إنفوجراف.. مشاركة وزير العمل في اجتماعِ المجموعةِ العربية لمؤتمر جنيف    منتدى الأعمال المصري المجري للاتصالات يستعرض فرص الشراكات بين البلدين    مقتل شخص وإصابة 24 فى إطلاق نار بولاية أوهايو الأمريكية    ميدو: استدعائي للتحقيق من قبل لجنة الانضباط بسبب الظهور الإعلامي "مصيبة".. وهذه كواليس الجلسة    أفشة: كولر خالف وعده لي.. وفايلر أفضل مدرب رأيته في الأهلي    أفشة: أنا أفضل لاعب في مصر.. واختيار رجل المباراة في الدوري «كارثة»    «أهل مصر» ينشر أسماء المتوفين في حادث تصادم سيارتين بقنا    إعدادية القليوبية، نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة القليوبية عبر هذا الرابط    محافظ بورسعيد يودع حجاج الجمعيات ويوجه بتوفير سبل الراحة.. فيديو وصور    إعلام فلسطينى: اندلاع حريق فى معسكر لجيش الاحتلال قرب بلدة عناتا شمالى القدس    العثور على جثة طالبة بالمرحلة الإعدادية في المنيا    4 شهداء في غارة للاحتلال على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    عماد أديب: نتنياهو يعيش حياة مذلة مع زوجته    كريم خان يتسبب في "خيبة أمل جديدة" بين نتنياهو وبايدن    غالانت يقترح "إنشاء حكومة بديلة لحماس" في غزة    تنخفض لأقل سعر.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الإثنين 3 يونيو بالصاغة    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم الإثنين 3 يونيو 2024 (تحديث)    التموين تكشف حقيقة تغيير سعر نقاط الخبز ومصير الدعم    وكيل كوناتي: إذا قرر اللاعب الانتقال إلى الدوري المصري سيكون من خلال الأهلي    موقف الشناوي من عرض القادسية السعودي    ميدو: ليس هناك وقت ل«القمص» وحسام حسن سيخرج أفضل نسخة من صلاح    الكشف عن تفاصيل عرض موناكو لضم محمد عبد المنعم.. ورد حاسم من الأهلي    خسارة للبايرن ومكسب للريال.. أسطورة البافاري يعلق على انتقال كروس للملكي    السجيني: نزول الأسعار تراوح من 15 ل 20 % في الأسواق    الذكاء الاصطناعي يحدث ثورة في الكشف المبكر عن قصور القلب    بعد الخبز.. مقترح حكومي بزيادة السكر التمويني إلى 18 جنيها    أصعب 24 ساعة.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الإثنين: «درجات الحرارة تصل ل44»    مصرع وإصابة 16 شخصا في حادث تصادم سيارتين بقنا    دفن جثة شخص طعن بسكين خلال مشاجرة في بولاق الدكرور    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم دراجتين ناريتين بالوادي الجديد    "التعليم": شرائح زيادة مصروفات المدارس الخاصة تتم سنويا قبل العام الدراسي    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    المرصد السوري: سلسلة انفجارات متتالية قوية تهز مدينة حلب (فيديو)    دراسة صادمة: الاضطرابات العقلية قد تنتقل بالعدوى بين المراهقين    «فرصة لا تعوض».. تنسيق مدرسة الذهب والمجوهرات بعد الاعدادية (مكافأة مالية أثناء الدراسة)    النيابة الإدارية تكرم القضاة المحاضرين بدورات مركز الدراسات القضائية بالهيئة    محمد أحمد ماهر: لن أقبل بصفع والدى فى أى مشهد تمثيلى    محمد الباز ل«بين السطور»: «القاهرة الإخبارية» جعلتنا نعرف وزن مصر الإقليمي    إصابة أمير المصري أثناء تصوير فيلم «Giant» العالمي (تفاصيل)    الفنان أحمد ماهر ينهار من البكاء بسبب نجله محمد (فيديو)    عماد الدين حسين: مصر ترجمت موقفها بالتصدي لإسرائيل في المحافل الدولية    أسامة القوصي ل"الشاهد": مصر الوحيدة نجت من مخطط "الربيع العبري"    مدير مكتب سمير صبري يكشف مفاجأة عن إعلام الوراثة وقصة نجله وبيع مقتنياته (فيديو)    رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني يعلق على تطوير «الثانوية العامة»    سعر المانجو والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الإثنين 3 يونيو 2024    كوريا الشمالية توقف بالونات «القمامة» والجارة الجنوبية تتوعد برد قوي    عماد الدين حسين: مصر ترجمت موقفها بالتصدي لإسرائيل في المحافل الدولية    حالة عصبية نادرة.. سيدة تتذكر تفاصيل حياتها حتى وهي جنين في بطن أمها    استمتع بنكهة تذوب على لسانك.. كيفية صنع بسكويت بسكريم التركي الشهي    وزير العمل يشارك في اجتماع المجموعة العربية استعدادا لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    التنظيم والإدارة: إتاحة الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    قبل ذبح الأضحية.. أهم 6 أحكام يجب أن تعرفها يوضحها الأزهر للفتوى (صور)    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية الفرجاني في مركز بني مزار غدا    ما جزاء من يقابل الإحسان بالإساءة؟.. أمين الفتوى يوضح    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    أمناء الحوار الوطني يعلنون دعمهم ومساندتهم الموقف المصري بشأن القضية الفلسطينية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستثمار الانتهازي للدين في قمة سقيفة بني ساعدة
نشر في القاهرة يوم 04 - 05 - 2010

لعل أهم السمات الفارقة للعربي البدوي، هوالاعتزاز القدسي بالنسب القبلي، حتي أنهم لم يعرفوا أن هناك علماً أرقي ولا أهم من علم الأنساب، وكان لديهم متخصصون يرفعون النسب إلي الجد التاسع والعاشر، عارفون بأقدار الناس ما بين النسب الرفيع والنسب الوضيع. ويرتفع النسب وينخفض بحسب عدد أفراد القبيلة، والقدرة القتالية للقبيلة.
عيينة بن حصن الفزاري مثلاً لم يكن بمقاييس الرجال أكثر من أحمق جهول، ومع ذلك حسبت له العرب ألف حساب، حتي نبي الإسلام تعامل معه علي كفره وفق هذا المعني، وكان يلقبه بالأحمق الطماع المطاع، لأن بإمكانه تجييش عشرة آلاف فارس في لحظة. ومن ثم كان تفاوت الأنساب والتفاخر بالنسب إن كان صدقاً أوكذباً مدعاة لسيادة قاعدة عدم المساواة بين الناس كمفهوم أصيل لدي العرب، ووضعوا لعدم المساواة بين الناس علماً يصنفهم درجات وطبقات، هوعلم الأنساب.
قاعدة بدوية
ومن ثم فإن عدم المساواة بين أقدار الناس أصيل في البنية التكوينية لطبيعة المجتمع البدوي الذي يري أن عدم المساواة هو طبيعة الأشياء ونظام الكون، وأن تراتب الخلق في منازل ورتب ودرجات قدر حتمي، ولأنه يتعلق بعدم المساواة في الرزق الذي لا حيلة فيه لإنسان، فهوإلهي محتوم.
ونجد هذه القاعدة البدوية في التفرقة بين بني آدم هوأساس ومحور النقاش في سقيفة بني ساعدة، عندما تنافس الأنصار والمهاجرون حول أحقية كل منهما في رئاسة العرب بعد وفاة الرسول واكتمال الرسالة الإسلامية. وتمكن المهاجرون القرشيون من حيازة الأفضلية للرئاسة فأصبحوا من بعد هم الحاكمين، وهم من كُتب التراث الإسلامي تحت ظلهم وبتوجيه منهم. وقد حازوا تلك الأفضلية بالقرابة القبلية العشائرية من نسب النبي، فهم ذوو قرابته ومن دمه ورحمه. وأفضلية أخري إضافية هي السابقة في الإسلام، وهي قيمة غير مفهومة في معايير زماننا، لأن الأسبقية في الإسلام لا يجب بموازين عدل اليوم أن تفضل طرفاً علي طرف تأخر إسلامه، لأن المعني سيكون أنه كان مطلوباً من العالم كله وفي لحظة واحدة أن يعلن إسلامه وقتما أعلن النبي نبوته، حتي تكون هناك مساواة، وسواء بلغته الدعوة فوراً أوجاءته متأخرة. فالسابقة في الإيمان هنا لا يمكن فهمها إلا في ضوء حياة الغزوالقبلي، القائمة علي القدرة القتالية والانتصار بأي أسلوب ممكن، كالخطف حيث يكون الخاطف صاحب حق في المخطوف بمجرد خطفه، إن السابقة هنا تعني في المفهوم البدوي أنه قد سبق إلي الخطفة فأصبحت له، وهي قاعدة بدوية يفهمها كل البدو، ويرونها حقاً منطقياً طبيعياً لا غبار أخلاقي عليه بالمرة، ولعل قول عمر بعد فوز أبي بكر بالخلافة : " إن خلافة أبي بكر كانت فلتة وقانا الله شرها " تعبير واضح عن تلك الفلتة أوالخطفة.
في السقيفة سنري أول استثمار انتهازي للدين من أجل مكاسب دنيوية بحتة، وكان أول المستثمرين هم صحابة النبي المقربين، وهم من فتح الباب لاستثمار دين الله لأهداف دنيوية بحتة، وذلك بحسبانهم من قال عنهم النبي : " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
ومن ثم كانت قدسية الصحابة رصيداً قدسياً آخر، فتم إلباسهم قداسة الدين الذي تم استثماره في صراع أهل القمة في السقيفة.
وقد أثمر هذا الاستخدام الانتهازي للدين ولقداسة الصحابة عن تقسيم للمجتمع المسلم إلي قسمين : قسم له شرف الحكم، وقسم آخر تم تشريفه بكونه رعية للحكام المقدسين، وعليه واجب الطاعة والمساعدة ولا حق له في الحكم، وذلك تأسيساً علي حديث أبي بكر عن النبي الذي حسم به الأمر : إن " الخلافة في قريش ". وما كان ممكناً تكذيب أبي بكر وهوالصديق في هذا الحديث الذي لم يسمعه من النبي سوي أبي بكر وحده، بل وترتب علي هذا الحديث أن جعل الحكم وراثياً في قريش وحدها دون بقية العرب، وتمت به مصادرة مدينة يثرب من أهلها الأنصار وجعلها فيئاً للمهاجرين دون حرب ولا فتح، بقرار ديني احتفظ به أبوبكر سراً حتي حان أوانه ففشي به.
الملحوظة الثانية التي لا تقل أهمية فيما دار بالسقيفة هوأن طرفي الصراع كانا يتحدثان بحسبان الرسالة المحمدية موجهة للعرب وحدهم دون الناس، في خطبة أبي بكر سيتذكر مع الناس ما مضي، وكيف جاء النبي بدعوته، وكيف " عظم علي العرب أن يتركوا دين آبائهم / الطبري / 11 / 19 ". فهويوضح هنا أن الرسالة كانت موجهة للعرب وحدهم، ولم يرد في خطبته علي طولها وتعدد محاورها ما يشير لغير العرب من فرس أو اوم أو غيرهما من قريب ولا بعيد.
المعني ذاته تؤكده خطبة سعد بن عبادة الأنصاري الذي قام بالسقيفة يعرض حجج الأنصار في الأحقية والأفضلية للحكم، موجهاً خطابه لأهله الأنصار وكيف استضافوا الدعوة وحموها وخرجوا بها خارج حدود يثرب في ظل سيوفهم ورماحهم، " حتي استقامت العرب بسيوفنا لأمر الله طوعاً وكرهاً، وأعطي البعيد المقادة صاغراً داحراً، وحتي أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب".. وهكذا تكون الرسالة قد اكتملت بسواعد الأنصار وذلك في خاتمة سعد.. " وتوفاه الله وهوراض عنكم، وبكم قرير العين ".
هنا أيضاً كان العرب هم هدف الرسالة التي بلغتهم تامة كاملة، وليس مقصد الرسالة حسب فهم الصحابة هنا هوالعالم، وعندما كانوا يتحدثون عن الأرض كانوا لا يقصدون بها العالم، إنما أرض العرب بالذات، " حتي أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب ". فالأرض المقصودة ها هي الأرض التي دانت عربها لأسياف الأنصار.
هنا اختلاف شديد في المفاهيم ما بين دلالتها عند عربي زمن الدعوة وما بين دلالتها اليوم، وهوالأمر الذي تهدف هذه الدراسة إلي التنبيه إليه، حتي يمكن أن نقرأ نصوص ذلك الزمان بدلالات مفاهيم زمنهم لا مفاهيم زماننا اليوم.
أبوبكر يدعم موقف المهاجرين المطالب بالحكم والسلطان فيقول عنهم : " فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله ورسوله، وهم أولياؤه وعشيرته، وهم أحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة ".
ويلفت الانتباه بشدة قول الصحابي الكبير " فهم أول من عبد الله في الأرض "، فلا شك أنه كان علي علم بالنبوات السابقة في بقاع الأرض تكون الأرض وإمارتها ميراثاً وليس دولة تُدار بأساليب إدارة الدول كما في بقية الدول المجاورة.حول جزيرة العرب، لذلك عندما يقول الأرض فإنما هو يعني أرض الجزيرة تحديداً التي فيها كان المهاجرون أول من عبد الله حق عبادته وآمن بالله ورسوله، ويظل المفهوم من كلمة الأرض أرض العرب وحدها. أما السبب الجوهري في أحقية المهاجرين بالرئاسة أوبالأمر فهوأنهم أولياء النبي وعشيرته وأهل نسبه القبلي. لذلك "هم أحق الناس بهذا الأمر من بعده ". المسألة إذن كانت ميراثاً قبلياً وليست شأن الدين والإسلام، ليس فيها أسباباً كالكفاءة أومصلحة الرعية أورأي هؤلاء الرعية، فهذا كله ليس سبيلاً إلي ( الأمر ) أوالرئاسة، إنما السبيل هوالقرابة والعصبية والنسب، ومن ثم هنا لا تجد بالمرة تعبير (دولة )، فالعرب لا يعرفون من دلالة دولة سوي التداول بتغير الأزمان، وتلك الأيام نداولها بين الناس، إنما كانوا يعرفون ( الرئاسة ) أي الحكم بمفاهيمنا لكن بمصطلح (الأمر )، لأن الرئيس هومن يأمر فيطاع، فهوالآمر، وماهية منصبه هي ( الأمر ) ومنها الأمير، لذلك لم يعرف العربي معني الدولة والحكومة كما نعرفه بدلالة أيامنا، إنما فقط يعرف الآمر والمأمور، ما يعرفه هوالأمر والأمير والآمر بلا منازع ولا معارض ولا شريك. الأهم وتأسيساً علي المعاني الفطرية الأصيلة عند العربي في عدم المساواة بين الناس، هوأن أبا بكر كان يري أن الله لم يساوي بين المهاجرين والأنصار، وأن للمهاجرين أفضليتين واضحتين فضلهمم الله بهما علي الأنصار وخص بهما المهاجرين، الأفضلية الأولي سابقتهم في الإسلام، والثانية قرابتهم ونسبهم القبلي للنبي، وإلا لماذا لم يختر نبيه من بين الأنصار؟ لماذا ظهر في مكة ولم يظهر في يثرب ؟ حجة بدورها قبلية تقوم علي منطق قبلي عشائري قُح.
أما قوله : " لا ينازعهم ذلك إلا ظالم "، فهوما يعني بوضوح فصيح أنه حتي بعد اكتمال الدين تحت سمع وبصر الصحابة، فإن من بين الصحابة من عجز عن إدراك العدل، وظهر من بينهم من هوظالم لايري العدل عندما يكون ماثلاً أمام عينيه، وهذا العدل ليس هوالوفاء للأنصار بما قدموا : إنما هوحق قريش في الحكم، وهذا الحق له أصول قبلية راسخة، وعليه فإن دلالة مفهوم العدل زمنهم تختلف بدورها عن فهمنا لها اليوم، فحق قريش بعيون اليوم سيكون غير مفهوم بالمرة، مقابل ما قدم الأنصار من بذل وعطاء وفداء.
في قمة السقيفة حدثت تحولات وانقلابات أدت إلي تغير خط سير التاريخ، فبعد ريادة يثرب، وبعد ما كان الأنصار وقود الانتصارات الإسلامية المتتالية، أسفر اجتماع السقيفة عن نتائج أعادت إلقاء الأمر كله بيد قريش مرة أخري، لتستمر قائدة للعرب بشكل شرعي، بعدما كانت سيادتها زمن الجاهلية سيادة عرفية غير ملزمة ودون اعتراف قبلي علني بهذه القيادة، لقد دق اجتماع السقيفة قريشا وتداً في جسم الزمن والجغرافيا لتحكم بشريعة القرابة للنبي ودينه معاً، بالانتساب للدين رغم أنه حق مشاع لا يصح إليه انتساباً دون انتساب، لقد تم تأميم الإسلام وتشخيصه في شخص محمد، ومن القرابة لمحمد تمت وراثة الدين والدنيا معاً في منظومة واحدة يعرفها العلم الحديث باسم منظومة الاستبداد الشرقي.
والنظرة الأكثر فحصاً وتدقيقاً لابد أن تصل إلي أن قمة السقيفة لم تغير خط سير التاريخ، إنما هي أعادت هذا الخط إلي مساره الطبيعي الذي سبق وصنعته ظروف البيئة وظروف السياسة العالمية، عندما أصبحت مكة بقيادتها القرشية أهم محطة تجارية مالية، نتيجة للحرب بين الفرس والروم، عندما لم يعد في العالم طريقاً آمناً للتجارة سوي الطريق الصحراوي القادم من اليمن في رحلة الشتاء ميمماً نحوالشمال حيث عالم الامبراطوريات في رحلة الصيف. وما كانت يثرب في ذلك إلا حلقة في السلسلة الكبري التي تم استخدامها في انحرافة تاريخية لضرب تجارة مكة، وقيام يثرب بغزواتها الإسلامية علي الطريق التجاري وحصاره اقتصادياً لإخضاع مكة للسيادة الإسلامية، وما حدث في السقيفة إذن هوعودة الاعتدال لخط سير التاريخ نحو نتائجه المنطقية، فكان أن أصبحت يثرب نفسها مقراً لأول حكومة قرشية عربية بالمعني الواسع لفيدرالية قبلية موسعة في جزيرة العرب.
فماذا أبقت السقيفة للأنصار ؟
في خطابه بالسقيفة يتوجه أبوبكر للأنصار قائلاً : " نحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفئ، وأنصارنا علي العدو".
هنا تبدوحكمة أبي بكر وحنكته في توجيه الاهتمام لما يحب العربي ويهوي، نحوالحروب والسبي والفئ والغنائم، مع تضمين التوجيه نحوالفتوحات طمأنه للأنصار علي حفظ حقوقهم المالية في الفيئ، إنها الإشارة المهمة التي تهدئ الروع وتطمئن الفؤاد، ولا شئ هنا عن واجب الصحابة في نشر الدعوة الإسلامية، كل الحديث عن فئ مضمون لأصحابه / الطبري 11 / 220 / هيكل / حياة محمد / ص 403 " والعدو المقصود هنا هو غير المسلم، فمجرد وجوده هوعدوان علي المسلم يجب رده، وغير المسلم العدوسيكون هومحل تفعيل الحلف القديم " أنصارنا علي العدو" وهومصدر الفيئ الذي سيكون منه نصيب " لشركائنا في الفيئ ".
ولا يفوت الصديق أن يقدم للأنصار التقدير والثناء فيقول لهم : " وأنتم معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله، وجعل إليكم الهجرة، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تُفتاتون بمشورة، ولا تُقضي دونكم الأمور ".
في عالم العرب كانت اللغة قادرة فعالة، قوم فخرهم اللغة، فخرهم أنهم يتكلمون، ولقبوا غيرهم بالعجم ولقبوا الحيوانات بالعجماوات أي التي لا تُفصح فصاحة العرب بكلام مفهوم للعرب !! وأن من يتكلمون لغات أخري إنما يصدرون مجرد أصوات كبقية الحيوانات العجماوات، وهذه الفصاحة قامت بتحويل تضحيات الأنصار العظمي وإيوائهم النبي والمهاجرين ومحاربة العرب من أجله، حولتها إلي منّة من الله لينصر بهم دينه، فليس لهم أي فضل علي الدعوة، لأن الحقيقة أن الفضل هوعلي الأنصار وليس لهم، ويكفيهم أنهم كانوا المختارين إلهياً للقيام بهذه المهمة وحدها، لذلك مّن الله عليهم بهذا الفضل، فشرفهم بذلك وكرمهم، ورغم هذا التكريم الإلهي فلا يزالون أمام القانون القبلي في الدرجة الأدني، فهم بعد المهاجرين، لذلك فالعدل يفرض الأمراء ( الآمرين ) من قريش،والوزراء من الأنصار.
والقارئ المدقق لتفاصيل قمة السقيفة سيري أول الملحوظات البارزة، وهي العادة العربية الجاهلية في التفاخر بالنسب وعدد أفراد القبيلة وقوتها ومنعتها، ودرجة القرابة من الرسول، والتعامل مع الأمر باعتباره ميراثاً، دون إي إشارة تفيد بمعرفتهم لمبادئ الحقوق والواجبات سواء كانت تلك المتعلقة بالحاكم أوبالرعية، وعدم المعرفة هوالتفسير الوحيد لعدم تعرض أياً من الطرفين لها في المنافسة التي دارت بالسقيفة وسجلتها لنا كتب السير الإسلامية بكل دقة. أما الملحوظة النافرة الناتئة تكاد تعمي البصر، هوأن أحد الفريقين لم يتعرض لما سيحرص عليه من أجل نشر الإسلام وتثبيته كهدف رئيسي. لقد تركوا جثمان نبيهم لأهله الهاشميين يغسلونه ويكفنونه ويلحدونه، وراحوا إلي السقيفة يتصارعون علي الإمارة، ولم يحضر الدين إلا لدعم كل طرف علي الآخر، أما هوفي ذاته فلم يكن هدفاً واضحاً في هذا الاجتماع التاريخي الفاصل.
الإمارة والرئاسة والخلافة
لذلك لم يقبل الأنصار أن يكونوا الوزراء وقريش الأمراء، فتقدموا باقتراح آخر هو: " منا أمير ومنكم أمير " فكان رد عمر بن الخطاب الحاسم الحازم : " هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضي العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك علي من أبي من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدل بباطل، أو مُتجانف لإثم ومتورط في هُلكه ".
يقدم عمر هنا القانون العربي، سيرفض العرب أن يحكمهم أحد من خارج القرابة النبوية، وهوالقانون الذي يري أن محمداً كان صاحب سلطان وإمارة، وأن هذا السلطان وتلك الإمارة هما ميراث لأهله وعشيرته دون غيرهم.
الطريف أن الهاشميين الذين قاطعوا السقيفة والبيعة، قال زعيمهم علي بن أبي طالب فاضحاً الموقف كله : " لقد احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة "، أي أن المهاجرين القرشيين من غير بني هاشم احتجوا للإمارة بكونهم شجرة النبي، بينما الحجة مردودة عليهم، لأنه وفق هذا المنطق كان الأحق بالإمارة هوعلي بن أبي طالب، فهوالثمرة علي تلك الشجرة. أما الأنصار فلا نالوا إمارة ولا حتي وزارة كما وعد أبوبكر.
إن قول الأنصار : " منا أمير ومنكم أمير " يعني معرفة العرب الإمارة بمعني الرئاسة، لكن أبوبكر تخير لنفسه لقب " خليفة رسول الله "، ورفض لقب الإمارة، لأنه أراد أن يطمئن الأنصار بعدم رغبة المهاجرين في التأمر عليهم ورئاستهم، وأن الأوضاع كما كانت عليه لم تتغير بوفاة النبي ( صلي الله عليه وسلم ) لأن القائم مقامه هوخليفته، وإذا كان الأنصار قد ناصروا النبي ( صلي الله عليه وسلم ) وآووه وأيدوه حتي أظهر الله أمره ونشر دينه بين العرب، فعليهم الاستمرار علي نفس العهد مع خليفته إخلاصاً للنبي ولدينه، وأن يؤدوا لخليفة النبي ( صلي الله عليه وسلم ) ما كانوا يؤدونه للنبي، هذا ناهيك عن اكتساب الخليفة قدسية النبي والدين بخلافة النبي في الدنيا والدين.
من جانب آخر كان اختيار لقب خليفة رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) إعلاناً عن مسئولية هذا الخليفة عن كل المسلمين وليس المهاجرين وحدهم، وهي طمأنة إضافية للأنصار. فوأد الفتنة ومنع قيام صراع بين المهاجرين والأنصار علي إمارة مرفوضة، وليتمكن بسيوف الأنصار من استعادة المضارب الانفصالية والمرتدة. ثم أن لقب الخليفة أغني من لقب الإمارة، فالإمارة سلطة زمنية أوعسكرية، أما الخلافة عن النبي فهي لقب يجمع إلي جانب الزعامة الدنيوية الزعامة الروحية أيضاً.
وعندما تولي عمر ( رضي الله عنه ) وأحب اختيار لقب، فقالوا ليكن خليفة خليفة رسول الله، فقال والله إنه لشأن طويل، واختار لقب " أمير المؤمنين " بدلاً من " أمير العرب " أو" أمير الحجاز "، وهواختيار في وقته موفق إلي حد عظيم، فهوما يعني أنه ليس أميراً لفريق دون فريق، فهوأمير كل المؤمنين، والمقصود بالمؤمنين هنا هم أهل الجيل الأول من الدعوة مهاجرين وأنصارا وقوادا وعسكرا، وهم من قام الدين الجديد علي سواعدهم، فكان لقب أمير المؤمنين طمأنة أنهم تحت الرعاية القصوي، وأنهم الأولي برعاية الأمير، هو أميرهم وهم المؤمنون.أمير المؤمنين تعني أنه لا يحكم علي إمارة ولا علي مملكة ولا علي إمبراطورية ولا علي دولة، إنما إمارته هي للمؤمنين وحدهم بعوائدها الجزيلة الآتية جباية وخراجاً وجزية من غير المؤمنين، واتسعت رقعة البلاد المفتوحة وكان أغلب سكانها من غير المؤمنين، وكان المؤمنون هم الأقلية الحاكمة، لذلك جاء لقب أمير المؤمنين كعطاء عهد أمان للعرب النازحين من الجزيرة إلي البلدان المفتوحة، فأميرهم الحاكم الأعلي للإمبراطورية مسئول عن رعايتهم وعن مصالحهم دون غيرهم أينما كانوا، فهم وحدهم رعية أمير المؤمنين، وهو ما يفسر موقف الخليفة عمر عندما طلب الغوث زمن الرمادة من والي مصر عمروبن العاص، فعرض عليه إعادة حفر قناة سيزوستريس لإيصال المعونة، لكن ذلك سيعني خراب مصر عدة سنوات، فقال عمر قولته المشهورة : "اعمل فيها وعجل، أخرب مصر في عمران مدينة رسول الله "، لم يكن المصريون من رعية عمر، إنما هم مجلب الفئ للأمير ورعيته، وخراب مصر في عمار مدينة رسول الله هو قيمة عُليا عُمرية وقُربه منه إلي الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.