كتبت هنا مقالا من جزءين عن دروس الانتخابات التركية، ركزت على تحليل النتائج فقط من جانب سياسي ومهني صرف، ولم أسقط في فخ المقارنة بين تجربة تركيا، وتجربة أي بلد آخر، وخصوصا مصر، اجتهدت في الوصول لاستنتاجات عامة يمكن استخلاصها من أي تجربة مماثلة، المقارنة بين تركيا ومصر لن تكون منهجية لاختلافات كبيرة بين مسار البلدين وتجربتيهما وتاريخهما السياسي وطبيعة ونمط نظام الحكم فيهما ومجالهما الجيوسياسي، فإذا كانت الديمقراطية وصفة عامة صالحة للتنفيذ في أي بلد، إلا أن لكل بلد خصوصياته عند التطبيق، وتظل الخصوصيات قائمة إلى حين تجذر التجربة واستقرارها وعندئذ تتراجع الخصوصيات وتقترب التجربة وملامحها مما يطبق في مختلف الديمقراطيات، ففي التجربة التركية لايدخل البرلمان إلا الحزب الذي يحصل على 10% على الأقل من مجموع الأصوات التي ذهبت إلى اللجان، ومثل هذا البند يصعب تطبيقه في التجربة المصرية بسبب ضعف الأحزاب وعدم قدرة معظمها على تحقيق هذه النسبة، الأحزاب هناك لها تاريخ طويل من الممارسة السياسية والانتخابية، وحتى فترات الانقطاع بفعل الإطاحة بالحكومات المدنية لم تكن تستمر طويلا حيث كان يُسمح للأحزاب بالعودة للعمل، أو تخرج الحكومات العسكرية من السلطة وتتركها للمدنيين. تعتمد الديمقراطية في تركيا على الأحزاب بشكل أساسي، نظرا لطبيعة نظام الحكم فيها، وهو برلماني، أما الرئيس فهو مجرد منصب رمزي وشرفي، ولذلك يسعى الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان لتغيير النظام إلى رئاسي يكون فيه للرئيس صلاحيات وسلطات في الحكم يتقاسمها مع الحكومة، ولهذا فالتنافس هناك بين الأحزاب باعتبار أن الحزب الفائز بالأغلبية هو من سيشكل الحكومة، ولا مجال لفوز مرشحين مستقلين إلا في حدود ضيقة جدا، وقد لايزيدون على أصابع الأيدي الواحدة، بينما يحدث في مصر العكس فالمستقلون هم من يفوزون، والحزبيون يتعثرون، كما تشير نتائج الانتخابات البرلمانية الجارية، وذلك لأن النظام رئاسي، وليس برلمانيا، وهذا أضعف الأحزاب، وجعل دورها محدودا في السلطة، فالنظام في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 ألغى الحزبية، ولما عادت ظلت شكلية وظل نظام الحزب الواحد هو المهيمن من عبدالناصر حتى مبارك مرورا بالسادات. في الحديث عن تجربة تركيا حللنا فقط لماذا خرجت النتائج مختلفة عن انتخابات قريبة لم يمر عليها 5 أشهر فقط، وأشرنا إلى أخطاء وقع فيها الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" وقيامه بمعالجة تلك الأخطاء، وكان إعجابنا الأساسي بالتجربة الديمقراطية كنظام حكم مثل إعجابنا بتجربة أي بلد في هذا العالم ينتهج الديمقراطية ويطبقها سواء في الغرب المتقدم، أو في بلدان الشرق الناهضة، أو في عالم الجنوب. ديمقراطية تركيا هى للأتراك وحدهم، وليس لأي شعب آخر، ومن سيستفيدون منها هم الفائزون بها، وليس زعماء وقادة آخرين، لكن السرور منبعه أن بلدا إسلاميا يكرس تجربته، ويرفع من عدد البلدان في نطاق العالم الإسلامي التي تعتمد هذا النظام من الحكم، وتخرج من دوائر حكم الفرد، أو الحكومات المتسلطة، لكني لاحظت أن هناك من أصابهم الهوس بانتخابات تركيا ونتائجها ومن فاز بها، وأنهم يتحدثون عنها أكثر من الأتراك أنفسهم، وأن منهم من يتمنى لو كانت تركيا هى وطنه، وهذا ناتج عن موقف سياسي مخلوط بنوع من الغضب والرفض الذي قد يعمي القلوب والأبصار، تركيا لن تكون لغير الأتراك، والمصري مآله إلى مصريته، لايمكن استبدال تركيا مكان مصر في بطاقة الهوية، ولا خانة الميلاد. لدينا في مصر تجربة ديمقراطية بدأت مرحلة تطور مهمة بعد ثورة 25 يناير2011 ، وهى تتقدم وتتعثر، لكن في النهاية ستنضج التجربة، فكل مايحدث طوال السنوات الأربعة الماضية هو بناء لها، وأحد ملامح التطور أن مسألة التزوير لحزب أو مرشح معين وبعلم وسماح أجهزة الدولة قد اختفىت، وصارت النزاهة أحد المكتسبات الأساسية، كما باتت الانتخابات مفتوحة بلا قيود للأشخاص والأحزاب ودون تمييز أو تفضيل لشخص على آخر وحزب على آخر، كما أن الترشح صار سهلا بلا عوائق للبرلمان أو للرئاسة عكس ما كان قبل ثورة يناير حينما كان الترشح للرئاسة هو من سابع المستحيلات لغير مبارك. المؤكد أن وضع الديمقراطية بعد يناير أفضل منها قبلها حتى وإن كانت تجارب ما بعد 3 يوليو ليست بآليات وتنافسية ماقبلها، وإذا كانت هناك تيارات مستبعدة فلأنها رافضة أصلا للوضع الحالي، ولا تعترف به. نسعد ونشجع أي ديمقراطية في أي بلد عربي أو إسلامي، لكن لا يجعلنا ذلك نحط من شأن بلادنا، ونرفع من شأن الآخرين، ونتفاخر بهم ونجعلهم فوق بلادنا، فالعرس ليس عرسنا، وإذا كنا حضورا ومشاهدين فليكن ذلك في حدود المشاهدة والتفاعل الطبيعي الرزين الرصين. المستفيد من أي ثمار للديمقراطية في تركيا هم الأتراك، أما غيرهم ومهما التهبت أكفهم من التصفيق، وتشققت حناجرهم من الهتاف فلن يستفيدون شيئا، وهى ديمقراطية تعمل لمصلحة تركيا، وليس أي بلد آخر، وقد تحالفت تلك الديمقراطية في فترات مع مستبدين، خضوعا لمنطق المصالح. التركي يظل تركيا، والمصري سيبقى مصريا، إلا إذا كان يريد أن يفارق، لكن أين يذهب ومن سيقبله، وعبارة السيناريو التي وردت على لسان الراحل يوسف داوود في فيلم "عسل إسود" ويقول فيها إن المصري يسافر ويغترب سنوات طويلة عن مصر ثم قبل أن يموت يقول أريد أن أدفن في بلدي تعكس حالة المصري الذي يظل مرتبطا بوطنه وهو على بعد آلاف الأميال منها، ومهما طال الاغتراب. حتى لو حصل المصري على جنسية بلد آخر فإنه يظل غير أصيل، وافد مجنس، لا يشعر أنه من تراب الأرض التي يعيش عليها، يظل في مهب الريح، ومجال للتمييز والعنصرية، والنظرة الفوقية الاستعلائية من أصلاء البلد. اتابع التجربة التركية منذ زلزال حزب العدالة والتنمية الأول في انتخابات 2002، وأواكب التجربة كتابة وتحليلا قبل أن تتأزم العلاقات خلال العامين الأخيرين بين النظام في تركيا ومصر على إثر أحداث 3 يوليو، ولكل نظام رؤيته وموقفه، وكنت حريصا دوما على التمييز بين رغبتي في استفادة وطني من الديمقراطيات المتطورة، وبين عدم سقوطي في فخ الإنكار لبلدي، أو التقليل من شأنه. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.