عندما نتناول مسألة تأسيس جماعة الإخوان المسلمين لحزب سياسي، ونتناول العلاقة بين الجماعة والحزب، علينا في البداية النظر إلى البيئة الاجتماعية التي تتم فيها هذه التجربة، لمعرفة المناخ العام المحيط بها. فالمجتمع المصري، مثل غيره من المجتمعات العربية والإسلامية، يشهد بروزا واضحا لدور التكوينات الاجتماعية بمختلف أشكالها، بدأ من الحركة الاجتماعية مثل الحركات الإسلامية، حتى العائلة والقبيلة والطائفة. وهذه البناءات الاجتماعية الأساسية، هي نفسها البناءات التي عملت أنظمة الحكم المستبدة على تحطيمها والحد من دورها، عدا في الأنظمة الملكية والتي تكيفت مع بناءات العائلة والقبيلة دون غيرها، نظرا لأن النظام الملكي نفسه قائم على أساس العائلة والقبيلة. وإذا عدنا لمرحلة ما قبل الدولة القومية المستبدة، سنجد أن المجتمعات العربية والإسلامية تميزت بدور واسع للحركات الاجتماعية، ومنها جماعة العلماء والتجار والطرق والطوائف الحرفية، بل نجد أن تلك المكونات كان لها دور بارز في صد السلطة التنفيذية والحد من سلطتها، وكان لها دور بارز في تغيير رأس السلطة التنفيذية، أي الوالي مثلا. ويتوافق هذا مع ما نشهده من دور مركزي عميق لمختلف التنظيمات الاجتماعية والشعبية، ودور أقل تأثيرا لمعظم تجارب الأحزاب السياسية في المراحل المختلفة والتجارب المختلفة في الدول العربية والإسلامية. وإذا قارنا دور الأحزاب السياسية بدور الحركات الإسلامية، سنجد أن الحركات الإسلامية كانت ومازالت هي الأكثر تأثيرا وفاعلية. مما يعني أن الحركات الاجتماعية تمثل العصب الرئيس لحركة المجتمع، وأنها تمثل التنظيمات الأكثر شعبية وفاعلية. ويضاف لهذا، أن التنظيمات الشعبية بمختلف أنواعها تمثل حالة تنظيم للمجتمع ككل، من خلال أطر متعددة ومتداخلة في الوقت نفسه. والتنظيمات الشعبية تسمح بتنظيم مختلف مكونات المجتمع في عدة أطر ذات أسس مختلفة، فمنها التنظيمات الدينية والفكرية والسياسية، ومنها التنظيمات الشبابية والمهنية والحرفية، ومنها التنظيمات الجغرافية وغيرها. وهي بهذا تمثل إطارا ينظم حركة المجتمع، كما أن العضوية فيها متداخلة، لأن المنتمي لتنظيم اجتماعي ديني أو فكري، يمكن أن ينتمي لتنظيم مهني أو حرفي في الوقت نفسه. وتتميز التنظيمات الاجتماعية بدورها الواسع ونشاطها الاجتماعي الممتد في العديد من المجالات، مما يجعلها جزءا من حياة الفرد، يمارس من خلالها العديد من الأنشطة المهمة لحياته. لذا نتوقع أن تكون التنظيمات الاجتماعية ذات دور مهم في بناء المجتمع القوي الحر، ونتوقع أن تكون تلك التنظيمات والحركات الاجتماعية هي الأساس الذي تقوم عليه الحركة السياسية في مصر. بمعنى أن التنظيمات الاجتماعية سوف تكون هي الأساس المنظم لحركة المجتمع، ومنظم لتياراته السياسية، ومنها تتشكل الكتل الاجتماعية المؤيدة للتيارات السياسية، وتتحول تلك الكتل الاجتماعية إلى كتل مؤيدة للأحزاب السياسية، وبالتالي تنشط حركة الأحزاب السياسية. وهذا التصور يفترض أن المجتمع ينتظم أولا في شكل حركات اجتماعية، ثم ينتظم بعد ذلك في شكل أحزاب سياسية تعبر عن الكتل الاجتماعية المنتظمة في صورة حركات اجتماعية. وإذا صح هذا التصور، يصبح من الضروري العمل على فتح الباب أمام حرية التنظيم، حتى يتاح للجميع بناء التنظيمات الاجتماعية المعبرة عنهم، وهو ما سوف يؤدي إلى بناء المجتمع القوي الذي يبني بالتالي النظام السياسي الحر الديمقراطي. ومع تنوع الحركات الاجتماعية، سوف تكون بعضها معبرة عن تيار أو فكرة سياسية معينة، وسوف تكون بعضها معبرة عن إطار اجتماعي عابر للرؤى السياسية، فبعضها سوف يركز اهتمامه على قضايا مهنية مثلا، ويكون له دور في حث الأحزاب السياسية المختلفة على تبني ما يراه لتطوير المهنة. وبعض تلك الحركات الاجتماعية سوف يحمل رؤية سياسية معينة، وبالتالي سوف يعبر عن تلك الرؤية في حزب سياسي، مثل حالة جماعة الإخوان المسلمين، وبعض تلك الحركات الاجتماعية سوف يتبنى مطالب أو تصورات في قضايا بعينها، وعليه سوف يؤيد الحزب الذي يتبنى تلك التصورات. وبهذا ترتكز الأحزاب السياسية على بناءات اجتماعية منظمة، تقيم التواصل المنظم بينها وبين القواعد الاجتماعية وتنشط حركتها، بالصورة التي تضمن تنشيط الحياة السياسية. ومن هذا التصور، يصبح تأسيس جماعة الإخوان المسلمين لحزب سياسي مسألة هامة، ويصبح من الضروري الاحتفاظ بالجماعة والحزب معا، كمؤسسات مستقلة، ولكن تتبنى رؤية واحدة، وكل منها يطبق الجانب الذي يخصه من تلك الرؤية في مجالات عمله. فالحفاظ على الجماعة، لا يرتبط فقط بتاريخها ودورها، ولكن يرتبط أيضا بأنها مثل مختلف الحركات الإسلامية، تمثل الحركات الاجتماعية الأكثر فاعلية ونشاطا، والتي سوف يكون دورها مركزيا في المستقبل. لهذا يكون الحفاظ على الحركات الاجتماعية له الأولوية، حيث نتوقع أن تظل الحركات الاجتماعية هي الأكثر فاعلية، وهي التي تنشط حركة الأحزاب السياسية، وبدونها يمكن للحياة السياسية الحزبية أن تواجه الفشل، أو تواجه حالة عزوف عنها مع مرور الوقت، خاصة بعد تراجع الوهج الأول لمرحلة الحرية السياسية. ومن هذا المدخل، يصبح من المهم على مختلف القوى السياسية، والتي تعبر عن نفسها في أحزاب سياسية، أن تعمل على تنشيط المجال الاجتماعي وتشجيع قيام حركات وتنظيمات اجتماعية تعبر عن الكتل والفئات التي تتصور تلك الأحزاب أنها تعبر عنها، حتى تبني قاعدتها الاجتماعية المنظمة، والتي سوف تتيح للحزب القيام بدور مؤثر، بحجم قاعدته الاجتماعية. ولكن الحزب الذي يفتقد للقاعدة الاجتماعية الواضحة المعالم، سوف يواجه مشكلة، والحزب الذي يستطيع أن ينظم قاعدته الاجتماعية في صورة حركة أو حتى حركات أو تنظيمات اجتماعية ومدنية، سيجد أنه قادر على القيام بدور سياسي أفضل، وسيجد أن دوره السياسي أكثر استمرارا ورسوخا. لذا تمثل ثنائية الجماعة والحزب من هذا المنظور، ثنائية مهمة، وهي ثانية الحركة السياسية والحركة الاجتماعية، والتي يمكن أن تبني مجتمعا قويا ومنظما، يعبر عن نفسه أولا في صورة تنظيمات اجتماعية، ثم تعبر تلك التنظيمات عن نفسها سياسيا في صورة أحزاب سياسية.