازن عند حلول هذا الوقت ان يكون قد حقق تقدما ملموسا استقرار، أمن، تحسين شروط الحياة، حرية الحركة يسمح له بمراكمة رأس مال سياسي لن يبدده بسرعة أي أنه يحاول تعويض خسارة دعم بعض المجموعات من خلال تعزيز الدعم الذي يلقاه من آخرين.
\r\n
\r\n
يدين ابو مازن بنجاحه الى المجتمع الدولي وخصوصا الولايات المتحدة. وهو متمسك بوضع حد للعنف وتحقيق الاصلاحات المؤسساتية وذلك لصالح البلاد لكنه يجد فيها فائدة ثانوية وهي دفع الرئيس بوش الى التقيد بتعهداته. فالرئيس الاميركي كان أكد أكثر من مرة ان الفلسطينيين اذا ما توصلوا الى السيطرة على الجماعات المسلحة وادخلوا الاصلاحات الديموقراطية على نظامهم فانهم سيحصلون عندها على دولة سيدة وقابلة للحياة. ان رهان ابو مازن بسيط: فاذا احترم الفلسطينيون تعهداتهم تضطر الولايات المتحدة الى فعل الشيء نفسه وتضغط على اسرائيل كي تقدم على الخطوات السياسية التي يكون الرئيس الفلسطيني بحاجة ماسة اليها.
\r\n
\r\n
يراهن ابو مازن ايضا على التغيرات المقبلة في اسرائيل آملا ان تدفع عودة الهدؤ المواطنين الاسرائيليين الى المطالبة بسلام شامل وان لا يكتفوا بالوضع القائم. اذا حدث هذا التطور في مهل قصيرة نسبيا فان ابو مازن يعتقد ان بمقدوره التعامل مع فقدان الصبر الشعبي من الجانب الفلسطيني وتفادي العودة الى النضال المسلح. انه يحتاج في المحصلة الى انتزاع ما يكفي من المبادرات من اسرائيل والمجتمع الدولي كي لا يصاب الشارع الفلسطيني باليأس من رئيسه بعد ان اصابه اليأس من الاوضاع السائدة. وكان ابومازن راهن وخسر رهانا من هذا النوع خلال رئاسته القصيرة لمجلس الوزراء بين 29 نيسان/ابريل و7 ايلول/سبتمبر 2003. لكن ثلاثة معطيات تبدلت منذ ذلك التاريخ: غياب عرفات واستعداد الفلسطينيين المتزايد لاعطائه فرصة واستخلاص اسرائيل والولايات المتحدة العبر من الخيبة السابقة لابو مازن.
\r\n
\r\n
هنا ايضا الخلاف مع عرفات واضح. فبينما يستفيد ابو مازن من وضعه بسبب تلاقيه مع المزاج الشعبي فان عرفات تمكن كل هذه السنوات من الاستفادة من وضعه لانه كان يحاول من دون ملل التلاقي مع هذا المزاج. من خلال تواصله المستمر مع كل مكونات المجتمع الفلسطيني كان عرفات يسعى للتحرر من الظروف الضاغطة على سياسته بينما في سعي ابو مازن للبقاء خارج المعترك الاجتماعي مخاطرة في ان يبقى على الدوام اسيرا للظروف المحيطة. فالرئيس الجديد يتمتع بسلطة مطلقة اكثر لكن موقتة اكثر. فبما انه تحرر من ضرورة تلبية جميع المطالب اكتسب هامشا واسعا جدا للمناورة لكن اذا تغير المزاج الشعبي واذا امتنعت الولايات المتحدة عن ممارسة الضغط على اسرائيل او اذا لم تقدم هذه الاخيرة التنازلات المتوقعة منها فان التوافق حول شخصه قد يتفكك بالسرعة نفسها التي تكون فيها.
\r\n
\r\n
وفي سياق المفارقات، يواجه ابو مازن تحديين اضافيين. فهو مدين بسلطته الى رصيده الدولي اكثر منه الى شعبيته والرأي العام الفلسطيني مقتنع ان الولايات المتحدة تملك الوسائل وهي لا تملكها لدفع السياسة الاسرائيلية الى الامام. فالفلسطينيون سيتوقعون منه اكثر مما املوا الحصول عليه مع عرفات. من ثم بقدر ما يرتكز الدعم الذي يتمتع به على شعور الفلسطينيين بالانهاك، يؤدي نجاحه في تحسين اوضاعهم الى تراجع هذا الدعم...
\r\n
\r\n
هناك عائقان يلوحان في الافق. الاول في الانسحاب المتوقع من غزة وهي مبادرة لا يمكنه الاعتراض عليها، فاسرائيل تعيد ارضا فلسطينية وللمرة الاولى منذ بدء النزاع يتم تفكيك مستوطنات قائمة فوق الاراضي الفلسطينية. عند تحرر غزة من الوجود الاسرائيلي يمكن اعادة اعمارها وتقديمها نموذجا لباقي الاراضي المحتلة. لكنه لن يقبل هذه العملية بحماسة حيث يخشى العديد من الفلسطينيين ان يترافق الانسحاب من غزة والذي سيجتذب انتباه العالم مع بناء مستوطنات جديدة في غزة والقدس واستمرار بناء الجدار العازل وهما عنصران في مخطط اسرائيلي لفرض حدود استنسابية وتقسيم الضفة الغربية الى كانتونات. وبين هذين الاعتبارين سيتعامل ابو مازن مع هذا الانسحاب باعتباره مكسبا فلسطينيا في اطار خريطة الطريق [5] مع الحد الادنى من التنسيق مع الاسرائيليين ومحاولة لفت الانتباه الدولي الى الضفة الغربية.
\r\n
\r\n
العائق الثاني يتمثل في الاقتراح الاسرائيلي اقامة دولة فلسطينية ضمن حدود موقتة في غزة وبعض اجزاء الضفة الغربية. واذ تطمع كل من الولايات المتحدة واوروبا في حصول هذه الخطوة الى الامام من هوسهما في بناء مؤسسات جديدة فانهما ستضغطان على الارجح على ابو مازن لانتزاع موافقته. والامر نفسه ينطبق على الدول العربية الراغبة في استقرار الوضع باي ثمن واعطاء اشارات الى مواطنيهم حول احراز تقدم مهما كان. لكن اذا كان البعض يرى في خطوة اسرائيل تنازلا فان ابو مازن يعتبره فخا ومحاولة لتمييع النزاع ونزع الطابع العاطفي عنه ليتحول مسألة حدود فقط وبالتالي تأخير الحل الشامل والنهائي. وسيسعى الرئيس الفلسطيني الى ان يبقى امينا لاقتناعاته وعدم اغضاب المجتمع الدولي ولو انه لا يعرف اليوم كيف سيتوصل الى ذلك.
\r\n
\r\n
سيكون لابو مازن كغيره نصيب من التلف من جراء ممارسة السلطة وها هو اكتسب او يجري اكتساب الميل الى الخطب الطنانة والاحتكاك الشعبي الذي اشتهر به عرفات. وبصورة أعم فان شرط استمراره سيكون تعاطيه باللعبة السياسية الدقيقة وهذا ما كان يقلع عنه لصالح \"الختيار\": الاولوية للتقدم المباشر من دون اهمال المسائل السياسية، الحفاظ على الثقة الاميركية والاسرائيلية من دون خسارة ثقة \"حماس\" و\"الجهاد الاسلامي\"، ضبط الميليشيات المسلحة من دون مواجهتها، حماية الحرس القديم في \"فتح\" من دون تخييب امل الجيل الجديد، الحفاظ على الوحدة الوطنية من دون الوقوع في أسرها، استجابة توقعات الولايات المتحدة من دون اعطاء الانطباع بالانحناء امام طلباتها/ انهاء العنف من دون الرضوخ لاسرائيل وبالطبع التمايز عن ميراث عرفات من دون تجاهله. [6]
\r\n
\r\n
سيكون التحدي الرئيسي امامه، مع مرور الزمن، توحيد الآمال العديدة المعقودة عليه وتحويل الدعم الهش الذي يلقاه من مجموعات متنافسة الى تأييد صلب لشخصه وسياسته. فهو في هذا المعنى اقوى واضعف مما تدل عليه نتائج الانتخابات الرئاسية فال 60 في المئة الذين صوتوا له ليسوا من مناصريه وال30 في المئة الذين اقترعوا لمنافسيه لا يمثلون معارضة منظمة أو موحدة .
\r\n
\r\n
جميع الاسئلة المطروحة اليوم تبقى بدون جواب. ماذا يحدث اذا اخفق ابو مازن في تحقيق ما يتوقعمنه الاسرايليون والاميركيون واذا احجم بوش وشارون عن توفير مستلزمات النجاح له؟ ماذا يحصل اذا فشل ابو مازن في الحصول على اتفاق مع \"حماس\" و\"الجهاد\" و\"كتائب شهداء الاقصى\" او اذا حصل على اتفاق لم يصمد او اذا ما ثابرت اسرائيل على مطاردة المناضلين؟ ماذا سيكون عليه المستقبل اذا تفكك الوفاق من حوله او اذا نشبت حرب اهلية؟
\r\n
\r\n
حتى الآن لا يزال ابو مازن محط آمال وطموحات مختلفة ومتناقضة احيانا. الحامي المنقذ، الوجه الانتقالي او الامل الاخير لجيل مضى، الشيطان للبعض والأقل شرا للبعض الآخر، ان ابو مازن هو ذلك كله في نظر الفلسطينيين. نظرا الى الدرب الذي سلكه يمكنه التساؤل من اين خرج كل هؤلاء الذين يراهنون عليه اليوم والى متى سيبقون في جانبه وماذا فعل ليستحق صداقتهم الوفيرة والمربكة.
\r\n
\r\n
\r\n
* هما على التوالي اختصاصي في الشؤون الاسرائيلية الفلسطينية واستاذ في اوكسفورد، ومستشار سابق للرئيس كلينتون ومدير برنامج الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية في مجموعة الازمات الدولية في بروكسيل.
\r\n


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.