تصدّرت صورة فتى، مشرقي الملامح، واحدة من صفحات جريدة فرنسية ( Le Monde، 14/12/08، P.3 ). إنه كندي الجنسية، ولكن الحكومة الكندية تخلّت عنه، سجين في معتقل غوانتانامو، الذي أقامته الولاياتالمتحدةالأمريكية في قاعدة عسكرية لها على الجزيرة الكوبية. فلقد قُبض عليه، بحسب الصحيفة، في أفغانستان سنة 2002، وكان عمره خمس عشرة سنة. أما ظروف إعتقاله، فبالإمكان تلخيصها كما يلي: هاجمت القوات الأمريكية، في تموز(يوليو) 2002، بناء وأسقطته. ويبدو أنها فقدت أثناء هذه العملية أحد عناصرها. ولكن الجنود عثرو ا، تحت الهدم، على الفتى صاحب الصورة، ومن غير المستبعد أنهم أطلقوا النار عليه، عندما أحسّوا بوجوده، فاصابوه برصاصتين في ظهره. ثم إنتشلوه بعد ذلك، وسلّموه، جريحا فاقد الوعي، إلى قيادتهم، التي إتهمته بجريمة قتل رفيقهم، وألقت به بعد أن إلتأمت جراحه، في سجن بغرام في أفغانستان، المعروف. بمعنى أنه مختبر للتجارب بقصد الصيرورة على كيفيةٍ دائمة ٍ تجعل الكائن البشري، وقد فقد إنسانيته، يستجيب لما يُطلب منه، بواسطة طرق معينة أومفاتيح. من المرجّح أن ما يجري في زنزانات هذا السجن، هو أفظع مما سمعناه ورأيناه عن أبوغريب . لم يمثل هذا السجين، الذي صار في الثانية والعشرين من العمر، حتى تاريخه أمام هيئة قضائية. ومن المنتظر أن تبدأ محاكمته، الشهر القادم. أما قضيته فهي، كما تنص القوانين التي أعِدّت بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، من إختصاص اللجان العسكرية. وهذه لا تأخذ بعين الإعتبار، أن المتهم كان قاصرا عند وقوع الحادثة. فمن المحتمل إذن، أن ينال عقوبة بالسجن مدى الحياة . ولكن خلاصة ما جاء في الصحيفة المذكورة، هي غياب الأدلة على دوره بقتل الجندي الأمريكي الذي جاء ألى أفغانستان، وكاد أن يقتله في داره، وربما قتل فعلا بعضا من رفاقه. وما زال الدفاع، يطلب من القضاء العسكري إجراء الفحوص اللازمة، للتأكد من عدم موت هذا الجندي 'بطلقة صديقة '. وذلك إستنادا إلى صورٍ، تُظهر المتهم بين الركام في حال غيبوبة، لا تسمح له بالمقاومة أو إطلاق النار. ومن الجائز أنه كان في الحال نفسها، قبل إصابته في ظهره .
ازدواجية المعايير
وهنا ينهض السؤال، عن مبررات إتهام هذا الرجل، بجريمة القتل، وسجنه، وتعذيبه. لماذا لا يكون مجرما، الذي جاء من بلاد بعيدة، ليقتله وليدمر منزله؟. وبما أن إثبات الجريمة غير ممكن، لماذا العقاب أذن ؟ ففي تقدير الصحافي الذي قام بالتحقيق حول هذا الموضوع، أن عائلة هذا الرجل لا تشفع له. والده كان ناشطا في جمعية خيرية إسلامية، وكان يعمل، بهذه الصفة، في مخيمات اللاجئيين الأفغان، وفي دور الأيتام. ولكنه قتل في قصف أمريكي وأصيب معه أحد أبنائه بجروح نتج عنها، عاهة دائمة. وله شقيق في سجون كندا متهم بإمداد القاعدة بالسلاح، ينتظر بت القضاء في قضيته. وشقيق آخر، يبدو أنه كان دسيسا للمخابرات الأمريكية في صفوف القاعدة . فمن المحتمل إذن، أن يُنزل القضاء الأمريكي، العسكري، الحكم بالسجن المؤبد، على فتى، دون إثبات أي تهمة عليه. اللهم إلاّ إنتقال عائلته من كندا إلى إفغانستان، بسبب عمل والده في جمعية خيرية أسلامية. ولكن مما لا شك فيه، قطعا أن الفتى الذي لا يتجاوز عمره الخمس عشر سنة، هو مراهق غير مكتمل النمو عقليا وجسديا. وبالتالي فإن العبثية هي في سجنه وأتهامه وعقابه في مؤسسة عسكرية. يقتضي التذكير، بهذا المعطى، قبل أن تصمّ آذانَنا تصريحاتُ المسؤولين في حكومات الغرب، وبالأخص حكومة الولاياتالمتحدة، في الذكرى الستين للتوقيع على إعلان حقوق الإنسان. ولابد في هذا السياق، من الإشارة إلى أن الغاية من هذا الإعلان، هي نَظْمُ العلاقة بين الناس، على أساس المساواة بينهم. يتطلب ذلك توفير الظروف، الضرورية، لأنسنة الكائن البشري. وبكلام أوضح، يتضمن هذا الإعلان إعترافا بحق الغذاء والعلاج، وبحق الإطلاع والعلم والتعبير، وبحق الأمان وحرية التنقل، وبحق السكن والعمل. وهذه جميعها، شروط لازمة لكي يستطيع الفرد إمتلاك سلوك أليف، يُسهّل إلتقاءه بالآخر والتبادل معه. من البديهي أن الإنسان في البلاد الغربية، يتمتع بقسط كبير من حقوقه، وقد لا يكون حظ الجميع متساويا في هذا المجال. إذ أنه من الثابت أن بعض الفئات الإجتماعية، الفقيرة أو ذوات الأصول الأجنبية، تعاني من التمييزالسلبي في توزيع فرص العمل، وفي التعامل مع موظفي الدولة. ومهما يكن، فإن ما يسترعي الإنتباه، هو الفرق الكبير بين مكانة الإنسان في المجتمعات الغربية، وهي مجتمعات متقدمة وراقية، وبين مكانته في المجتمعات العربية، التي يمكن وصفها بالمتخلفة أو بالعطالة. والحقيقة، أن ما يستدعي هذه المقاربة، ليست الأمراض التي تنخر المجتمعات العربية. هذا لا يعني على الإطلاق إنكار وجودها أو التقليل من فعاليتها. ولكن التعرّض لها يحتاج لتفصيل لايتسع هذا الموضع له. وإنما القصد هو محاولة تسليط الضوء على إشكالية سياسة الحكومات الغربية، التي تحترم حقوق الإنسان في بلادها من جهة، دون أن يمنعها ذلك من إنتهاك هذه الحقوق، بشكل فاضح وإجرامي أحيانا، في المستعمرات من جهة ثانية. وكأن الإستعمار ليس إنتهاكا لحقوق المستعمَر، أو ليس تعبيرا عن شعور عنصري بالفوقية. لا جدال في أن القوانين المرعيّة في بلاد الغرب، هي على درجة عالية من التقدم. وتشكل ضمانة فعّالة في الحفاظ على حقوق الناس وكراماتهم. وكان طبيعيا، أن تسمح الكونية التي إتسمت بها، بأن يصير بعضُ المهاجرين إلى هذه البلاد مواطنيين عاديين أمام القانون. ولكن من الملاحظ في المقابل، أن قطاعا من الرأي العام، لا يستهان به وإن تفاوت تأثيره من بلد إلى آخر، يرفض هذه النتيجة، ويطالب بسد الثغرات لمنع دخول الأجانب، بالإضافة إلى إعتراضه الصريح على المساواة في الحقوق بين المهاجر وبين المواطن الغربي الأصلي، إعتمادا على مفهوم، يميّز الإنسان الغربي من غيره . و هناك ما هو أسوأ، وأكثر فظاظة. فإذا ذكرت الجزائر، وسألت هؤلاء الناس، عن حقوق الذين كانوا يُعرفون 'بالعرب' أو 'بالمسلمين' بحسب قانون المحليين، الذي بقي مطبّقا، حصرا، عليهم حتى إستقلال الجزائر، أجابوك بأن تلك الحقبة قد إنتهت وأن الصفحة قُلبت. لماذا العراق إذن، وأفغانستان، ماذا بقي من حقوق العراقيين والأفغان ؟ هنا يحضرك، إعتراف أحد الوزراء مؤخرا، بأن حقوق الإنسان، لا تتماشى دائما مع مصالح الدول. والغريب أن هذا الوزير نفسه، هو الذي حمل مبدأ 'التدخل الإنساني' في شؤون الدول الأخرى، وهو الذي استناح على إبادة البشر في دارفور. فتتذكر عندئذ، ما ذهب إليه، في 19 كانون الثاني (يناير) 2006، الرئيس الفرنسي السابق، في موضوع الردع النووي. حيث أنه لم يُسقط من حساباته إحتمال اللجوء إلى هذا السلاح، ضد مدينة، أو موقع إرهابي، في أي دولة، إذا إقتضت المصلحة ذلك. أي بمعنى آخر، تُلغى حقوق الإنسان، ومن ضمنها حقه في العيش، بواسطة الغبار النووي، والحجة هي القضاء على مجموعة إرهابية، إذا إقتضت مصلحة الأقوياء والأغنياء ألغاءها. لقد حاول جيش المستوطنين الإسرائيليين، في تموز (يوليو) 2006، تدمير جميع المخابز في جنوب لبنان، لأن مقاتلي حزب الله يأكلون الخبز.
و لا غلو في القول، أن الفلسطينيين يواجهون في الواقع، منذ بداية القرن الماضي، نوعا من أنواع هذا الإلغاء، الإستعماري العنصري. يستشهد المستشرق واالباحث المعروف ماكسيم ردونسون، في دراسته 'أسرائيل ظاهرة إستعمارية'، بما كتبه أحد الذين عالجوا موضوع الإستعمار، فيوردُ هذه الفقرة 'يمكن الحديث عن إستعمار، عندما يكون، وبهذا الكوْن، هناك إحتلال وهيمنة، وعندما يكون، وبهذا الكوْن، هناك هجرةٌ وأشتراعُ قوانين'. وهذا ما حدث فعلا في فلسطين، إذ أن المستوطنين الإسرائيليين، جاؤوا من البلاد الغربية، وأحتلوا وسيطروا، ووضعوا القوانين لإضفاء شرعية، على حرمان الفلسطينيين من حقوقهم جميعها. ولم يكتفوا بذلك، بل كد ّسوا أيضا بمساعدة الحكومات الغربية، السلاح النووي .. لإستخدامه، إذا إقتضت الحاجة. وتأسيسا عليه، فأكبر الظن أن الفلسطينيين هم في حال أكثر بؤسا، من سكان التيبت مثلا. فلم نسمع أن هؤلاء، مُنع عنهم الغذاء والدواء، أو أن تلميذة صغيرة في التيبت، قتلها الجنود لان محفظتها المدرسية إلتبست عليهم. ورغم ذلك فان، قادة الغرب يتسابقون إلى الزعيم التيبيتي المعارض، الديلا لاما، الذي لم تُحْرجْه حروب الرئيس الأمريكي، على قبول وسام تكريمي منه. وكأن ما يُهم قادة الغرب، هوالفاعل وليس الضحية. فإن كان الفاعل، صديقا، غضوا النظر عن جرائمه، وأن كان خصما أو منافسا، راقبو كل تصرف من تصرفاته، وأخضعوه لقوانين، هي من حيث المبدأ، عادلة، ولكن الأشكالية هي في إستخداماتها. من الصعب منح مصداقية، لزعماء المستوطنين الإسرائيليين، في مجال حقوق الإنسان، وحوار الأديان ايضا، في الوقت الذي يعلن فيه هؤلاء الزعماء أنفسهم، أن حل ّ المسألة اليهودية التي نشأت في أوروبا، في فترة أحتدام الصراع القومي، برر ويُبرر إغتصاب فلسطين، وإنكار وسلب حقوق الفلسطينيين. ومن البديهي، أن المحكمة الدولية، التي تُصدر مذكرة، بإحضار مسؤول سوداني أو راوندي، لا تستطيع، بأي طريقة من الطرق، إستجواب مسؤول أمريكي، أو أوروبي، عما فعله في العراق وفي أفغانستان، أو في راوندا. ولقد ظهر في أكثر من مناسبة، في العراق، أن للجندي الأمريكي، حصانة، تمنع ملاحقته القضائية بالمطلق. ولا حاجة، للتوكيد على أن زعماء المستوطنيين الإسرائيليين، هم فوق القوانين الدولية، والدليل على ذلك، سلسلة المجازر الطويلة، التي طويت صفحاتها قبل أن تجف دماء الضحايا. لا شك في أن القوانين عادلة، وهي موجودة. ولكن لا بد من التسليم، بأنها لا تحفظ حقوق من هم بحاجة إلى حمايتها. أوبتعبير آخر، إن المحاكم الدولية لا تنظر في جميع القضايا التي يتوجب النظر فيها. هناك، بالتاكيد إنتقائية، يمارسها الذين يخالفون القوانين، ويعتدون على الناس، ويقترفون الجرائم. فهم يختارون القضاة، والأحكام، ويمثلون الإدعاء ضد من يعتبرونه خطرا على مصالحهم . وجملة القول، بعد هذا كله، أن المستعمرين يضعون القوانين، لفرض نظامهم. فالمحاكم الدولية لا تلتئم، إلا بطلب منهم، ولا تنظر إلا في القضايا التي تشغُلهم. إن الذين يسكتون على حصار غزة، وعلى جدار الفصل العنصري، وعلى الشقاء في المخيمات، وعلى غوانتانامو وبغرام، أنما ينتهكون في الوقت نفسه حقوق الإنسان بشكل فاضح. من المعلوم أن الطائرات التي كانت تنقل المواد الغذائية، باسم العمل الإنساني، إلى سكان بيافرا كانت تنقل إلى جانب ذلك، السلاح إلى المتمردين. وقد لا يكون هناك، فرق كبير بين ما حدث بالأمس في بيافرا، وبين ما يحدث في الراهن في دارفور. وأغلب الظن، أن يكون هذا هو السبب، من وراء ألقاء الشبهات على المنظمات الإنسانية، المستقلة عن حكومات الغرب. إن الحرص على حقوق الإنسان يقضي بمساعدة الفلسطينيين وتمكينهم من رفع الظلم عن أنفسهم، وليس بإرسال البزات والأحذية، وأدوات القمع إلى الأجهزة الأمنية، لمنعهم من الإنتفاض .