رياضة النواب تطالب بحل إشكالية عدم إشهار 22 ناديا شعبيا بالإسكندرية    المصريين الأحرار بالسويس يعقد اجتماعاً لمناقشة خطة العمل للمرحلة القادمة    التربية النوعية بطنطا تنظم ملتقى التوظيف الثالث للطلاب والخريجين    رايان رينولدز يتصدر إيرادات السينما العالمية بفيلم الأصدقاء الخياليين - IF ويحقق 59 مليون دولار    أخبار الأهلي : أحمد الطيب عن لاعب الأهلي : هاتوه لو مش عاوزينه وهتتفرجوا عليه بنسخة زملكاوية    السر يملكه القائد.. اللواء هشام حلبي يكشف أسباب تحطم طائرة رئيسي (فيديو)    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد بعد هجوم ميلي على حكومة سانشيز    أسعار الفراخ اليوم 20 مايو 2024 للمستهلك بجميع الأسواق    صلاح مودعاً كلوب: آمل أن نلتقي مرة أخرى    الرياضية: جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    قوات وحدة الإنقاذ النهري ب الغربية تستخرج جثمان غريق من بحر كفر الزيات    صندوق النقد الدولي: البنوك القطرية تتمتع برأس مال جيد وسيولة وربحية    النجمة ديمي مور تخطف الأنظار في فعاليات اليوم السادس لمهرجان كان السينمائي    جنوب أفريقيا ترحب بإعلان "الجنائية" طلب إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت    تكريم نيللي كريم ومدحت العدل وطه دسوقي من الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    الأرصاد تحذر من الطقس غداً.. تعرف علي أعراض ضربة الشمس وطرق الوقاية منها    لحرق الدهون- 6 مشروبات تناولها في الصيف    وزير الرى: اتخاذ إجراءات أحادية عند إدارة المياه المشتركة يؤدي للتوترات الإقليمية    أحمد الطاهري: مصرع الرئيس الإيراني هو الخبر الرئيسي خلال الساعات الماضية    ليفربول يعلن رسميًا تعيين آرني سلوت لخلافة يورجن كلوب    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    وزير السياحة يتفقد متحف شرم الشيخ.. ويوجه بتضمينه في برامج الزيارات    وكيل صحة الشرقية يتفقد أعمال التطوير بمستشفى سنهوت التخصصي    رئيس الوزراء يشهد افتتاح جامعة السويدى للتكنولوجيا "بوليتكنك مصر" بالعاشر من رمضان.. ويؤكد: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    انقسام كبير داخل برشلونة بسبب تشافي    الشرطة الصينية: مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين إثر حادث طعن بمدرسة جنوبى البلاد    تراجع المؤشر الرئيسي للبورصة بختام تعاملات جلسة الإثنين    «سوميتومو» تستهدف صادرات سنوية بقيمة 500 مليون يورو من مصر    أول تعليق من التنظيم والإدارة بشأن عدم توفير الدرجات الوظيفية والاعتماد ل3 آلاف إمام    حجز شقق الإسكان المتميز.. ننشر أسماء الفائزين في قرعة وحدات العبور الجديدة    الأوبرا تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    "اليوم السابع" تحصد 7 جوائز فى مسابقة الصحافة المصرية بنقابة الصحفيين    قائمة الأرجنتين المبدئية - عائد و5 وجوه جديدة في كوبا أمريكا    محافظ دمياط تستقبل نائب مدير برنامج الأغذية العالمى بمصر لبحث التعاون    إصابة 8 أشخاص بحادث تصادم ميكروباص وربع نقل بالطريق الزراعى فى أسوان    تحرير 174 محضرًا للمحال المخالفة لقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    بدأ العد التنازلي.. موعد غرة شهر ذي الحجة وعيد الأضحى 2024    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. الإفتاء توضح    الصحة تضع ضوابط جديدة لصرف المستحقات المالية للأطباء    تراجع ناتج قطاع التشييد في إيطاليا خلال مارس الماضي    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    المالديف تدعو دول العالم للانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل    وزيرة الهجرة: الحضارة المصرية علمت العالم كل ما هو إنساني ومتحضر    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    ليفربول ومانشستر يونايتد أبرزهم.. صراع إنجليزي للتعاقد مع مرموش    إيتمار بن غفير يهدد نتنياهو: إما أن تختار طريقي أو طريق جانتس وجالانت    الإعدام شنقًا لشاب أنهى حياة زوجته وشقيقها وابن عمها بأسيوط    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    توجيه هام من الخارجية بعد الاعتداء على الطلاب المصريين في قيرغيزستان    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    10 ملايين في 24 ساعة.. ضربة أمنية لتجار العملة الصعبة    أسرته أحيت الذكرى الثالثة.. ماذا قال سمير غانم عن الموت وسبب خلافه مع جورج؟(صور)    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    خلاف في المؤتمر الصحفي بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية بسبب أحمد مجدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار الموضوعي وسيلة ضرورية لتأمين السلام العالم
نشر في الشعب يوم 27 - 01 - 2007


بقلم: دكتورة / زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

الحوار هو وسيلة التعبير بين شخصين أو أكثر ، وتتسع مدى عبارة "أو أكثر" لتشتمل على جماعة متفاوتة العدد أو حتى على شعوب بأسرها ، أي أنه الدعامة الأساسية التي تربط بين الأفراد في تعاملهم وتجعل تعايشهم السلمي أمراً ممكناً .
لذلك آثرنا اختيار "الحوار" كأساس التعايش السلمي بين المسلمين وغير المسلمين موضوعاً لهذا البحث ؛ إذ يوجد بين منتسبي كل الأديان من لا يريد الحرب و الصدام ، ويسعى إلى السلام العالمي بموضوعية وأمانة ، فإلى هؤلاء جميعاً نتوجه بهذا البحث الذي ينقسم إلى ثلاثة أجزاء هي :
1- مفهوم الحوار عند المسلمين.
2- مفهوم الحوار عند المسيحيين (من خلال وثائق الكنيسة الكاثوليكية التي تقود عملية الحوار على الصعيد العالمي)
3- وجوب وضع القواعد المشتركة اللازمة قبل البدء في الحوار وعدم إقصاء نقاط بعينها بزعم أنها خارج نطاق النقاش.
1- مفهوم الحوار عنْد المسلمين:
وقبل أن نتناول هذا المفهوم ، نبدأ بنبذة عن الحوار نفسه ، عن ضوابطه ، وعن أساليبه ومعوقاته . ويوضح الأستاذ محمد بدري ([1]) أهمية وجود ضوابط للحوار ومنها : السماع الكامل ، وتجريد الأفكار ؛ لأن هدف الحوار هو الاستفادة من هذه الأفكار وليس تدمير الأشخاص ، وترك المراء و التنافر ؛ لأن الحوار لون من ألوان التشاور ، ولابدّ فيه من الصدق والوضوح في الفكرة وفي الأسلوب ، وضبط مسار الحوار بالعلم والعدل وبالمنطق العملي ، والوصول إلى هدف الحوار من أقصر طريق بعيداً عن التحايل وعن المراوغة .
ويعتمد فنّ الحوار على عدة أساليب ، منها: الإعداد الجيد لتمهيد الأرضيات المشتركة ، فالمقصود هو إجراء حوار بنَّاء وليس سحق الآخر أو إفحامه ، والالتزام بالصمت الواعي ، والتسلسل المنطقي ، والأخذ بالتساؤل الهادف المفتوح ، عملاً بمقولة "فن الممكن في حوار المستحيل " ، وذلك مع العمل على الابتعاد عن معوقات الحوار لعدم الوصول إلى الفرقة والتنافر . و أهم هذه المعوقات : التعصب والحزبية ، التصنيف المتعسف ، الذاتية المتضخمة ، النظرة الأحادية ، الحجة الدائرية أو السفسطة ، وكراهية الآخر.
ويوضح الأستاذ نجيب نور الدين ([2]) أنه لم يرد معنى مباشر لكلمة الحوار في كتب اللغة ، و إنما يعتبرها اللغويون اشتقاقاً من حَوَرَ ، ومنها أحار عليه جوابه أي رده ، وأحرت له جواباً، وما أحار بكلمة . والاسم من المحاورة والحوير ، ويقال : سمعت حويرهما وحوارهما ؛ والمحاورة هي : المجاوبة ، والتحاور التجاوب (لسان العرب). ويُحاوره أي يراجعه في الكلام، ويجاوبه المجاوبة ، والتحاور التجاوب [لطبري].
أما الجدل فيعني في اللغة "شدة الفتل" ، جدلت الحبل وأجدله جدلاً إذا شددت فتله وفتلْته فتلاً محكماً .. والجدل هو الصراع : جدله جدلاً وجدّله فانجدل وتجدل : صرعه على الجدالة وهو مجدول .. والمجدّل الملقي بالجدالة ، وهي الأرض (لسان العرب).
أي أن الحوار يقوم على آداب وضوابط معينة ، عبر النقاش وتبادل الآراء ، ملتزماً
أو متحلياً بمستوى من الرقي الإنساني ، أما الجدل فيفترض وجود خصمين ويتسم بالعنف والحدة إلى جانب الاستعلاء .. وقد اكتست كلمة الجدل بفكرة الكلام العقيم الذي يُخضع الفكرة إلى متاهات لا نهاية لها ، وإنَّ أهم ما يفرق بينهما هو أن الحوار يعتمد على إقناع الطرف الآخر ، أما الجدل فلا يرمي إلا إلى مصارعة الخصم بغية تدميره.
لذلك كان التأكيد - في المفهوم الإسلامي - على ضرورة التجرد في طلب الحق ، وأن يدخل الإنسان ساحة الحوار باحثاً عن الحق حتى ولو كان عند خصمه ، أي أن يكون المحاور - على حد قول أبي حامد الغزالي ([3]) - : "كناشد ضالة ؛ لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه ، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً ، ويشكره إذا عرّفه الخطأ أو أظهر له الحق".
ويوضح الأستاذ أحمد الصويان ([4]) تميز المنهج الإسلامي القائم على "التوازن الشامل والعدل الكامل ، فلا يجوز أن يحجب شيئاً من الحقيقة ، أو أن يدفن شيئاً من الأدلة التي تدعم قول المخالف ، فهذه صفة ذميمة تدل على حب الذات وقلة الإنصاف.
ونزاهة المحاور وموضوعيته محور أساس من مَحَاوِر المنهج العلمي ، وهي التي يعبّر عنها في الاصطلاح الحديث : بالأمانة العلمية .
وقد حضَّ الإسلام على الحوار في التعامل مع الآخر لأنه أقرب إلى طبيعة الرسالة ومضمونها ، ونهى عن الجدل وذم المتجادلين خاصة من يجادلون بغير علم .. بل يرى الأستاذ محمد فضل الله ([5]) أن القرآن هو "كتاب الحوار" ، وأن الهدف الأساسي له هو الوصول إلى الحق ؛ كما يعلمنا القرآن الكريم رفض الباطل جملة وتفصيلاً في أي موقع من مواقعه ، وذلك لعدم إقرار الباطل أو الاعتراف بشرعيته ، أي أن عدم رفض الباطل يعد بمثابة خيانة لقضية الحق.
وقد ذم الله - عزَّ وجل - مَنْ يكتم الحق أو يلبسه بالباطل قائلاً : {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران : 71] ؛ {وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 42].
ولم يطلق الأستاذ /محمد فضل الله عبارة "كتاب الحوار" جزافاً على القرآن الكريم ، فهو يشتمل فعلاً على مختلف أنواع الحوار وعلى تنويعاتها المختلفة ومنها : الحوار مع الملحدين ، ومع المنكرين للميعاد ، ومع المنكرين للنبوة ، ومع أهل الكتاب من يهود ونصارى ، ثم الحوار في إطار سؤال ، وكيف ينتهي الحوار ، كما يتضمن الحوار القصصي مع الأنبياء ومع بعض نماذج البشرية.
وترد كلمة الحوار في القرآن الكريم في ثلاث آيات : اثنتان منها في سورة الكهف : {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف : 34] ، {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} [الكهف : 37] ، أما الآية الثالثة فترد في سورة المجادلة : {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة : 1].
ويمتد المشهد الذي ترد فيه كلمة الحوار في سورة الكهف من الآية 32 إلى الآية 44 بين رجلين أحدهما غني صاحب حدائق كبيرة والآخر فقير صاحب حديقة صغيرة.
ولا يتضمن هذا المثال مجرد نموذج للحوار الهادئ بين شخصين ، مهما تفاوتت وجهات نظرهما أو اختلفت دوافعهما ، لكنه يتضمن - إلى جانب ذلك - رسالة يمتد معناها عبر الزمان والمكان ، وهو ما تبينّه الأستاذ عباس مهاجراني ([6]) حينما قام بتشبيه موقف الرجلين (الغني والفقير) بموقف الغرب من المسلمين قائلاً : "إن حالة الغرب اليوم بطغيانه المادي وبتملكه القوة والتكنولوجيا المتطورة ووسائل التخريب والدمار الشامل تشبه حالة المحاور الكافر صاحب الجنتين ، وحالة المسلمين في ضعفهم وتأخرهم عن ركب الحضارة الغربية والتكنولوجيا مثل حالة المحاور المؤمن من الرجلين ؛ مع فارق كبير حيث إن المسلمين اليوم ليس لديهم تلك الثقة بالله والاعتزاز بالتوحيد ، والصمود ، والإخلاص ، وقوة النفس ، التي كان المحاور المؤمن يتصف بها" .
وإذا ما كان هذا المثال يتعلق بالجانب المادي الدنيوي ، فإن المثال الآخر الوارد في سورة المجادلة يتعلق بالجانب الغيبي ؛ موضحاً أن الله عز وجل يلم بكل شيء ويسمع حتى الحوار بين الناس فهو "سميع بصير"..
أما كلمة الجدل بتنويعاتها اللغوية فترد في القرآن الكريم تسعاً وعشرين مرة ، منها آيتان تتعلقان بالحوار حينما يحتد ويصل إلى درجة الجدل أي العنف ، وهو المرتبة الأكثر حدة من الحوار لاتساع الفجوة بين آراء المتحاورين ، ومع ذلك نرى الله سبحانه وتعالى يوصي المسلم في نقاشه مع النصارى ، فيما يتعلق بالعقيدة ، أي بأكثر الموضوعات دقة وأهمية وأشدها خلافاً؛ إذ يتعلق برسالة التوحيد ذاتها ، قائلاً : {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت : 46] ، {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125] .
ويتفق هذا المعنى المطلوب من أدب الحوار والجدل مع مفهوم الوحدة بين البشر كما يتجلى في القرآن الكريم : فهو ينص على تنوع البشر وأن هذا التنوع مقصود به التعارف والتكامل ؛ وليس التنافر والتطاحن : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : 13] ، وهو ما يوضحه الأستاذ محمد حسن الأمين ([7]) قائلاً : "إن فكرة التعارف الواردة في الآية القرآنية السالفة الذكر هي فكرة الحوار التي يتبناها الإسلام طريقاً إلى الوحدة ، ولعل مفهوم التعارف هو أرقى تعبير عن فكرة الحوار ، وهو مصطلح إسلامي يركز على الجوانب والأبعاد الإنسانية لفكرة الحوار ، ويتضمن هذا المصطلح إشارة دقيقة إلى دور المعرفة ، والمعرفة المتبادلة في تحقيق أعلى أشكال الاتصال والتواصل بين الأفراد والجماعات الإنسانية" .
2- مفهوم الحوار عند المسيحيين :
ندرك مما تقدم أن الحوار في الإسلام له وظيفة جوهرية مرتبطة بالإنسان ، وهي الوصول إلى الحق وتعميق الإيمان ، من خلال المعرفة والتعارف وتبادل الآراء بالحسنى وبالتي هي أحسن ..
أما في الغرب ، فقد بدأ الحوار مع أفلاطون على أنه فن قائم بذاته وليس القصد منه الخروج بنتيجة .. أو على حد قول أفلاطون : "إن هدف الحوار ليس إمدادنا بالمعلومات والمعارف بقدر ما يقدمه من مساعدة على التدرب على فن الجدل" !! ، وما إن انتقل الحوار ليدخل في مجال التعامل بين المسيحية والإسلام حتى اتخذ أعنف أشكال الجدل بمختلف صوره وأبشعها، ويوضح جوليان رييس ([8]). كيف "أن الحوار قد بدأ مع الإسلام قبل الحروب الصليبية التي ما أن توقفت حتى حل التبشير مكانها ، وكيف أن هذا الحوار منذ اللحظات الأولى كان قائماً على التجريح والعنف ، ولا يهدف إلاّ إلى تشويه الإسلام والمسلمين".
ويشير رييس إلى أن "أول رد فعل يرجع إلى تلك الأيام التي تَلَقى فيها قيصر بيزنطة ميشيل الثالث (842 م - 867م) خطابين من المسلمين يتضمنان رفض فكرة الله المتجسد في يسوع. وقام القيصر بتحويل الخطابين إلى نيستاس ، أحد مثقفي البلاط ، للرد عليهما. وأجاب نيستاس قائلاً : "إن محمداً مهووس بفكرة إثبات رسالته ، وإقرار أصلها الإلهي ؛ الأمر الذي يفسر منهجه القائم على الاحتيالات ، والخبث والرياء ، والدهاء ، والتظاهر ، والأكاذيب" ثم اختتم بحثه بأن "الرسالة القرآنية من وحي الشيطان" [صفحة 231].
ويضيف جوليان رييس قائلاً : "وانهال المفسرون البيزنطيون على النص القرآني ليقرأوه بعيونهم كمسيحيين عدوانيين ضد الإسلام .. وهكذا تكونت بالتدريج فجوة شاسعة بين الدين الإسلامي والصراع المسيحي" [صفحة 232].
ثم يواصل قائلاً : "ومن الملاحظ أن اعتراضات المسلمين ظلت واحدة لم تتغير في أي مكان ، فهي تنتقد ألوهية يسوع ، وسرّ التثليث ، وعبادة الصليب ، وتبجيل الأيقونات ، والمساس بوحدانية الله" ، موضحاً كيف "واصل الجدل المسيحي مسيرته في البحث عن أدلة وبراهين تثبت دونية الإسلام بالنسبة للمسيحية ، مع التركيز على تجريح شخصية محمد واتهام أتباعه والعنف الذي يستخدمه. وبعد أن تعرضوا للنبي انهالوا على القرآن قائلين: إنه ليس منزلاً من عند الله وأنه غير قادر على منح الخلاص للبشر".
وما إن خمدت الحروب الصليبية حتى بدأ الحوار بهدف محاصرة الإسلام عن طريق الإرساليات التبشيرية .
ويرى ج. ليكليرك ([9]) أن القس بطرس المبجل (1092 - 1156م) هو رائد الحوار بين المسيحية والإسلام في الغرب إذ "قال للمسلمين : إنه لن يبدأ حرباً صليبية جديدة بالسلاح وإنما بالكلمات" . الأمر الذي يكشف عن حقيقة معنى الحوار في المسيحية منذ لحظاته الأولى .. ذلك الحوار الذي بدأه نفس ذلك القس المبجل مع "مسلمي أسبانيا وتمخَّض عن إبادتهم جميعاً وإلقاء الإسلام بعيداً عن أسبانيا" على حد وصف (جوليان رييس في صفحة 245) من كتابه المذكور.
ومن الثابت تاريخياً أنه كان أول من أمر بترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية أيام حرب الاسترداد ، وقد طلب من المترجم "أن تؤدي ترجمته إلى محو أي أثر للإسلام من ذهن المسلمين الذين تم تنصيرهم حديثاً في تلك الحرب [كتاب رجيس بلاشير "القرآن" ، 1969م].
ولا يتسع المجال هنا للحديث عن بدء تنظيم الإرساليات التبشيرية في أواخر الحروب الصليبية عقب مجمع لاتران الرابع عام 1215م ، وإن كان رييس يستعرضها بالتفصيل حتى العصر الحديث ، موضحاً كيف أنه "بازدهار الإمبريالية الأوربية طوال القرن التاسع عشر ، بدأ احتلال مواقع استراتيجية وتم انتزاعها من نفوذ المسلمين ، ومنها : مصر وإيران وأفغانستان والشرق العربي وشمال أفريقيا" (ص 356) ، فالارتباط الحميم بين الاستعمار والتبشير من القضايا التي لم تعد بحاجة إلى مزيد من الأدلة والبراهين ، فمتابعة الأحداث الدائرة توضح كيف أنها لا تزال تتواصل حتى يومنا هذا .. لكننا سننتقل إلى مجمع الفاتيكان الثاني (1962 - 1965م) ، الذي يمثل نقطة تحول جذرية في تاريخ الكنيسة الفاتيكانية ؛ التي قررت استبعاد أو احتواء الخلافات العقائدية التي بينها وبين مختلف الكنائس لتتَّحد جميعاً في حرب كاسحة ضد الإسلام !
وتنص الوثيقة المعروفة باسم "في زماننا هذا" الصادرة عن مجمع الفاتيكان الثاني على انه توجد بعض الحقائق في الديانات الأخرى ، التي تنظر هي إليها على أنها بذور أو أجزاء من المسيحية ؛ عليها أن تنقيها من شوائبها ، بينما تؤكد نفس الوثيقة "أن رسالة الكنيسة هي ألا تكف عن التبشير بأن المسيح هو الطريق ، وهو الحقيقة ، وهو الحياة ؛ والذي يتعين على الناس أن يجدوا فيه اكتمال حياتهم الدينية والذي تصالح الله مع البشر من خلاله" !
ويوضح الأب كاسبار ([10]) في تعليقه على وثيقة الفاتيكان في حواره مع الإسلام : "إن نص الوثيقة تفادى اتخاذ موقف من المناقشات الدائرة حول علاقة الإسلام بالتراث الإنجيلي ، وقد سار العديد من المتخصصين في الإسلام على منهج ماسينيون ؛ الذي كان قد أشار إلى وجود غصن صغير من التراث الإنجيلي عليهم أن يتلقفوه ، بينما أصر فريق آخر على الخلافات القائمة بين القرآن والإنجيل .. ووفقاً لهذا المنظور الثاني لا يتمّ اعتبار الإسلام ديانة من الديانات التوحيدية الناجمة عن إبراهيم ، وإنما مجرد ديانة مرتبطة بالإنجيل بحكم الاستعارات المأخوذة عن اليهودية والمسيحية ، وقد رفض المجمع أن يأخذ موقفاً من ذلك الصراع الذي لم ينته بعد ، مكتفياً بوضع الإسلام في أول صف الديانات التوحيدية غير المسيحية".
وبذلك فإن الكنيسة لا تزال لا تعترف بالإسلام ولا بأصالة الوحي والتنزيل ولا بسيدنا محمد r كخاتم للنبيين ، مكتفية بأن تنظر "بتقدير" على حد قول الوثيقة ، إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحي والدائم ، الرحمن والقدير ، خالق السماوات والأرض ، الذي تحدث إلى البشر" .. أي أنها لا تعترف بأنه تحدث إلى سيدنا محمد عن طريق الوحي ، ولا على أنه خاتم رسالة التوحيد بعد أن كشف القرآن الكريم ما تم في نصوصهم من تحريف وتبديل ؛ إضافة إلى شركهم بالله بعد تأليههم السيد المسيح!.
ومما يؤسف له أن يكون الحوار في مفهوم الكنيسة ، منذ بدايته وحتى يومنا هذا ، لا يعني إلا أنه (حرب صليبية بالكلمة) بدلاً من السلاح بغية اقتلاع الإسلام و تنصير المسلمين. ولا يتسع المجال هنا لنورد كل المراجع الكنسية التي تتضمن شرحاً لمعنى الحوار بذلك المفهوم ؛ لكننا سنورد بعض النماذج لأهمها أو لتلك التي استطعنا الحصول عليها ، وفيما يلي بعض المقتطفات من الكتاب المعنون : "توجيهات من أجل حوار بين المسيحيين والمسلمين" ([11]) الصادر عن الفاتيكان عام 1969م ، أي بعد انعقاد المجمع الفاتيكاني بأربع سنوات:
هناك موقفان لابد منهما أثناء الحوار : أن نكون صرحاء ، وأن نؤكد مسيحيّتنا وفقاً لمطلب الكنيسة. (ومطلب الكنيسة بات معروفاً).
أخطر ما يمكن أن يوقف الحوار : أن يكتشف مَنْ نحاوره نيّتنا في تنصيره ، وإذا ما قد تم استبعاد هذا الموقف بين الكاثوليكي وغير الكاثوليكي ، فإنه لم يستبعد بعد بين المسيحي والمسلم. وإذا ما تشكَّكَ من نحاوره في هذه النية علينا بوقف الحوار فوراً ، وهذا التوقف المؤقت لا يعفينا من تأكيد مواقفنا بوضوح .
سيفقد الحوار كل معناه إذا قام المسيحي بإخفاء أو بتقليل قيمة معتقداته التي تختلف مع القرآن.
يجب تفادي الدخول في مناقشات حول ما يرد في القرآن بشأن المسيح والمسيحية ، ولنترك المسلم يتساءل عنها كيفما شاء ، وعلينا أن نتذكر أن قبولنا لسّر المسيح يمثل سرّ إيماننا.
من أهم عقبات الحوار ما قمنا به في الماضي ضد الإسلام و المسلمين (أي من المظالم والحروب الإبادية ) وهذه المرارات عادت للصحوة حاليا ، وقد أضيفت الآن قضية إسرائيل وموقف الغرب منها ، ونحن كمسيحيين نعرف ما هي مسئوليتنا حال هذا القضية . وعلينا أن نبحث دائماً عن توجه إنساني ؛ خاصة أن حل هذه المشكلة ليس في أيدينا.
لا يكفي أن نتقرب من المسلمين ؛ بل يجب أن نصل إلى درجة احترام الإسلام على أنه يمثل قيمة إنسانية عالية وتقدماً في التطور الديني بالنسبة للوثنية.
مراعاة سوء فهم المسلم للعقيدة المسيحية لأن العبارات الواردة في القرآن عن المسيحية تشوهها ، فهم ينفون التثليث ، وتجسد الله في المسيح ، و أي حوار في هذا المجال سيواجه بالفشل ما لم يغير المسلم من موقفه.
في أي حوار يجب على المسيحي أن يقنع المسلم بأن المسيحية قائمة على التوحيد وألا يناقش أية تفاصيل ، فأي كلام سيقوله المسيحي تبريراً للعقيدة (التثليثية) لن يمكنه أن يقنع به المسلم الذي لا يرى في الثالوث إلا المساس بالتوحيد ، ويستند في ذلك إلى سورة التوحيد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }
ضرورة القيام بفصل المسيحية في حد ذاتها عن العالم الغربي ومواقفه المعادية ومواقفه الاستعمارية ، فالمسلم لم ينس ذلك بعد ..
على من يقوم بالحوار من المسيحيين فصل ما هو دنيوي عما هو ديني في المواقف السابقة للكنيسة والغرب من الإسلام والمسلمين والبحث عن نقاط مشتركة.
مازال المسلم يشك للآن في نوايا المسيحي ، وهي أصعب نقطة في الحوار ، لذلك لا ينبغي على المسيحي أن يعرب عن عدم اكتراثه بذلك فحسب ، وإنما عليه أن يستمع إلى نقاط الاعتراض مع تمسكه في قرارة نفسه بكل عقائده الكنسية .
يجب الاعتماد على الغرس الثقافي ، ولا يجب إغفال الدور الذي يقوم به الغرب في العالم الثالث من تغيير حضاري.
لقد سبق لمثل هذا الحوار بين العرب والمسيحيين والمسلمين أن بدأ في الماضي ، في دمشق (القرن الثامن عشر) ، وقرطبة (القرن الثاني عشر) ، وأقرب منا في الشرق الأوسط (القرن التاسع عشر) ، وهو ما يزال يتواصل، ونأمل أن يزداد في كل مكان توجد فيه المسيحية والإسلام ، ولن نكف أبداً عن تأكيد أهمية الحوار الثقافي - (بالطبع كمدخل لغرض التنصير)!!
لابد من اشتراك جميع المسيحيين في هذا الحوار وليس الذين يعملون في الكنيسة وحدهم.
# # #
وفي كتاب الإرشاد الرسولي الذي أصدره البابا يوحنا بولس الثاني في شهر ديسمبر 1984م بشأن "المصالحة والتوبة في رسالة الكنيسة اليوم" ([12]) ، وهو خطاب يقع في مائة وثماني وعشرين صفحة ، مكوناً من ثلاثة أجزاء ؛ نطالع في الفصل الأول من الجزء الثالث موضوعاً عن "الحوار" ، هو البند رقم 25 ، ويقع في ست صفحات نطالع فيها:
إن الحوار بالنسبة للكنيسة هو عبارة عن أداة ، وبالتحديد : عبارة عن طريقة للقيام بعملها في عالم اليوم.
إن المجمع الفاتيكاني الثاني قد أوضح أن الكنيسة هي علامة لتلك الأخوة التي تجعل الحوار الصريح ممكناً وتزيده قوة ، وذلك بمقتضى الرسالة التي تتميز بها ، وهي : إنارة الكون كله ببشارة الإنجيل وتوحيد البشر بروح واحدة.
لقد خص سلفنا بولس السادس الحوار بقسم هام من رسالته العامة المبدوءة بعبارة "كنيسته" ، حيث وصف الحوار وحدّده تحديداً له دلالته إذ قال عنه "إنه حوار الخلاص" ، والخلاص يعني التبشير والتنصير.
إن الكنيسة تستعمل الحوار كطريقة لكي تحسن حمل الناس على الارتداد والتوبة ، وذلك عن طريق تجديد ضميرهم وحياتهم تجديداً عميقاً ، في ضوء سر الفداء والخلاص اللذين حققهما المسيح ووكلهما لخدمة الكنيسة.
إن الحوار الصحيح يرمي إذن وأولاً إلى تجديد كل فرد ؛ بالارتداد الباطني والتوبة مع احترام كل الضمائر ، اعتماداً على الصبر والتأني ، والتقدم خطوة خطوة ، وفقاً لما تقتضيه أحوال الناس في عصرنا.
إن حوار المصالحة الذي تلتزم به الكنيسة ، على الأخص من خلال نشاط الكرسي الرسولي وأجهزته المختلفة، حوار معقد دقيق . ويمكن القول : إن الكرسي الرسولي يسعى إلى التدخل لدى حكام الشعوب والمسئولين عن مختلف المحافل الدولية أو الانضمام إليهم بإجراء الحوار أو حضهم على الحوار لمصلحة المصالحة الكنسيَّة وسط صراعات عديدة.
والعلمانيون الذين يتخذون التبشير بالإنجيل ميداناً لنشاطهم الخاص في عالم السياسة والاجتماع والاقتصاد الواسع المقصد ، وفي الحياة الدولية ، مدعوون للاتحاد برعاياهم ، والالتزام بالحوار مباشرةً لمصلحة المصالحة مع الكنيسة ، فالكنيسة تقوم بعملها من خلالهم وبواسطتهم.
# # #
وفي الخطاب الرسولي للبابا يوحنا بولس الثاني المعنون "رسالة الفادي" ([13]). الصادر عام 1990 م ، ويقع في مائة وأربع وأربعين صفحة ، نجد في الفصل الخامس خمس صفحات عن "الحوار مع الإخوة من ديانات أخرى" ، نطالع فيها على سبيل المثال:
إن الحوار بين الديانات يشكّل جزءاً من رسالة الكنيسة التبشيرية .. . وهو لا يتعارض مع رسالة التبشير إلى الأمم ؛ بل على العكس من ذلك ، إنه مرتبط بصفة خاصة بها ، ويُعدُّ تعبيراً عنها ؛ لأن هذه الرسالة موجهةً إلى أشخاص لا يعرفون المسيح ولا إنجيله . وهم في أكثريتهم الساحقة ينتمون إلى ديانات أخرى.
لقد نوه المجمع الفاتيكاني الثاني بإسهاب في تعاليم السلطة الناجمة عنه ، وهي تؤكد بثبات دائماً على أن الخلاص يأتي من المسيح ، وأن الحوار لا يعفي من التبشير بالإنجيل.
وفي ضوء المخطط من أجل الخلاص ، فإن الكنيسة لا ترى أي تناقض بين التبشير بالمسيح ، والحوار بين الديانات ؛ لكنها تشعر بضرورة تنسيقها في إطار رسالتها إلى الأمم لأنهما متمايزان .
إن الكنيسة تعترف طواعية بكل ما هو حق ومقدس في التقاليد الدينية عند البوذية والهندوسية والإسلام ؛ كانعكاس للحقيقة التي تنير البشر جميعاً ، إلا أن ذلك لا يخفف من واجبها وعزمها على الإعلان بلا تردد أن يسوع المسيح هو الطريق ، والحق ، والحياة ..
على الحوار أن يوجه وينمّى بالإقناع أن الكنيسة هي الطريق العادي إلى الله ، وأنها وحدها تملك كل وسائل الخلاص.!!! (وهذا بالطبع مصادرة لكل الأديان .. وللحوار).
إن الحوار ليس مجرد نتيجة استراتيجية أو منفعة ، بل إنه نشاط له دوافعه ومتطلباته وكرامته الخاصة.
مع العلم بأن الحوار يمكن أن يكون مصدراً غنياً لكل جانب إلا أنه يجب ألا يكون هناك استسلام ولا تساهل ، بل شهادة متبادلة ؛ بُغية تقدم هؤلاء وأولئك في طريق البحث والاختبار الديني ، وبغية تجاوز الأفكار المسبقة وعدم التسامح وسوء الفهم.
يرمي الحوار إلى التطهير والاهتداء الداخليين اللذين إذا ما تما في خضوع تام للروح القدس أثمرا روحياً.
إن المؤمنين جميعاً ، والجماعات المسيحية كلها مدعوة لممارسة الحوار حتى وإن لم يكن على نفس المستوى وبأشكال متماثلة.
إن إسهام العلمانيين في هذا الحوار ضروري : إذ يستطيع المؤمنون من خلال أمثلة حياتهم وعملهم أن يحسِّنوا العلاقات بين أتباع الديانات المختلفة ، فضلاً عن أن البعض منهم بوسعه الإسهام في الأبحاث والدراسات .
إن الحوار هو الطريق إلى الملكوت ، وهو بالتأكيد سيعطي ثماره ؛ حتى وإن كانت الأزمنة والأوقات في علم الأب.
إن الحوار يعني فرض الارتداد والدخول في سرّ المسيح ‍‍ !! (وهذا يعني أنه لا حوار!!).
# # #
وأثناء اجتماع مجمع الفاتيكان الثاني (1962 - 1965م) ، قام الفاتيكان بتكوين منظمتين هما: المجلس البابوي للحوار بين الديانات ، واللجنة العليا لتنصير الشعوب. وهاتان المنظمتان على اتصال دائم بالعاملين في بعثات التبشير والحوار الديني في العالم أجمع. ومن أهم الوثائق التي صدرت عن لجنة الحوار تلك الوثيقة المعروفة باسم "حوار وبشارة" ([14]). الصادرة عام 1991م ، وتأتي بعد بضعة أشهر من الخطاب الرسولي للبابا يوحنا بولس الثاني ، المعنون "رسالة الفادي" التي روَّج لها البابا وقال : إن عملية فداء المسيح قد تمت من أجل خلاص جميع البشر ؛ (وذلك يعني إخضاع جميع البشر لعملية التنصير التي كان البابا قد طالب بها علناً وعلى الملأ في مدينة "شانت ياقب" بأسبانيا عام 1982م ).
وتدور وثيقة الكادرنيال أرينزي حول كيفية تنفيذ عملية التنصير هذه ، ونطالع بعضاً مما ورد بها :
التبشير : إنها عبارة لها أكثر من معنى ، ومنها : توصيل النبأ السعيد إلى الإنسانية جمعاء ، وتغيير أعماق الإنسان بواسطتها ، وقيام الكنيسة بفرض الارتداد بواسطة الطاقة الإلهية للرسالة ؛ التي تُبلغها للأفراد والجماعات والنشاطات التي ينتمون إليها ، وطريقة حياتهم ، والأوساط المحددة التي يعيشون فيها. كما تعني : التبشير صراحة وبوضوح وبلا مواربة بيسوع المسيح.
الحوار : إنها كلمة تعني من الناحية الإنسانية : الاتصال المتبادل بغية تحقيق هدف معيّن ، كما تشير إلى اتخاذ موقف محدد من الاحترام والصداقة الذي يجب أن يتسم به كافة نشاطات إرسالية التبشير.
البشارة : تعني هذه العبارة توصيل الرسالة التبشيرية ، وسر الخلاص الذي حققه الله للجميع في يسوع المسيح ؛ بقوة الروح القدس. إنها دعوة للانتماء العقائدي بيسوع المسيح ، دعوة للدخول في جماعة الكنيسة عن طريق التعميد ويمكن القيام بذلك على الملأ ، كما يمكن أن يتم سراً في صيغة حوارات خاصة مغلقة .. إن البشارة هي أساس ومركز وقمة التبشير !!
الحوار يدخل في مهمة الكنيسة من أجل الخلاص ؛ لذلك فهو حوار من أجل الخلاص.
الحوار يتم من أجل الخلاص ، والخلاص يعني ارتداد الجميع إلى الرب ، وذلك هو ما يعطي قيمة للحوار ، وأثناء عملية الارتداد هذه يتم القرار بالتخلي عن العقيدة الدينية السابقة ، والدخول في العقيدة الجديدة.
من أهم مجالات الحوار بين الأديان مجال الثقافة ؛ لأن مفهومها أوسع من مفهوم الدين؛ الذي لا يمثل سوى بعداً تصاعدياً واحداً . أما الثقافة - وخاصة الثقافة العلمانية - فيمكنها أن تقوم بدور نقدي بالنسبة لبعض العناصر السلبية في ديانة أو أخرى.
رغم كل المصاعب والعقبات ، فإن التزام الكنيسة بالحوار ثابت ولا رجعة فيه.
إن تقديم الرسالة التبشيرية ليست مساهمة اختيارية بالنسبة للكنيسة ، إنه الواجب الذي يقع عليها بأمر الرب يسوع ؛ حتى يمكن للبشر أن يؤمنوا ويتم إنقاذهم.
# # #
وبعض عرض هذه الشذرات من النماذج التي توضح معنى الحوار في الكنيسة ، وهي شذرات جدّ قليلة ؛ من غثاء يملأ العديد من الكتب والخطب الرسولية ، ومما تقوله الوثائق الكنسية عن موضوع الحوار مع أتباع الديانات الأخرى ؛ لا بُد لنا هنا من الإشارة إلى أحد المواقف العملية التي تكشف عن مدى تلاعب التيار المتعصب في تلك المؤسسة ، والإشارة إلى موقفها في الحوار مع اليهود ، ذلك الموقف الذي يتجلى في ذلك البيان الذي أصدره مجمع الفاتيكان الثاني لتبرئتهم من دم المسيح ..
ويبدأ البيان بعبارة تقول : "بتنقيبه في سر الكنيسة ، يُذكر المجمع بالصلة التي تربط شعب العهد الجديد روحياً بسلالة إبراهيم " ([15]).. وبخلاف هذه "التبرئة "المغرضة ، يتضمن البيان تأكيدين آخرين هما: إدانة العداء للسامية ، واختلاق فكرة أو مقولة أن السيد المسيح قد اختار الموت طواعية ؛ وكأنه قد آثر الانتحار من أجل خلاص جميع البشر كما يقولون!؟ وذلك لتبرئة اليهود من تهمة قتله التي اعتقدوها لمدة ألفي عام تقريباً !
وعلى الرغم من ذلك العداء الممتد قرابة ألفي عام بين الكنيسة الأم واليهود ، قتلة الرب في زعمهم ، ورغم تكرار ذلك القول أو ذلك الزعم في قداس كل يوم أحد في جميع كنائس العالم ؛ استطاعت نفس هذه الكنيسة بكل جبروت أن تتخطى الزمن ، والاتهامات ، والعداوات؛ لتكتشف في "وثائقها المخفية" تلك الصلة "الفجائية " التي تربطها روحياً بسلالة إبراهيم من اليهود - مع تغاضيها عما يتضمنه إنجيل يوحنا وحده من خمس وثلاثين إشارة إلى أن اليهود هم المسئولون عن قتل المسيح . كما لم يرد بأي إنجيل ، على الأقل بأي واحد من تلك الأناجيل الأربعة المعتمدة ، أن السيد المسيح قد اختار عملية الصلب (الانتحار) طواعية وبكامل إرادته!
ومن الغريب أن نرى موقفاً مغايراً لنفس هذا المجمع تجاه المسلمين ، فلقد تمت صياغة البيان الخاص بالدين الإسلامي ، وهو البند الثالث من نفس الوثيقة المعنونة "في زماننا هذا" التي نحن بصددها ، بحيث يستبعد النص قرابة العرب المسلمين لسيدنا إبراهيم ، أو كما يقول الأب كاسبار : "لقد تم استبعاد القرابة التاريخية للعرب كأبناء لإسماعيل ، وخاصة استبعاد الإسلام من التنزيل المسيحي" [صفحة 205] . كما قد تم استبعاد نبوة سيدنا محمد r ، أو أن الله عز وجل قد تحدث إليه وحياً . وتم تعديل صياغة الجملة الخاصة بالتنزيل عدة مرات بحيث لا يفهم منها أبداً "أن الله قد تحدث أيضاً إلى محمد" [ص 218] .
وهنا يوضح الأب كاسبار قائلاً : "وبذلك قد تم الفصل بين كافة الأديان التي تؤمن بإله واحد ، وهي بكاملها عبارة عن مجهودات من البشر ، وبين الديانة الوحيدة الناجمة عن الوحي الإلهي بمعنى الكلمة" (ويقصد المسيحية) [ص 218].
وقد تم تعديل نص البيان الخاص بالإسلام أربع مرات ؛ في عدة جلسات صاخبة ؛ حتى أتى النص بحيث "يضع إبراهيم لا كجدٍّ حقيقي للعرب المسلمين ، وإنما كنموذج ومثال للإيمان الإسلامي من حيث خضوعه لإرادة الله" [ص 221] .
وبذلك انتصر الفريق الذي كان يعارض المصالحة مع الإسلام والاعتراف به ، وهو نفسه الفريق الذي يرى "أن الإسلام خطأ مطلق لابد من نبذه ، إذ يمثل خطراً بالنسبة للكنيسة ولابد من محاربته" . الأمر الذي يورده الأب كاسبار عن المداولات التي سبقت صياغة البيان (صفحة 202).
ولقد سقنا هذا المثال الحيوي على طبيعة الحوار المسيحي المتعنت مع المسلمين ، ومواقف المتعصبين في الكنيسة ؛ لا من باب الإدانة أو التجريح ؛ وإنما لضرورة توضيح الفرق الشاسع بين موقف المسئولين الكنسيين في علاقتهم مع الديانات غير المسيحية ، وإلقاء الضوء على ذلك البيان المجحف في حق الإسلام والمسلمين بكل ما به من مغالطات وتحايل ، وكذلك بمناسبة ما أعلنه الباب يوحنا بولس الثاني في خطابه المعنون "عشية الألفية الثالثة" ([16]). الصادر في 10 نوفمبر 1994م ، والذي يطالب في إحدى فقراته بأن تكون هذه الفترة (التالية لذلك التاريخ) فترة اعترافات بالأخطاء الماضية التي اقترفتها الكنيسة بكافة أفرعها . ونطالع في البند 33 :
"من المفيد أن تَعْبُر الكنيسة هذه الفترة وهي مدركة تماماً لكل ما عاشته طوال العشرة قرون الماضية ؛ إذ أنه لا يمكنها أن تجتاز عتبة الألفية الجديدة دون أن تحث أبناءها على التطهر ؛ وذلك من خلال الندم على الأخطاء والخيانات والتناقضات والتباطؤات ؛ فالاعتراف بأخطاء الأمس يمثل فعل أمانة وشجاعة يساعدنا على تقوية إيمانناً ، ويجعلنا نتبصر إغراءات ومصاعب اليوم ، ويُعدّنا لمواجهتها" .
ومن ضمن هذه الأخطاء التي يشير إليها : "استخدام أساليب التعصب والعنف في خدمة الحقيقة" [بند 35] ، واعتقاد الكثيرين "أن الولاء الصادق للحقيقة يعني إخراس رأي الآخر أو على الأقل تهميشه" [بند 35].
# # #
وباستثناء ما في اعتراف البابا بأخطائه ، سواء كان هو شخصياً أو غيره من البابوات وهو الاعتراف الذي يهدم اتجاهات تلك العقيدة التي فرضها مجمع الفاتيكان الأول عام 1869م حول معصومية البابا من الخطأ ، فإن الأمانة والشجاعة التي يطالب بها يوحنا بولس الثاني جميع المسيحيين ، من حثهم على الاعتراف بأخطائهم حيال اليهود ، و"نبذ استخدام أساليب التعصب والعنف والعمل على عدم إخراس الرأي الآخر" ، نأمل ونتطلع أن يكون هو شخصياً - أو من يخلفه - بكل ما يملك من سلطان وبكل ما يتمتع به من مكانة ، أول من يتقدم بشجاعة وأمانة لإنصاف الإسلام والمسلمين ، وأن يجعل الكنيسة تبحث في أرشيفها السري ووثائقها المحتجبة ، إلى جانب كل ما هو وارد في سفر التكوين ، لتعْترف بإسماعيل الابن البكر لسيدنا إبراهيم ، والذي تم العهد الممثل في الختان أيام كان في الثالثة عشرة من عمره ، وقبل أن يولد إسحاق ، وما تبع ذلك من تحريف ، وأن يعترف بأن العرب المسلمين هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم وأنه جدّهم ، وجد سيدنا محمد r عن طريق ابنه قيدار ، وأن الله سبحانه وتعالى قد تحدث إلى محمد r النبي الأمّي عن طريق الوحي ، وأنزل القرآن الكريم ؛ ختاما ًلرسالة التوحيد التي سبق له عزَّ وجل أن أنزلها على كل من موسى وعيسى عليهما السلام ، فالعداوة القائمة بين المسيحية والإسلام عداوة مختلقة ؛ اختلقتها الأيادي العابثة لمواصلة فرض ما تم في المسيحية من تحريف والحيد بها عن رسالة التوحيد.

3- وجوب وضع القواعد المشتركة اللازمة قبل بدء الحوار :
ومما تقدم نخرج بأن الحوار في المسيحية ليس إلا حرباً صليبية جديدة بالكلمات بدلاً من السلاح - على حد قول القس بطرس المبجل ، رئيس دير كلوني في القرن الثاني عشر ، و أول من طالب بعمل ترجمة محرّفة لمعاني القرآن الكريم أيام حرب الاسترداد ، وهو ما أورده المستشرق (رجيس بلاشير) في كتابه عن "القرآن" الصادر عام 1969م ..
فعباراتٌ من قبيل : العمل على عدم كشف نيتهم في تنصير من يحاورونه ؛ والعمل على عدم ذكر المواقف السابقة للكنيسة من الإسلام والمسلمين ؛ وضرورة إقناع المسلم بأن المسيحية قائمة على التوحيد ؛ وتفادي الدخول في مناقشات بشأن المسيح والمسيحية في القرآن؛ والتعتيم على موقف الكنيسة ومسئوليتها في العمل على إقامة دولة إسرائيل ، واغتصاب أرض فلسطين ، والبحث عن نقاط مشتركة لا من أجل اتخاذها كبداية موضوعية للحوار ، كما كنا نتمنى ، وإنما لتكون بمثابة مداخل عملية للاختراق وتسهيل عملية التنصير ؛ ليست إلا عبارات تكشف عن سوء نية مبيتة ، وتصلّب في الرأي ؛ وفقدان للبصر والبصيرة ، وعدم وجود أية أمانة موضوعية في الحوار ..
ولا أدل على ذلك التعنت الغاشم إلا موقف مجلس الكنائس العالمي الذي بادر في يناير 2001م ؛ عندما بدأت الألفية الثالثة ؛ ولم ينجح مخطط تنصير العالم وفقاً للبرنامج الذي وضعه مجمع الفاتيكان الثاني عام 1965م ، فقد أسندت مهمة القضاء على الإسلام إلى الولايات المتحدة الأمريكية ؛ بحكم أنها أصبحت القوة العسكرية المتفردة في العالم ، والتي بادرت بدورها باختلاق مسرحية الحادي عشر من سبتمبر حتى تتلفع بالشرعية الدولية (بدون تحقيق في الأمر ولا تفتيش حقيقي عن الفاعلين الحقيقيين!!) ثم تحديد هذا العقد
(2001 - 2010) الذي أطلقوا عليه "عقد اقتلاع العنف والشر" يقصدون اقتلاع الإسلام ..
وتؤكد الوقائع التي تعيشها أمة الإسلام هذه الحرب الصليبية على الصعيد العالمي بحيث لم تعد بحاجة إلى مزيد من الأدلة ..
وبالتالي ننتهي إلى أن الحوار في نظر الكنيسة هو "حوار الخلاص" وأن السيد المسيح هو "المخلّص الوحيد"، وأن "الحوار لا يعفي من التبشير" ، وأنه "لا ينبغي أن يكون هناك استسلام ولا تساهل" من جانب المسيحيين الذين يقومون بعملية الحوار مع المسلمين!!
كما أن الكنيسة الفاتيكانية تقوم بمحاولة فرض التبشير والتنصير "عن طريق التدخل لدى حكام الشعوب والمسئولين" كما أعلنت ذلك صراحة ، وتقوم من جهة أخرى بِفَرْض اشتراك كافة المسيحيين في عملية التنصير بموجب ارتباطهم بالمسيح عن طريق التعميد ، بزعم "أن أعضاء الديانات الأخرى مأمورون بالدخول في الكنيسة" !
وهو - كما يرى كل العقلاء - موقف غير أمين وغير علمي يتلفعُ بقوالب فكرية ومخططات متوارثة معدّة مسبقاً ، ولا يتخذ الحوار الموضوعي سبيلاً للبحث عن الحق أو لإبداء الرأي والمشورة مثلما في الإسلام ، وإنما يتخذه ذريعة - كما تقول وثائقهم - لتفادي الصدام حتى تتم عملية التنصير بلا ردود أفعال عنيفة تعوقها ، وإنما عن طريق التسلل والتحايل .. الأمر الذي لا يمكن وصفه إلا بقمة النفاق والغطرسة!!
# # #
لذلك نتوجه إلى كل الذين يشتركون في عملية الحوار ، من الجانب الكنسي ، وخاصة إلى الأمناء منهم ، الذين ضجوا من الحروب والصدام ويسعون إلى السلام العالمي بموضوعية وأمانة ؛ فالجانب الكنسي - كما رأينا - أصبح لا يضم رجال اللاهوت وحدهم وإنما كافة المسيحيين الذين فرض عليهم المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965م الاشتراك في عملية تنصير العالم .. إلى كل هؤلاء نقول : إن الإسلام لا يفرض نفسه على أحد ، فالنص القرآني يقول بوضوح : {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29] ، ويقول: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة : 256].
وفي ضوء هذا لا يحق لرجال الكنيسة أن يفرضوا عقائدهم على أحد ، وبدلاً من هذا التعنت القهري لاقتلاع الإسلام ندعوهم إلى أن يعودوا - بموضوعية وأمانة - إلى النصوص والوثائق والأصول المخفية المحرّم الإطلاع عليها في خزائنهم السرية ، والى كل ما كشفت عنه وثائق البحر الميت التي لم يسمح الفاتيكان بنشرها إلا بعد ترحيل تواريخها تمويهاً لما بها من إدانة صارخة للمسيحية الحالية ..
إننا لا ندين ولا نحاسب غيرنا ، لكننا نطالب بأمانة وموضوعية ، بناء على كل ما نشره رجال اللاهوت الأمناء الذين تخلوا عن مناصبهم بسبب كل ما رأوه من عبث فأمْلتْ عليهم ضمائرهم أن يكشفوا ما قامت به الأصابع التي ظنت نفسها خفية ، وأتعبت الناس على مر العصور وجعلتهم يخرجون عن الدين ويكفرون به ؛ بعد اصطدام العلم التجريبي بالنصوص الثابت تحريفها. ويكفي أن نطالع ما تم نشره في السنوات الأخيرة من أبحاث ؛ وأغلبها بأقلام كنسيين خلعوا رداء الكهنوت ، وراحوا يكشفون ويؤكدون كيف أن "السيد المسيح كما تقدمه الكنيسة لا سند تاريخي له" ! (أي أنه أسطورة !!).
وعلى كل هؤلاء الأمناء ، الذين كفروا بالحروب سبيلاً ، أن يدركوا أن الإسلام لم يقدّم إليهم في الغرب ، منذ القرن الثامن ، إلا مشوّهاً ، بدءاً من كتاب " يوحنا الدمشقي ، المعنون "نبع المعرفة" والفصل الذي يضمه حول "الهرطقة" الذي خصه للإسلام والمسلمين ، ولسيدنا محمد r ، وراح يكيل فيه أحط العبارات والصور المشوّهة ، وتبعه (نيستاس) في بلاط قيصر بيزنطة ، ميشيل الثالث ، وتبعهما سيل من المفسرين البيزنطيين ، ثم سيل آخر من المستشرقين، لينالوا جميعاً من القرآن والمسلمين . الأمر الذي كون لدى القارئ الغربي ، الذي يطالع هذا التشويه المتعّمد نفسه في كتبه المدرسية والجامعية ، نوعاً من النفور التلقائي تجاه الإسلام والمسلمين .
فعلى كل هؤلاء الأمناء تقع مهمة المواجهة لمختلف عمليات التحريف والتصدي لها بموضوعية وأمانة علمية .. وصولاً إلى حوار موضوعي بين أكثر الديانات السماوية عدداً في العالم.
كما نتوجه هنا إلى كل الذين يشاركون في عمليات الحوار من جانب المسلمين ، وأول ما نناشدهم به هو أن يتزودوا بكل تلك الحقائق والوثائق المعلنة والتي تعينهم على معرفة حقيقة من يحاورونهم ، لكي يناقشوهم مناقشة موضوعية . كما يتعين عليهم الأخذ في الاعتبار ما يمكن تلخيصه في النقاط التالية :
إن التنصير والحروب الصليبية بأنواعها جزء لا يتجزأ من التاريخ الكنسي وأحد الموضوعات الرئيسية في السياسة البابوية.
أن يصّروا على أنه لا توجد موضوعات خارج المناقشة ، وأنه لابد من مناقشة العقيدة المسيحية التي اختلقتها الكنيسة ، فالخلاف القائم بين المسيحية والإسلام خلاف عقائدي (تثليث مسيحي وتوحيد إسلامي) متعلق برسالة التوحيد كما نرى؛ وما أكثر الدراسات الحديثة التي أصبحت تكشف وتدين التلاعب الذي قامت به الأيادي العابثة على مر العصور ،
وأن يواجهوا رجال اللاهوت الذين يحاورنهم بدور الكنيسة ومسئوليتها في غرس الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين ، والمطالبة بأن يقوموا بدورهم نحو تحرير هذه الأرض المغتصبة.
والتأكيد على أننا لا نجهل العقيدة المسيحية، وأنه ليس لدينا أي "سوء فهم" لها ، وأن العبارات الواردة عنها في القرآن هي حقائق أثبتها العديد من العلماء والباحثين وأكثرهم من رجال اللاهوت . وبالتالي فإنه يتعين على المسيحيين أن يغيروا هم موقفهم وليس على المسلمين .
وأن يتصدى المسلمون في حوارهم لما يحاول الطرف الآخر فرضه ، والتلاعب بالألفاظ ليفرض أن "المسيحية قائمة على التوحيد" ، فالشرك بالله ، واختلاق بدعة الثالوث هو الذي أدى إلى أن يُنَزِّل الله عز وجل القرآن الكريم لفضح كل ما تم من تحريف لرسالة التوحيد بالله .
وأن البحث فقط عن نقاط مشتركة كما يصر المسيحيون في حوارهم ، ليس إلا استبعاداً لمناقشة العقيدة ، وشعوراً بالخوف من الحوار في هذه المنطقة الحساسة.
وأن الحوار لدى الكنيسة هو مجرد أداة لشغل الوقت إلى أن تتم عملية الارتداد وقبول "سر المسيح" .. ويكفي أن نطالع ما نشر على صفحتين كاملتين من جريدة لومند الفرنسية الصادرة ليومي الأحد والاثنين 6 ، 7/3/2005 م حول تنصير ثمانمائة مسلم في المغرب هذا العام ، وشكواهم من ضآلة هذا الرقم بالنسبة للتعداد البالغ 32 مليوناً !!
كما يتعين على الجانب المسلم أن يوضح في تلك الحوارات أننا لسنا "مأمورين بالدخول في المسيحية" وقبول ما يطلقون عليه "سر المسيح" ، فالسيد المسيح هو نبيّ من الأنبياء عليه وعليهم جميعاً السلام ، وهو حلقة في سلسلة أنبياء التوحيد.
وآخر ما يمكن إضافته لفريق المسلمين من المتحاورين هو أن يتمسكوا بالحق ، فقد جاءكم الحق من ربكم والله عَزَّ وجل ، لا يستحي من الحق ، وألا يقعوا في الشرك الذي نصبه لهم القس زويمر حين قال : لن يقتلع الإسلام إلا على أيدي مسلمين من الداخل فالصمت على كل هذه الحقائق يُعدّ نوعاً من التواطؤ .. !!
وأخيراً :
فإن الطريق إلى حوار إنساني موضوعي أمين يجب ألا يقوم إلا على الحوار ، وعلى تناول كافة القضايا الأساسية والنقاط الخلافية ، الجذرية منها والهامشية بموضوعية شديدة بغية التوصل إلى حلول حقيقية عادلة تحد من هذه الخلافات !!
ولابد من الأخذ في الاعتبار أن ما يقوم به النصارى بمختلف فرقهم من أفعال ، سواء أكان ذلك في لجانٍ الحوار ، أم في المؤتمرات ومختلف المحافل الدولية والمحلية ليس إلا نوعاً من الإصرار والتمسك الغاشم بالرأي لتنصير العالم بأي وسيلة وبأي ثمن ..
ولا أقل من الإشارة هنا إلى أن أهم القضايا الاختلافية الدينية بين النصارى والمسلمين هي قضية (تأليه السيد المسيح) في مجمع نيقية عام 325م ثم اختلاق (بدعة الثالوث) . فمن الثابت أن الإسلام ليس وحده هو الذي يرفض هذا الشرك بالله ، فقد تصدى له الأسقف أريوس في حينها ، ولا يزال خط الرافضين يواصل مسيرته ويتزايد حتى يومنا هذا بين مختلف الفرق المسيحية ، ولا أدل على ذلك من مطالعة عشرات الأبحاث الجادة التي تمتد على مختلف العصور والمعتمدة على وثائق رسمية قاطعة في إدانتها لهذا التحريف - وخاصة ما ظهر منها طوال الخمسين سنة الماضية.
وثاني قضية اختلافية لا بد من إدراجها في لجان الحوار بين عقلاء الجانبين هي ضرورة وقف الأعمال العسكرية أو إضفاء الصفة العسكرية على أفعال الكنيسة وتدخلاتها السياسية الحربية ، تلك التدخلات التي باركها مجمع لاتران عام 1139م وأباح استخدام السلاح في حروبهم الصليبية لفرض التنصير موضحاً : "أن الجندي الذي يَقْتُل يؤدي مسئوليته وبالتالي فهو لا يخطئ ولا يكفر. إنه يخدم الله بقتل الأشرار والكفرة" ! وذلك تحت مسمى "الحرب العادلة"..
ولا يتسع المجال هنا لتناول كل تلك الحروب التي قادتها الكنيسة ، أو تلك التي تسببت في اندلاعها ، ومنها على سبيل المثال الحربان العالميتان وحرب الجزائر طيلة 130 سنة والتي أودت بحياة ثمانيةملايين مسلم بطرق بشعة!!، وتدخلها في محارق اليهود وكل ما كشفت عنه الوثائق الحديثة من أدلة دامغة ، وتدخلها في يوغسلافيا السابقة ، وما قامت به الكنيسة في كل من كرواتيا وكوسوفو من مجازر في حق المسلمين في البوسنة بمباركة الخوذات الزرقاء وتحت أعينهم ، وإسهامها في حرب رواندا وما ثبت من أدلة باشتراك القساوسة في إشعالها ، إلى غير ذلك مما تسببوا فيه من قتل جماعي.
وهنا في هذا المقام نقول شيئاً عن موقف الكنيسة من مرض الإيدز فثلثا المصابين يوجدون في إفريقيا ، وثلاثة أرباع الأطفال المصابين من الأفارقة ، و95% من مجمل المصابين يعيشون في فقر مدقع ، ومع ذلك فقد تكبّد نيافة البابا يوحنّا بولس الثاني مشقة الانتقال إلى بورندى وأوغندا لتجريم استخدام العازل الطبي والأمر بالاستيلاء على كل ما أرسلته الجمعيات الأهلية من كميات وحرقها في الميادين العامة ..!! (وهذا سلوك غريب حقاً !!)
- وليست تلك النماذج إلا شذرات من سجل جدّ مخزي لمن اقترفوها ، لذلك لابد هنا من التأكيد على ضرورة أن تتولى البشرية العاقلة مقاليد حياتها ومستقبلها ، وتشهد على أن الكنيسة - على مدى تاريخها - قائمة على الخداع والغش في الحوار وفرض مآربها بالسلاح والتدخل في الشئون الداخلية للبلدان .. وإن مثل هذا الحوار ليس حواراً علمياً بل هو أبعد ما يكون عن الأمانة الموضوعية ..
إن كل ما نرجوه من عقلاء البشر ، ومن يقوم منهم أو يشارك في عمليات الحوار ، أن يتمسكوا بالحق ، وأن يعملوا جاهدين لاستبعاد المفاهيم العقيمة أو اللولبية التي تلجأ إليها الكنيسة ، والعمل على أن تكون العلاقة بين مختلف البلدان والشعوب ليست علاقة تصارعية كاسحة لاقتلاع الإسلام والمسلمين ، أو اقتلاع البوذيين أو أي دين آخر، وإنما علاقة إنسانية تكاملية بمعنى الكلمة لتأمين السلام العالمي لكل البشر.



المراجع (بترتيب وردوها)
------------------------------------------------------------------------
([1]) محمد محمد بدري : ثلاث مقالات عن فن الحوار بالأعداد 87 ، 88 ، 89 من مجلة "البيان" الصادرة في إبريل ومايو ويونيو 1995م
([2]) نجيب نور الدين : "الحوار والجدل في القرآن الكريم" ، مجلة "المنطق" ، العدد العاشر ، أيلول 1993م .
([3]) "إحياء علوم الدين" (1/57).
([4]) أحمد بن عبد الرحمن الصويان : "التجرد في الحوار" ، مجلة البيان ، العدد 71 ، ديسمبر ، يناير 93 ، 1994م .
([5]) محمد حسين فضل الله : "الحوار في القرآن ، قواعده ، أساليبه ، معطياته " ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، الطبعة الخامسة 1987م.
([6]) الدكتور عباس مهاجرني : بحث "لماذا الحوار وبماذا نحاور الآخرين من أصحاب الحضارات المعاصرة" ، الدورة العاشرة لمؤتمر المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية: "المسلمون وحوار الحضارات في العالم المعاصر" ، عمان ، الأردن ، 5 - 7 يوليو 1995م.
([7]) السيد محمد حسن الأمين : "حول أسئلة الحوار والوحدة" ، مجلة "المنطلق" ، العدد 105 أيلول 1993م .
([8]) Julien Ries : "Les chrétiens parmi les religions" Paris, Desclee, 1987
([9]) J. Leclerc : "Pierre le Vénérable", Paris , 1946
([10]) R. Caspar : "Vatican II, les relations de l'église avec les religions non chrétiennes" e. du cerf, Paris , 1966
([11]) P. Marella, Card. : "Orientations pour un dialogue entre chrétiens et musulmans" ed. Ancoro, Roma , 1969
([12]) يوحنا بولس الثاني : "المصالحة والتوبة في رسالة الكنيسة اليوم" ، اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام ، الفاتيكان ، 1984م
([13]) Jean Paul II : "Redemptoris Missio" , ed. Vatican 1991
([14]) F. Arinze , Card. : "Dialogue et Annonce", Document du conseil Pontifical pour le dialogue inter religieux et la congrégation pour l'évangélisation des peuples, 1991
([15]) بيان : "في زماننا هذا" الصادر عن مجمع الفاتيكان الثاني 28/10/1965م ، الفقرة الرابعة : "الدين اليهودي" .
([16]) Jean - Paul II : Tertio Millenio Adviente" ed. lilereria editrice vaticana, Roma, 1994


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.