إذا كانت ليالي يوسف إدريس الرخيصة قد أحدثت انعطافة في التيار الواقعي للقصة العربية. فإن العديد من مبدعي الستينيات والأجيال التالية يدينون ليوسف الشاروني "14 أكتوبر 1924" بالريادة في التجريب. أعطي الشاروني من نفسه للعشرات من المبدعين. يقدمهم. وينقد أعمالهم. حتي جاوزت كتبه النقدية- أو كتب القراءة الإيجابية علي حد تعبيره- ما صدر له من مجموعات قصصية.. يشغل الشاروني ما أسميه بفلسفة الحياة في أعماله.. إنه يتحدث عن قضايا مصر. ويمزج بينها وبين قضايا العالم. في تلك الفترة التي دارت فيها أحداث الحرب العالمية الثانية. وأعقبتها. ثمة قضايا الزحام. والانفجار السكاني. والعنف غير المبرر. والتشوه النفسي. والمصير الإنساني إلخ.. وثمة- في الوقت نفسه- محاولة متجددة للتجريب. يلخص يوسف الشاروني مشواره الأدبي: كنا نكتب بحماس. معتقدين أننا بأقلامنا سنغير العالم. سنطوره إلي الأفضل. سنضع أطراف أقلامنا علي نقاط الضغف في مجتمعنا. سيجد المطحونون أنفسهم في سطورنا. وأن القصة وسيلة جماهيرية. والابنة الشرعية لعصر المطبعة. يضيف الشاروني: لقد أفدت من دراسة الموسيقي ومن ترددي علي معارض الفن التشكيلي. فالسيمفونية تتألف من نغمة أساسية. ثم تنويعات لهذه النغمة. وهو ما أحاوله في قصصي. علي نحو أو آخر.. أما بالنسبة للفن التشكيلي. فقد انعكس في قصصي- وبالذات قصص المرحلة الأولي- تأثري بلوحات جويا.. ترك هذا الفن التشكيلي أثره علي قصصي المبكرة فيما أسميته تحطيم قواعد المنظور في الأدب. أي التمرد علي الأساليب التقليدية التي كانت تكتب بها القصة إذ ذاك. ثم علي الأسلوب الواقعي الذي كان له الرواج في القصة منذ بداية الخمسينيات.. من هنا كان اتجاهي في كتابة القصة مختلفاً عن الاتجاهين التقليدي والواقعي. قلنا: ماذا عن فلسفة الحياة في مجموع أعمالك؟ قال: أحاول أن تكون لي نظرتي الشمولية. فهي تعني بالمصير الإنساني. الفرد والجماعة. الخاص والعام.. القراءة المتأملة لإبداعاتي القصصية منذ "العشاق الخمسة" تبين عما يمكن أن يسمي فلسفة حياة. وعن بواعث اتجاهه إلي النقد. يقول يوسف الشاروني: لقد حاولت- طوال مسيرتي الأدبية- أن أقترب بالنقد من العملية الإبداعية. فكثير من دراساتي النقدية عبارة عن إعادة صياغة للعمل الأدبي الذي أتعرض له تتخلله رؤيتي. لأنني أراعي في كتاباتي النقدية أن من لم يقرأ العمل الأدبي المتناول. يستطيع أن يتتبع ما كتبت. والذي قرأه يجد شيئاً جديداً فيما أكتبه. وأعتقد أن ذروة التقاء الإبداع بالنقد. كانت في قصتي "زيطة صانع العاهات" و"مصرع عباس الحلو" المستلهمتين من رواية نجيب محفوظ "زقاق المدق". حيث أوضحت كيف يكون تناول هاتين الشخصيتين في قصة قصيرة. بعد أن تم إبداعهما في رواية طويلة. وكيف اختلفت الرؤية نتيجة اختلاف القالب الأدبي. قلنا: كان وقتك مقسماً بين الحياة الوظيفية. وبين القراءة والدراسة والكتابة.. من أين تستمد قصصك حياتها؟ قال: لا شك أن أي أديب يجمع بين الوظيفة والفن يحيا في أزمة متصلة. لكن الأدباء أقدر من غيرهم- إذا كانت مناصبهم تتصل بالثقافة علي تفهم مشكلات الأدباء. وتقدير جهودهم- من الموظفين الذين قد يعاملون الأدباء والفنانين بطريقة. ربما تجرح مشاعرهم. ولاشك أن الأديب الموظف يعاني التمزق بين إحساسه بالواجب تجاه زملائه الأدباء والفنانين. وبين إحساسه بواجبه تجاه عمله الفني. ومن المؤكد أن حياة الوظيفة يمكن أن تكون مصدراً للأديب. لكن هناك خطراً من أن تحد الوظيفة أفق الأديب. وتجعله يفضل من حين لآخر- ولأسباب صحية فنياً- أن يخرج عن نطاق وظيفته إلي العالم الأرحب. لكي يعيش مشكلات فئات أخري. قصصي- وإن استمد بعضها موضوعاته من حياتي الوظيفية ربما استمد بعضها الآخر موضوعاته من البيئة التي يعيش فيها. أو من خبر في صحيفة يومية. أو من زيارة إلي بيئة مغايرة. بل إني أحلم لنفسي- ولغيري من الأدباء- أن تتاح لنا تجربة مثل تجربة اكتشاف البترول. لكي نشعر بمعني التوقع والانتظار. وربما اليأس. ثم الفرحة عند تفجير بئر من آبار البترول. وأحياناً. في سبيل كتابة قصة جديدة. فإني قد أزور بعض من لهم خبرة بالحياة. لكي أتركهم يثرثرون أمامي حول موضوع معين. أبدي لهم اهتمامي به. ومن حصيلة هذه الثرثرة. اختار ما يلائم قصتي. وقد تبدو للقاريء وقائع قريبة من الخيال. والحقيقة أن الخيال لا يمكن أن يصل إليها.