لا شكّ في أنّ باراك أوباما هو أوّل رئيس يُتّهم خلال الشهر ذاته بالتصرّف كبطلة روايات الأطفال بوليانا، وجون وين، وهنري كيسنجر، في مجال السياسة الخارجيّة. ومنذ أن استولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أراضي القرم، ندّد المحافظون بالرئيس أوباما، معتبرين أنه عاجز عن تقييم مدى انعدام الرحمة حول العالم، ومدى انتشار مفهوم الحكم المطلق على طريقة هوبز في أرجائه. وقد تمّ تشبيهه ببطلة روايات الأطفال بوليانا – التي تبحث دوماً عن الإيجابيات في الناس. وفي موازاة ذلك، انتقده الليبراليون على ما اعتبروه عادةً راسخة، تقضي بإطلاقه طائرات بلا طيار في شتّى المناسبات. وذلك بعد أن أمر بتنفيذ عمليات قتل جوية استهدفت مئات الأفراد، ما يجعله شبيهاً بجون وين، الذي سعى لاقتصاص العدالة في حقّ من عرّض الولاياتالمتحدة للأذيّة، أو ربما خطط لإلحاق الأذيّة بها. ولمزيد من التشويق، اتهم النقاد اليساريون واليمينيون أوباما بأنه من معتمدي مبدأ محاكاة الواقع على طريقة كيسنجر، وبأنه يسعد لمشاهدة النظام السوري وهو يقمع شعبه، لأنّه على الرغم من الطابع المأساوي لما يحصل، فإنّ المصالح الأميركية شبه معدومة في هذا المكان. وليس سهلاً أن يتصرّف المرء مثل بوليانا، وجون وين، وهنري كيسنجر في آن، ما يحثّنا على التساؤل عمّن يكون أوباما – فعلياً – على صعيد السياسة الخارجية. ومن وجهة نظري الشخصيّة، لا أراه شبيهاً ببوليانا بقدر ما يزعم ناقدوه، وأعتبره شبيهاً بجون وين وهنري كيسنجر أكثر ممّا يقرّون به. إلاّ أنّ هويته لا تزال مبهمة على صعيد التحديات القيادية العظمى في مجال السياسة الخارجية – التي تتعدى نطاق القرم، وتبقى ظاهرة في الأفق البعيد. لقد بدا أوباما متردّداً حيال خوض حرب في القرم، لأنّ المنطقة بقيت خلال وقت طويل تشكّل جزءاً من روسيا، فضلاً عن كونها تضمّ قاعدة بحرية روسية، وتأوي سكّاناً يكنّون الولاء لروسيا. وكان أوباما محقاً عندما فرض عقوبات محدودة، كردّ منّا على استيلاء بوتين على منطقة القرم، وعندما حاول اللجوء، بكلّ هدوء، إلى السبل الدبلوماسية، في سبيل تجنّب حربٍ أوسع نطاقاً على أوكرانيا – لأنّ عوامل مؤثّرة أخرى تنعكس على بوتين. وفي هذا السياق، لا تستخفّوا بما سيجنيه بوتين على نفسه من تصرّفات خرقاء في عطلة نهاية الأسبوع في القرم – أمام العالم أجمع – وبمدى انعكاس ذلك على روسيا، التي تشهد عملتها وأسواق أسهمها تدهوراً جرّاء مغامرة فلاديمير في القرم. ونظّم بوتين بين ليلة وضحاها استفتاءً انفصاليّاً سيحدّد مستقبل القرم – من دون أن يمنح المعارضة وقتاً لتنظيم حملة، علماً بأنّ المنطقة خاضعة للاحتلال العسكري الروسي، وفي الأمر انتهاك للدستور الأوكراني. وبالتالي، ثمّة خياران للتصويت في الاستفتاء: «صوّتوا 1 إن أردتم الانضمام إلى روسيا»، أو «صوّتوا 2 إن أردتم فعلاً الانضمام إلى روسيا». وليس هذا من تصرفات قائد قوي وراسخ المكانة. وبحلول يوم الاثنين القادم، من المفترض أن يظهر وسم خاص به على موقع «تويتر» بعنوان: #مهزلة_بوتين #PUTINFARCE. وإن كان أوباما قد قرّر اعتماد منحى واقعيّ على طريقة كيسنجر، وأظهر تردّداً حيال الانغماس في الحرب الأهلية السورية، أو في المشاكل الأوكرانيّة، فهو فعل ذلك لأنّه تعلّم من تجربة العراق وأفغانستان أن تواجد أشرار في هذين البلدين لا يعني أنّ جميع أعدائهم أبرار. وقد تبيّن في الدولتين المذكورتين أن قادةً كثيرين يستغلّون حرّية التصرّف التي يحظون بها لنهب البلاد بدلاً من تحريرها. ومن واجبنا طبعاً مساعدة المُصلحين الصادقين الذين يبرزون في سوريا أو أوكرانيا. ولكن بعكس السيناتور ماكين، ما عاد الأميركيون، بمعظمهم، راغبين في الانصياع إلى أي شخص يكتفي في إظهار الولاء للأميركيين «راجعوا في القاموس المعلومات الواردة عن حامد قرضاي». والآن، باتوا حذرين إزاء تكبّد تكاليف إغاثة وفواتير غاز تعود لبلدان لا نفهمها. وبالنسبة إلى تشبيه أوباما بجون وين، واعتباره «أسرع مرسل طائرات بلا طيار في الغرب»، أرى من واجب كل رئيس أميركي أن يعتمد سلوكاً من هذا القبيل في عالم اليوم، الذي بات يضم حشود أشخاص غاضبين ونافذين، يتمنّون الشرّ لأميركا، ويملكون نفاذاً إلى الصواريخ، ويعيشون على مساحات خارجة كلّياً عن أيّ سيطرة. وبالتالي، ما من مشكلة بنظري إن كان أوباما يشبه جون وين أو هنري كيسنجر. وإن أردتم انتقاده أو امتداحه على سياسته الخارجية، فاعرفوا أنّ الاختبارات الفعليّة تندرج على فئتين: 1- ما مدى براعته في القيادة من الكواليس في أوكرانيا؟ 2- ما مدى براعته في القيادة علانيّةً في روسيا، وإيران، والصين؟ لعلّه ما من طريقة لإنقاذ القرم من قبضة بوتين على المدى القصير، ولكننا نرفض أن يتحرّك إلى أبعد من القرم، وأن يضمّ إلى بلاده أجزاء شرق أوكرانيا التي يقطنها سكّان ناطقون باللغة الروسية. وفي سبيل منع ذلك، يجب أن نكون على أتمّ استعداد لتقديم الأسلحة للحكومة. ولكن إيّانا أن نغضّ الطرف عن أنّ المفتاح الأساسي إبقاء القسم الأكبر من أوكرانيا بعيداً عن براثن روسيا سيرتهن بقدرة الأوكرانيين على توحيد صفوفهم، بطريقة تشمل الأكثرية التي ترى مستقبلها مع الاتحاد الأوروبي، وأقلية الروس التي لاتزال تعتبر أنّ نقاطاً مشتركة تجمعها بروسيا. وفي حال أدّت الدراما الأوكرانية إلى نشوء دولة أوكرانية موحدة – تبحث عن ديمقراطية غير فاسدة ومرتبطة بأوروبا – وتصدّيها لبوتين الذي يحاول إعادة ضم أوكرانيا بالقوة إلى الإمبراطورية الروسية، فلا شكّ في أنّ بوتين سيتكبّد خسارة. ولكن في حال بقي الأوكرانيون منقسمين، وطغت الأحزاب القومية المتشددة على البلاد، وقرّرت عزل شريحة السكان المؤيدين لروسيا، فسيشوّه بوتين سمعة الحركة التحريرية الأوكرانية، ويستغل الانقسامات الحاصلة لتبرير تدخلاته. وبالتالي، تصبح مساعدتنا عديمة الجدوى ولن نتمكّن من مساعدتهم إن لم يسعهم مساعدة أنفسهم. وقد سبق للأوكرانيين أن هدروا ربع قرن من الزمن، بعد أن تعذّر عليهم رصّ صفوفهم كما فعلت بولندا. ويمكن تعداد ثلاث مسائل كبرى يجب أن يقودها أوباما علانية، وتتمثل بتغيير طابع الحكومة الروسيّة، وبمنع إيران من الحصول على سلاح دمار شامل، وبمنع انطلاق شرارة الحرب في بحر الصين الجنوبي بين بيجينغ وطوكيو، وأنا سأترك مسألتَي الصينوإيران إلى وقت لاحق. ولكن بالنسبة إلى روسيا، كنتُ أعربتُ عن اعتراضي الشديد على توسيع نطاق الناتو، لأنني اعتبرتُ آنذاك، ولا أزال أعتبر اليوم، أنه ما من مشكلة جيوسياسية كبرى يمكننا حلها من دون تعاون روسيا. ويتطلّب ذلك دولة روسيّة لا تحدّد عظمتها عبر الاعتراض علينا وعبر إعادة إنشاء الإمبراطورية السوفياتية، بل عن طريق إطلاق العنان لعظمة شعبها. ويتّضح بصورة متزايدة أنّ روسيا بوتين لن تكون يوماً كذلك، فهي تؤيد الفساد بالجملة، والقمع المتزايد، وعلاقة بلا أرباح ولا خسائر مع الغرب، علماً بأنّ بوتين يبحث اليوم عن كرامة روسيا في كل الأماكن – وبكل الطرق- الخاطئة، وبأنّ الشعب الروسي وحده قادر على استبدال المنحى البوتينيّ. نوع المقال: الصين روسيا سياسة دولية الولاياتالمتحدة الامريكية