بعد سياسة احتواء الاتحاد السوفييتى التى يصورها جورج كينان الذى كانَ لسنوات عضوًا فى قسم الشئون الخارجية للولايات المتحدة. وكمُخططٍ للسياسات الخارجية فى أواخر الأربعينيات والخمسينيات، وأعتبر «مهندسَ» الحرب الباردة بدعوته لاحتواء الاتحاد السوفييتي.. وذلك فى برقيته المؤرخة فى فبراير 1946 والتى عبر عنها هارى ترومان فى خطابه الذى ألقاه فى 12 مارس 1947 أمام الكونجرس، فإن تفكير زبجنيو بريجنسكي، القائم على سياسة التراجع، أصبح محور السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الاتحاد الروسي. بدأ كل شيء خلال اللقاء الذى عقد فى موسكو بين ميخائيل جورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفييتي، ووزير الخارجية الأمريكى جيمس بيكر، فى 9 فبراير 1990، حول إعادة توحيد ألمانيا. وبحسب الشهادات والمحاضر، يبدو أن هناك التزامًا أمريكيًا شفهيًا بما يجب أن يكون عليه موقف الناتو. كان هذا الالتزام خاصًا بإعادة توحيد ألمانيا «أعلن هيلموت كول، الذى وصل إلى موسكو فى اليوم التالي، 10 فبراير 1990، أن -الناتو لا ينبغى أن يوسع نطاقه». بالنسبة للولايات المتحدة، كان الأمر يتعلق بالتخلى عن أى وجود لقوات حلف شمال الأطلسى خارج الخط الذى يفصل بين الألمانيتين. فى عام 1990، إذا كان الاتحاد السوفييتى قد خسر المنحدر الذى حصل عليه ستالين فى يالطا، فإنه ظل، على الأقل ظاهريًا، إحدى القوتين العظميين اللتين كان من الصعب التنبؤ بتفككهما الوشيك. جورج كينان اختفى الاتحاد السوفييتى بعد قرار تقسيمه الذى اتخذ فى مينسك فى 8 ديسمبر 1991 من قبل زعماء الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية الثلاث: روسياوبيلاروسياوأوكرانيا، فى حين أن بعض جمهوريات الاتحاد الخمسة عشر بما فى ذلك أوكرانيا قد أعلنت بالفعل استقلالها، قدم الاتحاد الروسى الجديد نفسه وريثًا له. من الناحية القانونية، استحوذ على المقعد الدائم لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية فى مجلس الأمن كما استحوذ على مكانة الاتحاد السوفيتى فى المنظمات الدولية الأخرى «تجدر الإشارة إلى أنه خلال فترة الاتحاد السوفييتي، كانت بيلاروسياوأوكرانيا أعضاء فى الأممالمتحدة بالفعل». وهكذا، أصبح الاتحاد الروسى وريث الاتحاد السوفييتى ولكن أيضًا للإمبراطورية القيصرية التى حلت محل الإمبراطورية الأولى، احتفظ الاتحاد الروسى بمساحة شاسعة من الأراضي، وهى الأكبر من بين جميع الدول على هذا الكوكب، ولكنها تقلصت بشكل كبير لأن حدودها كانت أقل من تلك التى تركتها كاثرين الثانية وبطرس الأول.. ومع ذلك، من خلال إنشاء مجتمع الدول المستقلة، كانت روسيا تطمح إلى الحفاظ على التفوق فى المساحة الإقليمية السابقة لنيكولاس الثانى وستالين. فلاديمير بوتين الاتحاد الروسى بقيادة يلتسين سوف يمر ما يقرب من عقد من الزمن قبل أن يستقر الوضع فى الاتحاد الروسى الجديد مع وصول فلاديمير بوتين أولًا كرئيس للوزراء ثم كرئيس. وإذا كانت هناك فوضى اقتصادية واجتماعية داخلية، فإن الوضع الدولى للبلاد لم يكن خاليًا من التطور بسبب موقف الولاياتالمتحدة تجاهها. يجسد وزيرا الخارجية المتعاقبان هذا التطور: أندريه كوزيريف «حامل حقيبة الوزارة من 11 أكتوبر 1990 إلى 5 يناير 1996»، ثم يفجينى بريماكوف «10 يناير 1996 - 11 سبتمبر 1998». وكان الأخير رئيسًا للوزراء فى الفترة من 11 سبتمبر 1998 إلى 12 مايو 1999. وبعد تحرره من سبعين عامًا من العمل الجماعى والاهتمام بالتنمية الاقتصادية، تميز الاتحاد الروسى فى عهد كوزيريف بالرغبة فى التقارب مع الغرب والولاياتالمتحدة، وحصل على رأى إيجابى فى المجتمع. ولم يكن رد فعل الغرب على مستوى التوقعات سواء فى المساعدات الممنوحة أو فى الموقف الدولى المعترف به. لدرجة أنه خلال الانتخابات التشريعية عام 1995، فاز الحزب الشيوعى ب157 مقعدا من أصل 450 مقعدا فى الدوما، ما مكن الأحزاب المتحالفة، من انتخاب نائب شيوعى لرئاسة الدوما. ومع ذلك، أعيد انتخاب بوريس يلتسين فى 3 يوليو 1996 لولاية ثانية مدتها أربع سنوات. بعد الانتخابات التشريعية، تم تعيين يفجينى بريماكوف وزيرًًا للخارجية فى 10 يناير 1996. وبعد أن شغل منصبًا رفيعًا داخل الكى جى بي، كان خط عمل هذا المتخصص فى العالم العربي، الذى يتحدث لغته بطلاقة، هو الدفاع عن المصلحة الوطنية. لكن بالنسبة لروسيا، خلال الفترة التى مارس فيها بريماكوف منصبه الوزارى ومن ثم رئيس الوزراء، تم تقويض هذه المصلحة الوطنية بسبب القرارات والإجراءات التى اتخذها الناتو. فمن ناحية، كان ذلك أول توسع فى عام 1999، ليشمل الأعضاء السابقين فى حلف وارسو والمجر وبولندا وجمهورية التشيك والتفجيرات ضد صربيا فى ربيع عام 1999. وحتى قبل هذه الأحداث، وفهم ماهية رؤية الولاياتالمتحدة للنظام العالمى ورغبتها فى السيطرة عليه دون منازع، كان لدى بريماكوف تصورًا لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية لبلاده وأسس للتوازن فى العلاقات الدولية دون أن يتم إضفاء الطابع الرسمي. إن ما سمى ب«مبدأ بريماكوف» كان يقوم على نظام دولى متعدد الأقطاب تعمل روسيا ضمنه على عدة محاور بينما تندمج اقتصاديًا فى العولمة المستمرة. بعد فترة فاصلة دامت ثلاثة أشهر، حل سيرجى ستيباشين محل يفجينى بريماكوف كرئيس للحكومة الروسية «12 مايو - 9 أغسطس 1999»، تم تعيين فلاديمير بوتين رئيسًا للوزراء فى 9 أغسطس 1999. وعين، بموجب الدستور، رئيسًا للاتحاد الروسى، فى 31 ديسمبر 1999، بعد استقالة بوريس يلتسين، تم انتخابه رئيسًا رسميًا فى 26 مارس 2000. كانت المسألة فى البداية مسألة استعادة النظام الداخلى الذى قوضه الانهيار الاقتصادى والفساد والانفصال الشيشاني. فى الخارج، كان هذا الضابط السابق فى الاستخبارات السوفييتية، والذى كان رئيسًا لفرع دريسدن وقت سقوط جدار برلين، يطمح إلى استعادة القوة الروسية. وقد اشتمل على عدة وجهات نظر: تلك التى ركزت على الروابط بين الاتحاد الروسى والجمهوريات السابقة التى شكلت الاتحاد السوفييتي، والتى أصبحت مستقلة؛ والعلاقة مع الغرب، وقبل كل شيء، مع الولاياتالمتحدة؛ ولم تتمكن روسيا من تطوير علاقاتها مع الصين إلا فى ظل صعود اقتصادى كامل؛ وأخيرًا، باعتبارها عضوًا دائمًا فى مجلس الأمن، تشعر بالقلق إزاء وضعها الدولي، وكان لزامًا عليها أن تلعب دورًا فاعلًا على المسرح العالمي. الاتحاد الروسى و«الخارج القريب» بعد تفكك الاتحاد السوفييتى الذى خططت له الاتفاقية الموقعة فى 8 ديسمبر 1991 فى مسكن يقع فى غابة بيلوفيج بالقرب من مينسك، قرر الموقعون الثلاثة إنشاء رابطة الدول المستقلة. لقد ضمت فى الأصل اثنتى عشرة من الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية الخمسة عشر السابقة. رفضت دول البلطيق الثلاث، التى ضمها الاتحاد السوفييتي، فى يونيو 1940 الانضمام. وبعد ذلك، انسحبت جورجيا وتركمانستان وأوكرانيا من المنظمة. وفى هذا "الجوار القريب»، بحسب تعبير الدبلوماسية الروسية، بالإضافة إلى دول البلطيق، بتاريخها الخاص، والتى نالت استقلالها الأول عام 1918، لا بد من التمييز بين ثلاث مجموعات جغرافية. من الغرب بيلاروسياوأوكرانيا ومن الجنوب جمهوريات القوقاز مع جورجياوأرمينيا وأذربيجان ثم جمهوريات آسيا الوسطى «كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان» وتقع فى وسط أوراسيا، وبعضها يمتلك موارد هيدروكربونية كبيرة، وخاصة كازاخستان، ومع إنشاء طرق الحرير الجديدة، وعبور هذا الفضاء الأوراسى جعلها قضية جيوسياسية إقليمية إن لم تكن عالمية. جنوب القوقاز أو عبر القوقاز، مفترق طرق الحضارات ومكان المواجهة بينها، هو مساحة دائمة من عدم الاستقرار حيث يحتفظ الاتحاد الروسى بوجود فى أرمينيا التى تشهد غزوًا إقليميًا تدريجيًا من أذربيجان، بدعم من تركيا التى تسعى إلى اختراق المنطقة الناطقة بالتركية فى آسيا الوسطى. وإلى الغرب من المنطقة، على الحدود مع البحر الأسود، تقع جورجيا، التى تتجه جزئيًا نحو الغرب كما يتضح من علاقتها مع حلف شمال الأطلسى دون أن تنفصل عن سيدتها الروسية السابقة. ويتجلى ذلك فى التناقض على رأس الدولة بين رئيسة الجمهورية الموالية للغرب، سالومى زورابيشفيلى وحكومة مدعومة بأغلبية برلمانية، حيث تلقى خطابا مؤيدا لحلف شمال الأطلسى والاتحاد الأوروبي. لكنها لم تدن غزو أوكرانيا. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تطمح إلى ترسيخ وجودها هناك، على الأقل من خلال تحالف مغلق حسب الأصول وربما من خلال القواعد، فإن المستقبل لا يزال غير مؤكد.
الولاياتالمتحدةوروسياوأوكرانيا ومع ملاحظة أن غزو الجيش الروسى لأوكرانيا، فى 24 فبراير 2022، هو عمل عدوانى ينتهك القانون الدولي، فإن التحليل يتطلب منا أيضًا دراسة العوامل الكامنة وراء تطوره فى العلاقة مع الولاياتالمتحدة وتركيا.. ولا يشكل هذا بأى حال من الأحوال مبررًا لما يبدو أنه خطأ سياسى من جانب روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، بل لإظهار أن أمريكا لا تستطيع أن تدعى أى تجسيد للفضيلة والخير. منذ التسعينيات، كان هدف واشنطن هو ضمان الهيمنة الكوكبية والتفوق الاقتصادى اللازم لراحتها المادية. كما أنها مشبعة أيضًا بشعور مسيحاني، واعتقدت أنها تستطيع تشكيل العالم وفقًا لقيمها الخاصة، غير مبالية بواقع مختلف مجالات الحضارة والثقافات والعادات التى تكمن وراءها. فى مواجهة وضع داخلى كارثي، ومصمم بالتأكيد على إعادة تأسيس القوة الروسية التى وصلت إلى ذروتها خلال فترة الاتحاد السوفييتي، أظهر فلاديمير بوتين نفسه، فى السنوات الأولى، على أنه يميل إلى حد ما تجاه الولاياتالمتحدة. لقد قدم لهم الدعم بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. وهكذا تمكنت طائرات القوات الجوية الأمريكية من التحليق فوق آسيا الوسطى لإعادة إمداد قواتها الموجودة فى أفغانستان ولديها قاعدة فى ماناس فى قيرغيزستان. ومع ذلك، فى عام 2003، عارضت غزو العراق فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وبهذا انضمت إلى فرنسا صاحبة الدور القيادى فى هذا الوضع، وألمانيا فى عملية استهدفت، بذرائع واهية، إخضاع الشرق الأدنى والأوسط لأمريكا. وفى نوفمبر 2004، ومع «الثورة البرتقالية» فى كييف، أصبح من الواضح أن الروس والأمريكيين لا يمكنهم إلا أن يعارضوا بعضهم البعض من أجل مصالحهم. فالأولون يريدون الحفاظ على نفوذهم الطاغى على الدولة التى يعتبرونها المهد التاريخى لروسيا، أما الثانى فيطبق فى الواقع الرؤية التى صاغها زبيجنيو بريجنسكي. كان الهدف من هذه «الثورة» هو الطعن فى النصر الذى حققه فيكتور يانوكوفيتش، وهو من أنصار روسيا، فى الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، ضد فيكتور يوشتشنكو، الذى اشتهر بأنه أقرب إلى الغرب وله قاعدة انتخابية فى غرب البلاد. وتعكس هذه المعارضة السياسية الواقع الأوكرانى وتاريخه. أوكرانيا دولة بلا حدود طبيعية من الشرق والغرب.. على مر التاريخ، وبسبب التقدم والنكسات، تم نقل الحدود. بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، ضمتها الإمبراطورية الروسية من خلال فتوحاتها ضد بولندا «معاهدة أندروسوفو لعام 1667 وتقسيم بولندا فى عامى 1772 و1793» وضد الإمبراطورية العثمانية «معاهدة كوتشوك كاينارجا بتاريخ 21 يوليو 1774». أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، ضم ستالين إلى أوكرانيا مقاطعات جاليسيا وبوكوفينا الشمالية وروثينيا، وتم دمجها فى الإمبراطورية النمساوية المجرية حتى عام 1918. وتحت ضغط المظاهرات فى الشوارع، تم تنظيم انتخابات رئاسية جديدة شهدت فوز فيكتور يوشينكو. تشكل هذه المبارزة بين المرشحين بالوكالة للسيطرة الجيوسياسية على أوكرانيا جزءًا من الإطار الأوسع لتوسيع حلف شمال الأطلسى ليشمل الدول الأعضاء السابقة فى حلف وارسو وجمهوريات البلطيق، وهو التمديد الذى تم تنفيذه مرتين، فى مارس 1999 وفى مارس 2004. وبطبيعة الحال، كان هناك إنشاء مجلس الناتو لمواجهة روسيا، لكن تبين أن ذلك لم يحقق نتائج مهمة. تعود العودة إلى المعارضة المعلنة صراحة بين روسياوالولاياتالمتحدة إلى 10 فبراير 2007، مع الخطاب الذى ألقاه فلاديمير بوتين فى المؤتمر الخامس والأربعين حول السياسة الأمنية الذى عقد فى ميونيخ. وندد بالأحادية الأمريكية وتوسيع حلف شمال الأطلسي. منذ تلك اللحظة، زاد تدهور العلاقات مع مرور الوقت. وفى أغسطس 2008، قام الرئيس الجورجى ميخائيل ساكاشفيلى بشكل متهور باتخاذ إجراء عسكرى ضد أوسيتيا الجنوبية بعد تصاعد الحوادث على الحدود. وكان الرد الروسى فوريا. وبعد خمسة أيام من القتال وتقدم الجيش الروسى الذى هدد العاصمة الجورجية تبليسي، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار تحت رعاية نيكولا ساركوزي. ولم يكن بوسع الولاياتالمتحدة، التى كانت عالقة فى العراق آنذاك، إلا أن تكتفى بوساطة فرنسا، التى يرأسها ساركوزى وهو حليف مخلص يتمتع بسلطة مزدوجة كعضو دائم فى مجلس الأمن ورئاسة مجلس الاتحاد الأوروبى لمدة ستة أشهر. .. ونستكمل الثلاثاء المقبل فى العدد الأسبوعى ميشيل لوبلاى: مدير البرامج فى إذاعة كورتوازي. وفى هذا النص المتعمق، يلقى نظرة متعمقة على الصراع بين روسياوأوكرانيا والتدخلات العسكرية الغربية فى عدة دول بالشرق الأوسط وفى أفغانستان. ويقدم من خلال عرضه، تحليلًا يستحق القراءة بعناية لاستخلاص الدروس.