تناول عدد مجلة Foreign Affairs أو الشئون الخارجية الأمريكية الصادر في نهاية شهر أغسطس الأحداث في ليبيا خاصة بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي. اشتمل العدد علي مقالين، الأول بعنوان "ليبيا وعقيدة أوباما: النجاح القبيح للولايات المتحدة" للكاتب مايكل أوهانلون، مدير بحوث الشئون الخارجية في معهد بروكينجز. وينتقد مايكل أوهانلون في دراسته النجاح الذي حققته الولاياتالمتحدة في ليبيا علي أساس أنه علي المدي البعيد سيولد المزيد من العنف. فإدارة الرئيس أوباما نجحت في التوفيق بين توفير القوة العسكرية الجوية، وفرض القيود الاقتصادية والقانونية علي العقيد القذافي، والخوض في صفقات دبلوماسية مع المعارضة. ما قامت به الولاياتالمتحدة في ليبيا ربما يكون قد حقق نجاحاً آنياً، غير أن هذا النجاح جاء علي حساب أهداف المعونات الإنسانية للمهمة الأمريكية في ليبيا منذ بدايتها. كما أن تصعيد العنف بسبب التدخلات العسكرية سيجعل من الصعب إعادة الثقة بين الأطراف المختلفة من أجل بناء النظام الليبي الحر الجديد. النجاح الأمريكي القبيح تلك الرؤية للكاتب جعلته يصف النجاح الأمريكي في ليبيا بالقبيح حيث قارنه بما حدث في كوسوفو لدي تدخل قوات الناتو. ويري مايكل أوهانلون أن التدخل في كوسوفو كان أسهل بكثير للغرب من التدخل في ليبيا فبينما شهد الصراع في كوسوفو صراعاً عرقيا واضحا بين الصرب والألبان مما جعل نهاية الأزمة لا تحتاج لجهود مصالحة بين المجموعتين، نري أن الأمر أكثر تعقيداً في ليبيا التي تتمثل طبيعة الصراع فيها حول الولاءات القبلية وهو ما يجعل جهود المصالحة الوطنية أكثر تعقيداً وأكثر حساسية. فالعديد من القبائل الليبية الموالية للقذافي سترغب في المشاركة في أي حكومة مستقبلية، ولن يكون من المجدي قيام المعارضة بإقصائها لأن ذلك سيكون من شأنه توليد مزيد من العنف وربما يؤدي لحرب أهلية. أما المقال الثاني فهو بعنوان "ليبيا ومستقبل سياسة التدخلات الإنسانية: كيف برر سقوط القذافي سياسات أوباما والمسئولية الأمريكية لحماية المجتمع الدولي" للكاتب ستيوارت باتريك مدير برنامج المؤسسات الدولية والحكم الدولي في مجلس العلاقات الدولية. في هذه الدراسة يشير ستيوارت باتريك إلي أن سقوط القذافي هو انتصار للسياسة الخارجية للرئيس باراك أوباما وإدارته استطاع من خلالها أن يحقق الهدف قصير الأجل من الحد من عدوان نظام القذافي علي المتظاهرين، والهدف طويل الأجل وهو التخلص نهائياً من القذافي. وقد تم تحقيق الهدفين بميوانية عسكرية ضعيفة لم تكلف الولاياتالمتحدة قوات برية أو أي ضحايا. غير أن تطبيق سياسة المسئولية الأمريكية لحماية المجتمع المدني لابد أن ينظر إليها بعيم مختلفة في الحالة الليبية التي كانت بلاشك حالة استثنائية وغير قابلة للتكرار. لذلك يطالب ستوارت باتريك بالتعامل بحذر مع هذه السياسة. استثائية الحالة الليبية الظروف الاستثنائية التي أحاطت بالحالة الليبية تركزت علي شخصية الزعيم القذافي الذي وضع نفسه منذ اللحظة الأولي في عباءة الشخصية الإجرامية التي لم تعبأ بعدد الضحايا الذين تساقطوا. وأدت ردود أفعاله لتحول المجتمع الدولي بأكمله ضده بما في ذلك الدول العربية الأعضاء في الأممالمتحدة التي كان بعضها لا يزال يعاني تبعات الربيع العربي. أما روسيا والصين وهما الدولتان اللتان تتمتعان بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي فقد تصادف عدم ارتباطهما بمصالح خاصة مع ليبيا بحيث لم تتواجد لديهما أسباب لنقض قرار التدخل العسكري لمناصرة المتظاهرين. من ضمن الأسباب الأخري التي مهدت لعملية تدخل عسكري ناجحة صغر حجم ليبيا من حيث المساحة ومن حيث عدد السكان، وأدي موقعها المطل علي البحر المتوسط وقربها من القارة الأوروبية إلي تسهيل الإجراءات اللوجيسيتة للتدخل العسكري بحيث لم يتردد قادة قوات الناتو أمام أخذ القرار نظراً لأن المخاطر والتكاليف المتوقعة لم تكن بالمثيرة للقلق. يري الكاتب أن وجود قوي معارضة حقيقية علي الأرض اعتبر حجر الزاوية في مكافحة القذافي، وهي القوي التي أكدت مصداقيتها بهزيمة القذافي عسكرياً. وهنا يكشف ستيوارت باتريك عن استثنائية النموذج الليبي بالمقارنة مثلاً مع ثوار التاميل في سريلانكا الذين تم التعامل معهم بمنتهي القسوة من النظام السريلانكي الذي قام بتصفية الآلاف من المدنيين ومن الثوار عام 2009 دون أن يستدعي ذلك تدخل عسكري مماثل تحت نفس مبدأ سياسة المسئولية الأمريكية لحماية المجتمع الدولي. وهذا التناقض يكشف أيضاً وجهاً آخر من قبح النجاح الأمريكي في ليبيا كما يكشف الانتقائية التي تتعامل بها الولاياتالمتحدة في سياستها الخارجية. فالسرعة التي تعاملت بها إدارة الرئيس أوباما في الرد علي تصريحات القذافي بأنه لن تكون هناك رحمة أو شفقة مع المتظاهرين تتعارض مع صمتها عن عشرات الحالات المماثلة أو الأسوأ في المجتمع الدولي. ويشير ستيوارت باتريك في هذا السياق إلي صمت الولاياتالمتحدة أمام حالات الاغتصاب التي تعرضت لها مئات الآلاف من النساء في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وهكذا تمون سياسة التدخلات الإنسانية ما هي إلا تعبير عن مصالح الإدارة الأمريكية، وترتبط بالموضع الجغرافي والسياسي للدولة التي تقرر التدخل لمساعدتها وبمواردها الاقتصادية. الوقاية من الجرائم الجماعية يتزامن هذا التوجه لإدارة الرئيس أوباما مع إصدارها لوثيقة ترسخ لسياستها المتبعة تحت إطار التدخلات الإنسانية، وهي الوثيقة التي أشرفت عليها سامانتا باور أحد مستشاري الرئيس أوباما حول الملف الليبي. الوثيقة التي صدرت في الرابع من أغسطس الماضي عرفت باسم "دليل الدراسات الرئاسية حول الجرائم الجماعية" أو PSD-10 وتعرف طرق الوقاية من الجرائم الجماعية في المجتمع الدولي علي أنها ضرورة حيوية للمصلحة الوطنية الأمريكية وعلي أنها التزام أخلاقي للولايات المتحدة في الوقت نفسه. وتحدد الوثيقة طرق الوقاية من خلال مجموعة من السياسات التي تتدرج من الدبلوماسية الوقائية للحظر الاقتصادي والمالي إلي خطوات أكثر شدة منها إرسال قوات المارينز أو التدخل العسكري. تعرضت إدارة الرئيس أوباما للعديد من الانتقادات بسبب هذه الوثيقة نظراً للتاريخ المؤسف لتدخلات الولاياتالمتحدة العسكرية وعجزها عن الحد من الجرائم الجماعية كما حدث مثلاً في كل من رواندا وكمبوديا. وانصب النقد علي التساؤل عن معني التزام الولاياتالمتحدة أخلاقياً بالمجتمع الدولي، وعما إذا كان ذلك بحد ذاته يفرض عدة أسئلة أخلاقية ألا وهي: هل علي الأمريكيين التضحية بمواردهم وأموالهم وأرواحهم من أجل التخفيف عن معاناة الآخرين في مجتمعات أجنبية؟ ما حدود التزامات الإدارة الأمريكية أمام من يقيمون خارج حدود الولاياتالمتحدة؟ وكيف يحدد صناع القرار أن المكاسب تفوق الثمن الذي تدفعه الولاياتالمتحدة؟ انتقائية السياسة الخارجية الأمريكية يشير ستيوارت باتريك إلي فشل الولاياتالمتحدة في الصومال مذكراً بأنها سحبت قواتها بعد مقتل ثمانية عشر جندياً. واليوم وبعد مرور عقدين علي هذا الفشل، لم تقرر الولاياتالمتحدة إرسال معونات للصومال لرفع المعاناة عن المواطنين الذين يمرون بأسوأ مجاعة شهدتها البلاد منذ عقود. وهنا كما في حالات أخري عديدة، يتضح التناقض الكبير بين موقف إدارة أوباما من الأزمة في ليبيا وموقفه من الأزمة في الصومال. يخلص باتريك من دراسته إلي أن الولاياتالمتحدة ستظل انتقائية في تقديمها للمساعدات الإنسانية لأنها دوماً ما تسعي إلي تحقيق نوع من التوازن بين التدخل الإنساني وبين مصالحها والتزاماتها الأخري. ويقترح باتريك أنه ربما ينبغي علي إدارة الرئيس أوباما أن تكون أكثر تحديداً في تعريف الظروف التي يتم التدخل الإنساني بسببها مثل تعرض عدد كبير من المواطنين لجرائم جماعية مثل التطهير العرقي، الاغتصاب، الطرد والتهجير، أو جرائم ضد الإنسانية. كما ينبغي التدخل فقط في الحالات التي تتمتع بها البلد بنوع من الاستقرار النسبي وليس الفوضي المسلحة، علي أن يكون اللجوء للتدخل العسكري الخيار الأخير نظراً للتكاليف والمخاطر المحيطة بهذا الخيار. ويقترح باتريك أيضاً أن يكون التدخل جماعيا وليس أحاديا وذلك لترجيح مصداقية عمل المجتمع الدولي علي محدودية المصالح الأمريكية. وأخيراً، علي الإدارة الأمريكية اتخاذ قرار التدخل الإنساني المسلح فقط في حالة ما إذا كانت قادرة علي دعم القوي المعارضة والحصول علي تأييدها لهذا التدخل إلي أن تتسلم هذه القوي زمام الأمور. قرار الإدارة الأمريكية بالتدخل في ليبيا هو بلاشك قرار شجاع من الرئيس أوباما كلفه هبوط في تأييده من 43% في شهر مارس إلي 24% في شهر يوليو. نجاح الرئيس أوباما في ليبيا ربما يعيد إلي حين الثقة في سياسات إدارة أوباما الخارجية غير أن هذه الثقة سرعان ما ستزول أمام الانتقائية التي ستتعامل بها إدارة أوباما مع قرارات تدخلها أو عدمه في حالات الجرائم الجماعية في الصراعات المستقبلية.