دعت الساحة الثقافية العربية والليبية الشهر الماضي الكاتب والمفكر الليبي الكبير د. علي فهمي خشيم رئيس مجمع اللغة العربية الليبي الذي وافته المنية في مدينة هامبورغ، بألمانيا، بعد صراع طويل مع المرض.. وبعد أن كانت آخر زيارة له من زياراته المتعددة لمصر للمشاركة في مؤتمر بمكتبة الإسكندرية في أكتوبر الماضي. يعد د.خشيم أحد الرموز الثقافية البارزة في ليبيا والوطن العربي، حيث جاوزت مؤلفاته الأربعين كتاباً؛ بين ترجمة وتأليف، وتتميز كتبه بالتنوع بين علم الكلام والفلسفة واللسانيات والخواطر الأدبية والسيرة الذاتية. ولد الفقيد بمدينة مصراتة عام 1936، وتخرج في كلية الآداب بالجامعة الليبية عام 1962، تخصص فلسفة، ونال درجة الماجستير في الفلسفة من كلية الآداب من جامعة عين شمس، ثم حصل علي درجة الدكتوراة، في تخصص الفلسفة، من كلية الدراسات الشرقية جامعة درم - بريطانيا عام 1971. عمل الراحل، في بداية حياته الأكاديمية، محاضراً بكلية آداب الجامعة الليبية، في بنغازي، وفي جامعة طرابلس، وفي مركز بحوث العلوم الإنسانية بطرابلس. وشغل العديد من المناصب علي مدار حياته فكان أمين عام مجمع اللغة العربية، ووكيل وزارة الإعلام والثقافة، في ليبيا، خلال الأعوام 1971- 1972، بالإضافة إلي موقع نائب رئيس المجلس التنفيذي لليونسكو، في باريس، ما بين 1980 - 1987، ومن أبرز مؤلفاته: "النزعة العقلية في تفكير المعتزلة: دراسة في قضايا العقل والحرية عند أهل العدل والتوحيد"، و"حسناء قورينا: مسرحية"، و"الجبائيان: أبو علي وأبوهاشم : بحث في مواطن القوة والضعف عند المعتزلة في قمة ازدهارهم وبداية انهيارهم"، و"نصوص ليبية: ترجمة لكتابات مشاهير المؤرخ". يعتبر المؤرخ والباحث اللغوي الليبي الدكتور علي فهمي خشيم من العقليات اللغوية والموسوعات العربية المتحركة التي أخذت علي عاتقها مهمة الغوص في هذا الموروث اللغوي والانشغال بتأصيله من المحيط إلي الخليج. لم يكتف د. خشيم بكل ذلك وإنما حاول من خلال مؤلفاته العديدة والكثيرة المتميزة والثرية أن يرجع أصول لغات أخري لمجتمعات لها علاقة بالتاريخ العربي ومجتمعه إلي اللغة العربية معشوقته التي يتغني بها دائما. بين عروبة الهيروغليفية والقبطية يعتبر كتاب "آلهة مصر العربية" الذي صدر في عدة طبعات: الأولي بالدار البيضاء نشرته بالاشتراك الآفاق الجديدة اللبنانية والدار الجماهيرية الليبية، والثانية في القاهرة عن طريق الهيئة المصرية العامة للكتاب، والثالثة منذ شهور عن دار الحضارة العربية بالقاهرة. في ذلك الكتاب الذي استغرق جمع مادته وتأليفه نحو عشر سنوات وطبع طبعته الأولي منذ 13 عاما، تركز اهتمامه علي إثبات عروبة اللغة المصرية القديمة -التي تسمي خطأ الهيروغليفية وهي الكتابة وليست اللغة- في مجلدين كبيرين، مستنداً إلي مجموعة كبيرة من المراجع والمصادر ومستعيناً بآراء سابقة حول هذا الموضوع، ومتوسعاً بشكل ملحوظ في إثبات هذه المقولة "عروبة أهل مصر القدماء ولغتهم ودياناتهم أيضا". أما القبطية -فلا شك وكما يعتقد د. خشيم- انها ابنة المصرية القديمة مع عدد لا بأس به من المقترض اليوناني خاصة في المجال الديني، فإذا ما تمت البرهنة علي عروبة لغة المصريين القدماء بصورة علمية فإن ما يتبع هذا هو عروبة القبطية ولابد إذن من تقديم الدليل علي هذا القول، وهو ما قام به في كتابه "القبطية العربية"، ليس من حيث الألفاظ والمفردات فقط وإنما أيضا من حيث القواعد والتصريف وأسس المقارنة اللغوية كأسماء الأعداد وأفراد الأسرة وأعضاء الجسم وما في الطبيعة من مظاهر لا تخضع للاستعارة والاقتراض. إذا كانت المصرية القديمة لغة ميتة -أو منقرضة- لا يهتم بها سوي المختصين فإن القبطية لا تزال حية خاصة في الكنيسة والحياة الدينية. وكما فعل في كتابه "سِفْر العرب الأمازيغ" الذي صدر منذ سنوات في مجلدين، فإنه سعي إلي البرهنة علي أن القبطية ليست إلا أختاً شقيقة للعربية كما دلل علي أن الأمازيغية (البربرية) أخت شقيقة لها أيضا . منهجه في التأصيل اللغوي المنهج العلمي اللغوي الذي يتبعه د. خشيم هو المقارنة والعودة إلي الجذور الأولي في اللغات المقارنة، وهذا يتطلب أولاً معرفة اللفظ ومعناه وتطور دلالته وما دخل عليه من تحوير وتبديل أو قلب مكاني أو إبدال أو تعاقب أصوات، ثم الاستعانة بما في المعاجم العربية من جذور (مواد) بات أغلبها من المهمل أو الممات، والاستعانة أيضاً بمعاجم اللغات العروبية المكتشفة كالأكادية والكنعانية والسبئية ونحوها، وكذلك بما في اللهجات الدارجة المعاصرة مما لم تسجله المعاجم، ويجب ألا يرسل القول علي عواهنه كما يقال، ولا يكفي مجرد التخريج اللفظي والمقابلة المتعجلة دون دليل من مرجع أو مصدر موثوق به. لقد صار علم اللغة المقارن علماً قائماً بذاته واهتم به الغربيون كذلك، ولذا نجد لديهم ما يسمي "المعاجم الاشتقاقية" أو التأصيلية التأثيلية يرجعون فيها ألفاظ لغاتهم إلي أصولها الأولي في مثل السنسكريتية ونحوها، وهذا -للأسف كما يعتقد د.خشيم- لم يتيسر بعد في اللغة العربية. منهجه إذن تحليلي مقارن، يحلل اللفظة القبطية مثلاً ليرجعها إلي أصلها المصري القديم ويقارنها بعدها بالعربية، فإن كان اللفظ يونانياً أعيد إلي اليونانية، وكثيرا ما يكون له مكافئ أي مقابل عربي بسبب صلة اليونانية باللغات العربية. أهم نتائج أبحاثه أولاً- توصل إلي أن العربية أقدم اللغات أو قل إنها ممثلة أقدم اللغات، إن لم تكن اللغات الإنسانية فالعروبية علي الأقل. ثانيا- إن ما يسمي لغات الوطن العربي القديم (من بابلية وأكادية وآشورية وحبشية.. إلخ، ليست إلا لهجات، تماما كما هو حال اللهجات السورية والعراقية والخليجية والتونسية والحسانية (الموريتانية) والسودانية والليبية والفلسطينية واليمنية.. إلخ، في وقتنا الحاضر. وتندرج تحت هذا البند -بالطبع- اللهجات الأمازيغية (البربرية) والنوبية والقبطية والسريانية والشحرية والحضرمية. ثالثا- وحدة لغات (لهجات) الوطن العربي القديم تدل علي وحدة شعوبه إلي جانب وحدة تراثه الديني والثقافي، وهو مجال بحث آخر. وطبقاً لذلك فإن القول "بتعرّب" أو "تعريب" ما عدا الجزيرة بعد الإسلام قول خاطئ من أساسه.. ببساطة لأن هذه الشعوب كانت عربية منذ فجر التاريخ وليس بعد الإسلام فحسب. رابعا- المشكلة في كلمة "عرب" التي خصت أهل الجزيرة أنها ذات مدلول واسع شامل يمكن إطلاقها علي أي شعب "عارب" أي بدوي، لذا يفضل د.خشيم مصطلح "عروبية" لتشمل الجميع بمن فيهم عرب الجزيرة. خامسا- إن للعربية أو العروبية وجودها الظاهر وأثرها العميق فيما يدعي "اللغات الهندية الأوروبية" وخاصة اليونانية واللاتينية مما بينه في كتابه "اللاتينية العربية"، وهو مجال خصب للدرس والبحث والمقارنة يؤدي إلي أعمق النتائج وأبلغها أثراً. العربية تستوعب كل العلوم يتردد كثيراً هذا السؤال.. هل العربية تستطيع استيعاب كل العلوم؟ ويجيب عنه د. علي فهمي خشيم من خلال دراساته حيث أثبت أن عدداً كبيراً مما يسمي "المصطلحات العلمية" والمعقدة أصله عربي، وخاصة في كتابيه "رحلة الكلمات الأولي ورحلة الكلمات الثانية"، وكتابه "هؤلاء الأباطرة.. ألقابهم العربية". ويضرب مثلاً صغيراً سهلاً: كلمة سينماcinema أصلها من اليونانيةkiema والمقطع ma زائد، والأصلkine يمعني الحركة والحدوث والوجود لارتباط الحركة بالحدوث والوجود. قد احتجَّ الفيلسوف أفلاطون في محاورته "أكراتيلوس" علي كلمة kine في اللغة اليونانية، قائلاًً إنها أجنبية والصواب أن يقال «jos وجود».. ونسي أفلاطون أن هذه هي ذاتها العربية، وهو لم يعرف أن kine من الكنعانية (ك و ن) والعربية (كون) التي يقول عنها الجرجاني في "التعريفات": الكون الوجود والكون الحركة. إذن فالعربية من وجهة نظر د. خشيم قادرة، بل هي أقدر من غيرها علي استيعاب كل العلوم دون شك. هل يمكن أن تقدر اليابانية والتاميلية ولغة "نيام نيام" ولا تقدر العربية؟! جميع لغات الدنيا قادرة علي استيعاب العلوم فِلمَ لا تقدر العربية يا تري؟! ويؤكد الراحل الكبير أن هناك من يري غير ذلك فلْىَرَ ما يري، إنه ينطلق إما من جهل بلغته العربية أو تأثر بالأجنبي -وهذا هو الاستلاب- أو من «عقدة خواجة». في الإنجليزية تعبير واحد أو علي الأكثر تعبيران عن الكحة، وفي العربية أكثر من 20 تعبيراً، ذلك أن كحة البرد تختلف عن كحة المرض في الرئة مثلاً، وهناك كحة الهزء وكحة الإشارة وكحة التنبيه والكحة الخفيفة والكحة الثقيلة. إن السعال يختلف عن الكحاح، كما تختلف كحة الوهن عن كحة الإنسان الصحيح المعافي.. إلخ. من يري عكس ذلك من وجهة نظر د. خشيم فهو إما جاهل أو مستخف أو مريض أو فاقد الإحساس بقوميته وعمادها اللغة، فليتعظ هؤلاء بالعدو الصهيوني وما فعله حين أحيا لغة ميتة -هي في الأصل ابنة العروبية الكنعانية- ولم يقل أحد إنها لا تقدر علي استيعاب كل العلوم.